| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

 

الجمعة 2/9/ 2005

 

 

ذكريات

 

الهروب من معتقل خلف السدة

(3 ــ 3 )

 

جاسم الحلوائي

كان قاووشنا يضم حوالي 60 معتقلا ، غالبيتهم شيوعيين. وكان الى جانبهم مجموعة من جماعة سليم الفخري وبضعة عناصر مشكوك بوضعهم. كل ذلك تطلب منا تنفيذ الخطة بسرية تامة معتمدين على من نثق بهم. ولكي نتمكن من التحكم ببعض الأمور كان لأبد من إعادة إنتخاب اللجنة الإقتصادية، فالخطة تتطلب التعاون معها، في حين كان في اللجنة بعض العناصر التي لايمكن الركون اليها. وقد تمت هذه الخطوة بنجاح. كانت الخطة تتطلب قص أحد القضبان الحديدية في الشباك الأخير من القاووش ومن شأن ذلك توفير إمكانية لخروج جسم الإنسان من الفتحة. بعد توفير منشار لقص الحديد بواسطة أحد الحراس ، كان علينا إتخاذ التدابير ليباشر الرفيق تحسين فائق بالعمل. قررت اللجنة الإقتصادية إجراء تنظيف عام في القاعة وإختارت عناصر مأمونة للقيام بضجيج أثناء التنظيف للتغطية على الصوت الذي يصدره المنشار عند قص القضيب الحديدي.

وقفنا عمر علي الشيخ وأنا خارج القاووش بجانب الشباك متظاهرين بالبحث في شؤون المنظمة، لكي لايتقرب احد من المعتقلين الينا وبالتالي الى الشباك، ولإعطاء إشارة الى تحسين لكي يتوقف عن العمل ، عندما يقترب الحارس الذي يمشي ، جيئة وذهابا، على سطح البناية المقابلة ويراقب ما يقع تحت نظره. عندما أنهى تحسين قص القضيب الحديدي أعاده الى محله السابق بواسطة ( قفيصين) أحدهما على اليمين والآخر على اليسار وغطاهما بليفتي حمام. كان هذا الشباك يقع في آخر القاعة قريبا من احدى زواياها التي تستخدم كحمام. وكانت رائحة الزاوية تزكم الأنوف، ولم يكن المكان المجاور لها مرغوب فيه من قبل المعتقلين، وقد احتل رفاقنا المكان تدريجيا، ضمن الخطة المقررة.

كان ضمن الخطة تحضير جسمين إصطناعيين لكي يحلا محلنا. فمن المحتمل إعادة تعداد المعتقلين، بعد خروجنا من الشباك؛ ولتجنب كشف طريقة الهروب، بإبقاء الأجسام المصطنعة لبضعة أيام. ولعدم وجود أي مكان لصنع الجسمين المصطنعين بشكل سري قي القاووش، رتبنا مسرحا لأحتفالات عيد ميلاد الحزب يوم 31 آذار مساءً. وخلف كواليس هذا المسرح  صنع عمر علي الشيخ الجسمين الإصطناعيين حيث حشى البيجامات والقمصان والجواريب بخرق وملابس رثة، وخيط بعضها بالبعض الآخر. وقد وضعت بعد خروجنا من الشباك ملفوفة بالبطانيات في مكاننا. وكانت رجلي الجسم ( البدي) واحدة على الأخرى . والرجل الفوق تتحرك من خلال خيط مربوط بها والطرف الآخر للخيط بيد الرفيق ، المجاور للجسم الإصطناعي ، يحركه إمعانا في التضليل وإبعادا للشبهات عند التعداد.

من المعروف عن عمر علي الشيخ بأنه يدقق كثيرا في الأمور الى حد المبالغة أحيانا. كنت أعطيه الحق في ذلك ، خاصة وإنه كان ضمن عمليتي الهروب الكبيرتين الفاشلتين في سجني الكوت وبعقوبة عامي 1952 و1955، على التوالي. وكنت أطرد فكرة تردده ، ما أن تخطر ببالي . وقبل الهروب بفترة ، وعندما كرر علي بأن بعض رفاق اللجنة يشككون بنجاح خطة الهروب قلت له: " كلما نقترب من موعد الهروب يزداد التردد، أخشى أن يطلبوا إلغاء العملية عشية تنفيذها. ويوم واحد قبل هروبنا طرح قضية عدم وجود هويات شخصية لدينا نحملها بعد هروبنا. قلت له:

 ـ مو تأكدنا محد يسأل عل الهويات.

