نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

 

الجمعة 23/6/ 2006

 

 

 

ذكريات

سنوات بين دمشق وطهران

( 5 )

 

جاسم الحلوائي

jasem8@maktoob.com

 

إنعقد آ خر إجتماع للجنة المركزية خارج الوطن في كانون الأول 1981. وكان إجتماعا كاملا، يحضره عادة المرشحون لعضوية اللجنة المركزية أيضا. جرى التأكيد في الإجتماع على السياسة المقررة ولم تكن هناك مواضيع سياسية جديدة هامة، سوى قرار بتنفيذ الكفاح المسلح، وكان القرار تحصيل حاصل بعد أن تحققت خطوات جيدة في التهيئة له، إلا أن بعض القادة الميدانيين، مثل الفقيد توما توماس، وسواه كانوا يريدون قرارا بذلك، وكان لهم ما أرادوا حتى دون مناقشة. جرى في هذا الإجتماع إنتخاب المكتب السياسي والتغيير الوحيد الذي تم هو إنتخاب الرفيق سليمان يوسف بوكا (أبو عامل) بديلا عن الرفيق ثابت حبيب العاني. وتقرر في هذا الإجتماع عقد المؤتمر الوطني بعد سنة واحدة. ناقش الأجتماع قضية تثبيت عضوية عدد من الرفاق المرشحين للجنة المركزية منذ المؤتمر الثالث الذي إنعقد عام 1976 وكان بينهم كل من حميد مجيد موسى وفخري كريم وحاجي سليمان (ابو سيروان) وحسين سلطان. وقد تقرر أن يتم تقديم الكادر بالإرتبط مع الموقف من العمل في الداخل إستلهاما لتجربة الحزب بعد إنقلاب شباط الفاشى، ولقرب إنعقاد المؤتمر الرابع. وبسبب تأخر إنعقاد المؤتمر المذكور فقد درست وثبتت عضوية الرفاق المذكورين، بإستثناء الفقيد حسين سلطان، في إجتماعات اللجنة المركزية قبل إنعقاد المؤتمر.

***

تأخرت عودتي الى طهران حتى شباط عام 1982 لسفري الى برلين لإجراء العملية لأذني والتي تطرقت اليها سابقا. وقبل مغادرتنا، ام شروق وأنا، دمشق، علمنا بأن عائلة أخي مجيد وزوجته (أم دنيا) وأربعة أطفال مرمية على الحدود العراقية ـ السورية المغلقة ويحملون جوازات مرور غير قابلة للعودة! وتطلب السلطات السورية تزكية لهم لإدخالهم ... عند وصول العائلة الى دمشق تبرع الرفيق (ابو سعيد بهرز) مشكورأ بإسكانهم مع عائلته في شقتهم بالرغم من صغرها. علمنا من أم دنيا أن السلطات الأمنية إعتقلت أشقائي الستة وزوجاتهم وأطفالهم وجدتي، التي يناهز عمرهاالثمانين عاما، في 6 كانون الثاني 1982. وصادرت وثائقهم وصورهم وزجت بهم، وعددهم 27 شخصاً، كرهائن في معتقل الفضيلية. وكانت السلطات الأمنية تطالب بعودتي. وعند تسفيرهم قال لهم احد ضباط الأمن:

ـ روحوا نامواعلى ﮔﻠب (قلب) جاسم.

قبل سفرنا بيومين الى طهران وصلت عائلة أخي قاسم أيضا الى الحدود وقد أدخلت الى سوريا بعد تزكيتها. ولتعذر تاخرنا عن السفر فقد كتبت قائمة بأسماء بقية العوائل وأودعتها في مقر حزبنا. وبالفعل وصلت بقية العوائل تباعاً، بإستثناء عائلة أخي خليل وجدتي اللتين أعيدتا من الحدود بسببب غلق الحدود العراقية ـ السورية تماماً، وأعادتهما السلطات العراقية الى المعتقل ثانية.

