| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

 

الأربعاء 4/5/ 2005

 

 

حدث هذا قبل نصف قرن - القسم الاول

أصعب عام في العهد الملكي المباد 

( 1- 4 )

                                                      

 جاسم الحلوائي

كان عام 1955 أصعب وأقسى عام على العراق والحركة الوطنية فيه ، بكل أحزابها السياسية، وكذلك على المنظمات الديمقرطية والمهنية في العهد الملكي المباد، في نظري. ولديّ في هذا العام بالذات ذكريات شخصية مهمة؛ بعضها قاس وبعضها الآخر طريف وأخرى قد تدعو الى التأمل! وهذه الذكريات أسجلها نزولا عند رغبة الكثير من الأحباب والأصدقاء والمعارف، الذين يطلبون مني أن أكتب ذكرياتي، واليهم اهديها.

ولتفهم أفضل لتلك الذكريات لابد من القاء الضوء على الأجواء السياسية التي حدثت فيها، ولو بتركيز شديد. في صيف 1954 اصبح نوري السعيد رئيساً للوزراء من جديد. وقد أصدر من 22 آب الي 12 تشرين الأول، جملة مراسيم تعسفية، أشتهرت بإسم (المراسيم السعيدية)، وكانت معادية لأبسط الحقوق الديمقراطية ومخالفة بوقاحة لدستور البلاد. وقد بدأ هذه المراسيم بحل المجلس النيابي، الذي لم يعقد سوى جلسة واحدة إنتخب فيها رئيسه. وهذا المجلس، هو المجلس الوحيد الذي أنتخب ببعض الحرية في العهد الملكي، وكان في عهد وزارة أرشد العمري. وضّم أحد عشر نائبا من الجبهة الوطنية.  وحلّ نوري السعيد كذلك ليس الأحزاب ألمجازة حسب ، بل حلّ جميع الجمعيات المجازة بمختلف أنواعها واغراضها ايضا. والغى إمتيازات جميع الصحف ؛ واجازفقط ثلاث صحف موالية للحكومة. والزم السجناء الشيوعيين الذين ينهون محكومياتهم بإعطاء براءة من السيوعية والتعهد بخدمة الملك وإلا فتسقط الجنسية العراقية عنهم. وقامت حكومته فعلا بإسقاط الجنسية عن عدد من الشيوعيين والديمقراطيين. وقد سُفر المحاميان المشهوران توفيق منير نائب رئيس نقابة المحامين و كامل القزانجي الى تركيا، بعد إسقاط الجنسية عنهما. بل واسقطت الجنسيةعن عدد من الوطنيين ممن كانوا خارج البلاد وهم عزيز شريف وصفاء الحافظ  وكاظم السماوي وعدنان الراوي. وبادرت حكومة نوري السعيد بشن حملة إعتقالات واسعة في صفوف القوى الوطنية. وفصل عدد كبير من اساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين والموظفين والطلبة ذوي الميول الوطنية والديمقراطية وحجزوا في معسكرات  تحت عنوان إداء الخدمة العسكرية. و باتت (البراءة) من الشيوعية مطلوبة للدخول الى الجامعة ، حتى ولو كان المرء قومياً !؟ وكان جلياً بأن كل هذه الإجراءات هي مقدمة وتمهيدً لربط العراق بالأحلاف العسكرية الأمبريالية. وعلى اثر تلك الإجراءات بدأت الحركة الوطنيةالديمقراطية تدخل في جزر. وهذا ما ميّز عام 1955 .