ـ إذا سألوا، شراح يصير؟

ـ تصير ثورة ردة! ( قلت منفجرا وأضفت ) ناكل فد كروان ويرجعونا لمكانا. شراح يصير أزيد من هذا؟

إفترقنا متكدرين.

إختارعمر علي الشيخ أن يهرب بهيئة حمّال، وقد هيأ دشداشة مرقوعة برقعة كبيرة من الخلف وجاكيت قديم و(جراوية) وهي تماثل ما يلبسه الكوردي في رأسه. أما أنا فقد إخترت الهروب بهيئة طالب جامعي، فإستعرت بدلة جيدة مع ربطة عنق. واستعرت نظارات عربي فرحان الخميسي (أبو رغيد) الطبية.

عندما نمنا في الليل يوم 31 آذار كانت البدلة في فراشي ، وقد لبستها ولبست البيجامة عليها وأنا تحت الفراش ، في النصف الثاني من الليل ، عندما كان الجميع نياما . وفي الصباح لبست الروب على ملابسي بشكل أبدو فيه طبيعيا.

كان عمر علي الشيخ ينسق مع قيادة الحزب.  وقد رتبت الأختام بطريقة كيمياوية . فقد إستلمت ورقتين ، بعد دخول المواجهة. وكان عليّ أن أبلل باطن الرسغ وأضغط الورقة عليه قليلا لينطبع الختم على الرسغ . ويجب معرفة على أية يد يكون كل من الختمين البيضاوي والمربع ، ولاتحتمل هذه العملية أي خطأ، لأن الأمر يختلف من مواجهة الى أخرى. فشاهدت اليد اليسرى لأم شروق في المواجهة وعليه الختم المربع وذهبت الى التواليت وأنجزت المهمة بكل يسر وأتلفت الأوراق.

تم الهروب يوم المواجهة وهو اليوم الأول من نيسان 1966  وصادف هذاالتاريخ في تلك السنة عيد الأضحى؛ فحشد الحزب للمواجهة وكانت أكبر مواجهة يشهدها هذا المعتقل ، فمواجهتي وحدها تسعة أشخاص كبار وعدد من الأطفال. كان يوم المواجهة يوما ربيعيا بهيجا قالت لي أم شروق وقدر متوسط الحجم بجانبها :

ـ طبخت لك تمن باكلة مطبك عل قوزي، أدري بيك تحبها.

ـ شكرا. بس اليوم غدانا سوَ بالبيت.

وأخبرتها بأنها ستكون واختها سميرة ضمن مجموعة مختارة تتجمع حول الشباك خارج القاووش لتغطية خروجنا من الشباك.

بدلا من أن تفرح أم شروق ، فقد خافت وإمتقع وجهها. استغربت.. فقد كانت مراسلة جريئة حتى في العهد الفاشي . سألتها:

ـ شبيج ليش خفتي؟

ـ أخاف يكمشوك ويضربوك كدامي . ما أكدر أشوف هيج منظر.

طمأنتها، وسألتها إن كانت تريد إعفائها من مهمة الوقوف امام االشباك. فأجابت، بشكل حاسم، بالنفي. مع ذلك فلم تتمكن من إداء المهمة بشكل طبيعي . فقد أعطت ظهرها للشباك عند تنفيذ العملية. لكي لاتشاهد ذلك المشهد الدراماتيكي . ولم تلتفت ، إلا بعد أن سمعت صوتي وأنا خارج القاووش.

شروق كبرت وأصبح عمرها ستة أشهر وهي بحاجة الى أب يرعاها. وام شروق موعودة من قبلي أن لا أتركها وحدها، وأنا أيضا أحتاجها. والحزب وحاجته وقضيته.. وهذه المجموعة الواسعة التي تعمل من أجل نجاح الخطة ، كلها عوامل محفزة لخوض المجازفة وبدون تردد ... ولكن آه.. من تردد الآخرين!