كتبت رسالة الى المكتب السياسي في حزيران 1982 أطلب فيها إجازة لمدة شهر للإ لتقاء بأبنائنا في شهر تموز على حسابنا الخاص. وقبيل إستلامي الجواب وفي إتصال هاتفي مع الشام أخبرني الرفيق عبد الرزاق الصافي بنبأ إطلاق سراح جميع أخوتي المعتقلين ووصولهم الى دمشق، ودعاني للتوجه الى الشام وأكد على ضرورة ذلك. وكان الرفيقان الصافي وزكي خيري فقط من أعضاء المكتب السياسي الموجودين في الشام آنذاك. فتصورت بأن هناك ضرورة عاجلة لسفري، فقررت السفر مع أم شروق. وكنت على قناعة بأن مغادرة موقعي قبيل موعد الإجازة التي لم أشك بأن المكتب السياسي سيوافق عليها ، لن تترك أية عواقب سلبية على سير عمل المنظمة. وكزيادة في الحيطة، نظمت صلة تلفونية إسبوعية بيني وبين الرفيق فلاح للتشاور والمتابعة. وصل الرفيق الصافي الى طهران وهو في طريقه الى كردستان عشية سفرنا. وعند إستفساري عن مبررات وضرورة سفري، أوضح بأنه كان يروم معرفة كيفية السفر ومسالك الطريق ولا توجد ضرورة للسفر الآن. أخبرته بأنني لم أفهم الأمر على هذه الصورة وإننا أنجزنا معاملة الجواز ويُلزمنا ذلك بمغادرة الاراضي الايرانية، وأرجو توضيح الإلتباس لرفاق المكتب السياسي.

إستأجر الحزب بيتا بسيطاً ولكنه كبيرأ في منطقة دمّر، الواقعة في ضواحي دمشق، وجمعَ فيه عوائل اخوتي ،وصرف لهم مخصصات شهرية، توقفت بطلب من إخوتي حال وصولهم.

علمت من إخوتي بأنه قد أطلق سراح جميع المعتقلين من عوائل الشيوعيين الذين كانوا موجودين في معتقل الفضيلية كرهائن، بناء على قرار عفو صدر من رأس النظام. وجاء هذا القرار على أثر محاولة النظام الفاشلة لإعادة العلاقات مجدداً مع الحزب الشيوعي. كما جاءت الإشارة الى ذلك في الموضوع المعنون "حقيقة علاقة القيادة السوفيتية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي في عقودها الأخيرة". وجرت محاولة فاشلة لعرض عملية إطلاق السراح في التلفزيون العراقي لأغراض دعائية. فقد نظم ما سمي بالإحتفال للمعتقلين في قاعة مجهزة بالكامرات بعد إحضار مجموعة من سجن نقرة السلمان وأخرى من سجن الحلة. كان عدد المعتقلين أكثر من 100 شخص بينهم نساء وأطفال، وبين المعتقلين نسبة غير قليلة من الأكراد.. وحضر "الحفل" عدد كبير من كوادر أجهزة الأمن يقدر عددهم بأكثر من 20 موظفا جلهم مدراء مكاتب.

وطلب مدير الأمن العام فاضل البراك من بضعة معتقلين التحدث، كان أخي حميد من بينهم. وسأتركه يتحدث بنفسه وبآرائه:

"شكرت السيد الرئيس على قرارالعفو، وتمنيت أن يتوسع ليشمل الآخرين. فقاطعني البراك بالقول:

ـ لا شأن لك بالآخرين، تحدث لنا عن خيانة الشيوعيين وتعاونهم مع ايران.

ـ أشك بتعاون الحزب الشيوعي مع الحكومة الايرانية لوجود خلافات فكرية واسعة بينهما.

ـ الم تشاهد التلفزيون عندكم في المعتقل؟ البراك مقاطعاً.

ـ التلفزيون يعكس وجهة نظر واحدة.

إستهجن البراك رأيي وطلب مني التحدث عن خيانة جاسم (المزعومة) لوطنه. تحدثت عن الصراعات الدموية التي مرت بها الأحزاب والتي لم تجلب اي خير للوطن، وكيف إن تعاونها كان وراء ثورة 14 تموز... لم يرق الحديث للبراك فقاطعني بعصبية طالبا مني الإجابة على السؤال والدخول في الموضوع ومضيفا بإستهجان:

ـ يريد يلقي علينا محاضرة.

فرددت عليه بأني أريد توضيح الخلفية التاريخية. وواصلت الحديث، فتطرقت الى تاميم النفط، وكيف إغرورقت عيوننا، جاسم وأنا، بالدموع عندما سمعنا بقرار التأميم. وهناك الكثير من الإنجازات الوطنية والإجتماعية التي تحققت في ظل التعاون وفي عهد الجبهة... فقد البراك أعصابه فأوقفني عن الكلام و راح يتهجم علي وعلى العائلة."