في سياق حملة نوري السعيد المعادية للقوى الوطنية بُلغنا، في بداية 1955، انا وكاظم حبيب، وكان آنذاك في السنة النهائية من الأعدادية ، من قبل محكمة جزاء كربلاء بموعد لمحاكمتنا وفقً مادة تخص المشردين!!!،. أقنعت  مسؤولي الحزبي حزام عيّال بأن نهتف في المحكمة إحتجاجاً،لاسيما وإن المحاكمة تجري بدون أدلة مادية. وبعد مناقشة المقترح إتفقنا أن يتم التنفيذ في حالة صدور حكم علينا من ستة اشهر فما فوق، وفي حالة حضور ما لايقل عن إربعين شخصا جلسة المحاكمةً. وقد طلب مني حزام أن أبلغ كاظم بذلك، إذ ليس لديه موعد معه قبل المحاكمة لكي يبلغه بنفسه. في يوم المحاكمة حضر حوالي 40 شخصاً، فإتفقنا، انا وكاظم، بان احد الشروط بات متحققا. حكمت علينا المحكمة ستة اشهر سجن مع وقف التنفيذ، على أن يطلق سراحنا بكفالة قدرها 100 دينار. وبسبب ثفل سمعي، ولرغبتي في تحدي طغيان الحكومة وتعسفها، لم يصل الى سمعي سوى "ستة اشهر سجن" فهتفت : تسقط المحاكم الصّوريةً...يسقط الحلف التركي ـ الباكستاني؛ فالتفت كاظم نحوي مندهشا، مدركا ًالألتباس الذي حصل ، حاسماً موقفه بالتضامن معي رافعًا صوته هو الآخر بالهتاف. أحاطنا رجال الأمن اغلقوا فمي واخذوا يضربونني في بطني وخاصرتي بطريقة غير مرئية للآخرين. قادونا الى غرفة التحقيقات وإنهالواعليًّ ضرباً وركلاً وشتماً. وكان كاظم واقفاً محمّر الوجه ينظر اليهم بغضب.

أخذونا الى الموقف في غرفة لوحدنا. كان كاظم حزيناً لأنهم ضربوني ولم يضربوه ؟! فما كان منيّ الا أن أواسيه بالقول:"لاتخف سيأتي يومك" وصدق قولي فقد تعرض كاظم،لاحقاً، لأكثرمن مرة للتعذيب القاسي في حياته. في التوقيف إضطررنا لإستحداث فقرة معينة في حياتنا اليومية ــ  لم يكن بودي التطرق اليها لولا نشرها من قبل كاظم في احاديثه عن ذكرياته للأنصار في كردستان العراق ــ وهذه الفقرة هي ، إن إحدى القواعد التي كان معمولاً بها في موقف كربلاء هي إخراج الموقوفين باكراً ، وقبل الفطورالى (التواليت)؛ في حين كنا، كالعادة، بأمس الحاجة ل(التواليت) بعد الفطور؛ فوجدنا حلآً للمشكلة ،وهو أن يتغوط واحد منًا في إحدى زوايا الموقف في جريدة ، بعد ذلك يصعد على كتف الثاني ليرمي الجريدة ومحتوياتها من الشباك الصغير، العالي والمطل على الحديقة. وكنا نعلق ،ساخرين،دع الحديقة تتسّمد!                           

تعرض كاظم لضغوط كبيرة لكي يتخلى عن الطريق الذى إختاره بإعطائه (البراءة). ووُعد من قبل عائلته بإرساله الى امريكا عند اخيه الأكبر، الذى كان يدرس هناك، ولكنه رفض ذلك بشكل حاسم . في التوقيف استغنيت، بطلب من كاظم، عن الأكل الذي كان يُرسل من بيتنا ؛ لأن ما كان يرسل له يكفينا ويزيد. وماكان يرسل لي كان بسيطاً. ولأول مرة، كنت أكل طعاما ًبتلك الجودة واللًذة .كنت أكل وأهجو البرجوازية،لأغيظ كاظم، مازحاً .

قرروا تنفيذ الحكم (ستة أشهر) بحقنا. وتقرر تسفيرنا الى سجن الحلة بإعتباره سجناً لمنطقة الفرات الأوسط. عند تسفيرنا الى سجن الحلة، خرج جمع من الطلبة مع بعض الأهالي ليلقواعلينا نظرة وداع في محطة القطار، وكانت جدتي معهم تقّوي معنوياتي وقد عبرت عن ذلك بقولها وعلى رؤوس الأشهاد (بالعربان ولا بالتربان) وكان كاظم يغبطني على ذلك ، لعدم وجود من يتعاطف مع إتجاهه السياسي في عائلته .