قبل إنتهاء المواجهة بحوالي الساعة جاءني توفيق أحمد، وكان ممثلنا أمام الإدارة وله علاقة بممثل للبعث اليساري في قاووش آخر، وقال لي:

ـ يظهر إن الخطة مكشوفة . أخبرني ممثل البعث اليساري بأن أحدهم سمع مدير السجن يقول لأحد الضباط "من يطلعون جيبوهم إثنينهم يمي" ويرى رفاق اللجنة تأجيل العملية !!

ـ وما هو رأي أبو فاروق (عمر علي الشيخ) ؟

ـ ينتظر رأيك.

ـ أحنا نعرف المدير شخص جبان ، وإذا كان يعرف بالخطة ، لأعلن نفيرا عاما في الحال، ووقف أمام الشباك وبيده القضيب المكسور( فاتني أن أضيف وياخذ في هذا البوز صورة لنشرها في الصحف) ليعلن إكتشافه مؤامرة هروب، وبيده الدليل الحاسم. لا أن ينتظر الى أن يخرجا و...الخ. وما لم يات المدير للشباك فالخطة غير مكشوفة . وأرى أن تنفذ. وما سمعه البعثي ، إن صح ما سمعه ، فلا علاقة له بنا . غادرني توفيق ، وقد بدا عليه الإقتناع بتحليلي للموقف، ولم يعد ثانية.

إنتهت المواجهة بعد أن مددت ساعتين بمناسبة العيد. وخرج المواجهون من القاووش . جرى عَدْ المعتقلين وبدلا من مرة، ثلاث مرات في هذه المرة !! تحركت صوب الشباك. كل شيء حسب الخطة المرسومة . عمر واقف في حالة تأهب أقرب مني للشباك . التفت الي متسائلا بحركة بسيطة من رأسه ، هل نباشر؟ أجبته ايضا بحركة بسيطة من رأسي ، نعم . خرج عمر من الشباك وخرجت بعده. وخلال لحظات خلعت، وبمساعدة الآخرين ، البيجامة ولبست الرباط وعدلت قيافتي . أوعزت لأخي حميد بأن يخرج مع ام شروق مبكرا ليحجزا لنا تكسي .

كانت الخطة تقتضي أن أكون حليق الشارب. في المعتقل خففت الشارب تدريجيا وابقيت منه خيطا رفيعا على أن أحلقه عند خروجي من الشياك. كان جورج يعقوب مكلفا بأن يناولي ماكنة الحلاقة. انجزت المهمة بدون مرآة. وقبل أن اعيد الماكنة له ، أشر لي جورج بإصبعه الى مكان محدد على شفته. ففهمت إن هناك بقايا شعر يجب إزالته ، فحلقت المكان المطلوب ثانية ، وإذا بجورج يضرب وجهه بكفيه متأسيا لأن الجرح البسيط أصبح أعمق. إنشغلت بتجفيب الجرح، لقد أصبح ذلك همي الأول والأخير و" نسيت " موضوع الهروب ! و لحسن الحظ، فقد جف الجرح عندما باشرت المواجهة في الخروج ، فالتحقنا بها. وهكذا لم أعاني كثيرا من قلق إنتظار اللحظة الحاسمة !     

كانت مادلين يعقوب ترافقني متأبطة ذراعي اليسرى، وأحمل طفلة صديقة مادلين ، سميرة فرنسيس ، على ذراعي اليمنى . ومادلين فتاة أنيقة تصغرني ببضع سنوات، فكنا نبدو وكأننا فعلا زوجين . إجتزنا أخطر نقطة بسلام ، فما أن إجتزنا النقطة الثانية ، حتى سحبت مادلين يدها من تحت أبطي وركضت أمامي تدفع الناس بيديها تشق طريق لي، لكي اتمكن من السير بسرعة وبدون عوائق. ولم يكن يعوزها سوى النداء: إفسحوا المجال لقد نجح ... في الهروب!! مسكت يدها وأعدتها الى جانبي وذكرتها بأننا لازلنا في المعتقل. وهناك بضع نقاط  تفتيش أخرى وبعدها حوالي نصف كيلو متر لابد من قطعها مشيا. إجتزنا كل ذلك بسلام لنصل الى ساحة فيها جمهور غفير ينتظر وصول تاكسيات فارغة، ولا أثر لأم شروق وأخي حميد. تحركنا لنبتعد عن الجمهور، فصادفنا تاكسي فحجزناه فورا. وما أن تحرك التاكسي بنا حتى صادفنا أخي وأم شروق، فركبوا معنا وذهبنا مباشرة الى بيت عائلة مادلين . ومادلين هي أخت الشهيد أدمون يعقوب الكادر العمالي ، واخت المناضلات فكتوريا ( باسمة) وماريا ورينا والرفيق جورج الذي مر ذكره آنفا. لقد قدمت هذه العائلة، بمن فيهم والدتهم، خدمات جليلة للحزب وقضيته في أصعب الظروف ولسنوات طويلة ، وقدمت تضحيات جسيمة في الطريق من أجل حرية العراق وسعادة شعبه، فهي تستحق كل ثناء.