 في سجن الحلة ادخلونا المحجر. وكانت هناك مجموعة من  السجناءالشباب من النجف.  قضينا شهراً وبضعة ايام، ورُحلنا عائدين الى كربلا. عند وصولنا علمنا بأنهم ينوون إرسالنا الى معسكر الشعيبة، وقد فتح هذا المعسكر لحجز الطلبة السياسيين المفصولين، تحت عنوان إداء الخدمة العسكرية. بناء على هذه المعلومة أرسلت خبراً الى والدي بان يجلب لي دفتر الخدمة العسكرية وينتظرني في باب مديرية التجنيد صباح اليوم التالي. وهكذا اخذت الدفتر عند دخولي المديرية. القى علينا أحد الضباط محاضرة، وانهاها بأن خيّرنا، بين إعطاء (البراءة) ومن ثم يمكننا العودة الى المدرسة، أو الحاقنا بالجيش لأداء الخدمة العسكرية. وقد فوجئ عندما عرف بأنني مسّرح من الجيش لأدائي الخدمة العسكرية .اخذ الضابط دفتري واخبرني بأني سأستلمه من الشرطة. بعد عودتنا إلى مركز الشرطة، بُلًغ كاظم بانه سيسفر الى الشعيبة، وبلغت أنا بتدبير كفيل لأطلاق سراحي بكفالة. وفي الحال تكفلني والدي وأطلق سراحي، بعد أن أعادوا لي دفتر الخدمة.

ودّعت كاظم وكان فرحا لإطلاق سراحي وكانت معنوياته عالية.علق الحاج حبيب (والد كاظم) على إطلاق سراحي بالقول" آني أصرف فلوس والنتيجة يطلع إبن الحلوائي وإبني يبقى  بالسجنً". عرفنا بعدئذٍ بان والد كاظم أعطى رشاوي لأنقاذ إبنه ولكن الطبيعة القانونية للدعوة (مشتركة) استدعت شمولي بالنتائج الأيجابية. علما بان والد كاظم كان غنياً فهو مالك لمصانع ثلج ومطاحن. بعد بضعة أسابيع قُدمنا الى المحكمة حول الهتافات بقضيتين؟! الأخلال بالأمن العام وإهانة المحكمة؛  فحكمت بموجب الأولى  ثلاثة اشهر والثانية شهرواحد على ان تنفذ بالتعاقب، وحكم على كاظم لشهرواحد على القضية الثانية فقط. ولأنه سبق وأن قضى اكثر من شهرفي السجن فقد أعيد الى الشعيبة (وهكذا لم تذهب فلوس الحاج حبيب هباءً)  أما أنا فقد سُفرت الى سجن الحلة.

كان عبد الجبار أيوب، المسؤول المباشر الأول عن مجزرة سجن الموقف في بغداد في حزيران عام  1953؛ والتي راح ضحيتها ثمانية سجناء وثمانون جريحا. والمعروف عنه بانه عدو الشيوعية رقم إثنين في العراق (بإعتبار إن نوري السعيد كان رقم واحد)، قد إستلم للتو مديرية سجن الحلة. قال لي : "يبين عليك عاقل، سأضعك في السجن العادي، إذا تحركت أي حركة سياسية، ستندم على اليوم الذي ولدتك أمك فيه". لم أجبه، ولكن "لم أدعه يرى الخوف في عينيي" بعد 12 يوماً  أخذوني اليه ثانية مع فراشي وحقيبتي . أمر سجاناً بتفتيشهما، فلم يجد شيئا، فامره بوضعي في السجن الأنفرادي. ولم يخبرني بالسبب ! وهذا السجن، يقع داخل السجن الكبير، وهو مخصص ومصمم للمحكومين بالأعدام، وكان عبارة عن غرفتين ومقصلة ومرحاض وحنفية ماء على حوض صغير. وبعد بضعة أيام عشتها لوحدي في الأنفرادي ، وضعوا معي رجل مسلول كان يبصق الدم على حافة الحوض ليجلب إنتباهي ولكي أرفض وجوده معي، عسى أن تتحقق رغبته بتحويله الى المستشفى! قررت ان أتمرد، بعد رؤيتي الدم ، وبعد مرور حوالي ساعة واحدة من وصول المريض، وبصرف النظر عن العواقب.  أخذت أضرب  الباب بيدي وارفسها بقدمي وكان الوقت بعد الدوام. وعند وصول السجّانة قلت لهم :"الرجل مريض بالسل وسأصاب بالعدوى بمرض السل ايضا، فأما أنا هنا، وأما هو، وحالا !" هدأوني  واخبروني بانهم سيتصلون بالمديرفوراً . بعد حوالي ربع ساعة نقلوا الرجل المريض الى مكان آخر. فتنفست الصعداء .