بعد إستراحة قصيرة غادرنا، انا وأم شروق واختها سميرة ، هذا البيت وتوجهنا الى بيت أخ أم شروق الشهيد جواد عطية، حيث تقيم ام شروق واختها. ترجلنا من التاكسي بمسافة ملائمة بعيدا عن البيت. لأول مرة أصبحنا، أم شروق وأنا، وحدنا مرة اخرى، بعد أن أخذت سميرة شروق وإبتعدت عنا. ذكرتها بوعدي لها بأنني سأهرب إذا ما أعتقلت . أما هي فقد كانت تمس ذراعي ، بين هنيهة وأخرى، لتتأكد من وجودي. كان جسمينا يلامس الواحد الآخر صدفة أوتعمدا، فنزداد شوقا . غمرتنى السعادة وأنا أسير بجنبها. تشاغلت عنها للحظات ونظرت الى الأفق متأملا الكون ، فشعرت بحب أعنف للحرية والحياة والحزب وأهدافه النبيلة.

الخلاصة

كان مهندس هذا الهروب الناجح وقائده الرفيق عمر علي الشيخ . ولم تبخل قيادة الحزب بأي مساعدة ممكنة.. أما مدير التنفيذ فكان توفيق أحمد ومن أبرز مساعديه الرفيق علي عرمش شوكت والشهيدعواد حريجة وكاظم معارج وحميد رشيد الأوسي ( وأمهات هؤلاء ساهمن في التجمع حول الشباك لحظة الهروب) والشهيد رافع الكبيسي والكسان البير و الحداد تحسين وغيرهم من الرفاق. وفكرة كسر قضيب الشباك والهروب مع المواجهة كانت من علي عرمش شوكت، وهي مستوحاة من محاولة مماثلة ، اجهضت قبل التنفيذ ، جرت في سجن الحلة ، وكان علي مساهما فيها ، كما يشير هو لذلك في مقال له.

والفضل في شل التردد في اللحظة الحاسمة ، وإنقاذ الخطة من الإندثار، يعود لكاتب هذه السطور. ولم يكن ذلك لأنني أكثر ذكاء أو جرأة من الذين ترددوا في اللحظة الحاسمة ، بل كنت الأكثر تحمسا للهروب .  لم ينف عمر علي الشيخ تحمسي ، ولكنه عزاه ، كمأخذ علي ، الى رغبتي الشديدة للعودة الى زوجتي . ( ولا أعرف هل هو جاد أم مازح في ذلك ؟)  . و لنفترض إنه جادا. فما الغرابة والضير في ذلك ؟ فالحب ، في نظر ماركس ، " قوة عظيمة وثورية ، يمكن أن يحطم كل القوانين والأصول الإجتماعية. " فما بالك بمعتقل ، غير حصين ، كمعتقل خلف السدة؟!. و في الواقع ، لم أعد لزوجتي حسب ، بل وعدت للحزب ايضا . فقد ساهمت، بعد بضعة أيام من هروبي ، في إجتماع كامل للجنة المركزية ، وانيطت بي مهمة سكرتيرلجنة المنطقة الجنوبية. رحلت مع عائلتي الى البصرة لنختفي فيها سنة واحدة زاخرة بالأحداث والمفارقات ، ولكن هذه قصة أخرى، ليس هذا مكانها.