ـ إستفسر أخي مجيد عن مصير العوائل المسفرة فرد البراك:

ـ لاتوجد مشكلة يذهب واحد منكم ويجلبها أو ( مستدركا وآمرا مدير المكتب الأول) زودوا الحلوائيين أخوة جاسم كلهم بالوثاق الضرورية ليسافروا وليذهبوا حيثما يشاؤون ...

وأنهى البراك الأجتماع الذي تردد فيه إسم رأس النظام أكثر من مرة ولم يصفق المعتقلون، ولم يبث اللقاء بالطبع.

إستدعت إدارة المعتقل جميع المعتقلين المعنيين بالأمر تدريجيا وأطلقت سراحهم. بقي أخوتي وعائلة حسين سلطان، التي تربطنا بها علاقة نسب، بضع ساعات إضافية. وقبل إطلاق سراحهم أعادت السلطات الأمنية وثائقهم وصورهم ومكنتهم من السفر، بالرغم من إن السفر كان محضوراًعلى العراقيين بسبب الحرب.

وصل أبناؤنا أيضا من الإتحاد السوفيتي فقضينا وقتاً ممتعاً مع اخوتي وعوائلهم في مصايف سوريا. وعلى البحر في اللاذقية. وعندما إستمزج أخوتي رأي الحزب في موضوع بقائهم أو عودتهم، ترك الحزب الأمر لهم ليقرروا ما يرتأونه. بقي منهم إثنان مع عوائلهم وعاد الباقون . وقد أودع الأخوين حميد وخليل لدينا مبلغا من المال كأمانة، مع صلاحية الصرف منها لتغطية نفقات أبنائنا. و صرفنا جُل المبلغ لطول فراقنا الذي إستمر سنوات طويلة بسبب منع السفرعلى جميع العراقيين، بإستثناء لقاء واحد مع أخي حميد في كردستان العراق، ولهذا اللقاء قصة، جديرة بأن تروى، كما أعتقد.

كنت عائدا للتو الى طهران من إجتماع اللجنة المركزية الذي عقد في كردستان في تموز عام 1984،عندما استدعيت من المكتب السياسي لكي ألتقي بأخي حميد الموجود في كردستان، في موقع غير بعيد عن موقع قيادة الحزب. عرفت من المكتب السياسي بأن حميد مرسل من قبل سلطات البعث، والمطلوب معرفة ما عنده. التقيت بأخي حميد، وكان لقاء حارا... و شكى لي من جروح وآلام في رجليه جراء السير لمسافات طويلة. وسأعطي الكلام له ليروي ما حدث بنفسه.

"أرسل مدير المكتب الأول في مديرية الأمن العامة، المتخصص بالشيوعيين، رسولا وطلب مني السفر الى كردستان للإتصال بباقر إبراهيم وثابت حبيب العاني لكي أقول لهما:

ـ ما معنى فاشية ودكتاتورية وإسقاط سلطة ... وما اليها، ونحن نخوض حرب وطنية ضد غزاة..

وعندما إستفسرت منه عن أسباب إختياري أجاب الرسول:

ـ نحن نثق بأنك ستنقل مانريده بأمانة وستكون رسول سلام بيننا. سنوصلك بالقرب من المنطقة التي يوجد فيها المتمردون، وستذهب اليهم.إنهم لن يأذوك إذا ما تعرفوا على شحصيتك، وطلبت منهم اللقاء باخيك جاسم.

فأجبته بأنني غير مستعد للإتصال بأشخاص، أما إذا تريدون الإتصال بالحزب فلا مانع لدي.

ذهب الرسول وعاد بعد إسبوع ليخبرني بموافقتهم على الإتصال بقيادة الحزب وإستعدادهم للقاء بين الطرفين في أي مكان تقرره قيادة الحزب. وذكرت كل ذلك في الرسالة التي أرسلتها الى قيادة الحزب عند وصولي أول قاعدة أنصار تابعة لكم"

أخبرت الرفاق في المكتب السياسي، وكانوا إضافة الى عزيز محمد كل من عمر علي الشيخ وكريم أحمد، بنص الحديث. وبرغبة حميد بالبقاء في كردستان وعدم العودة. بعد التداول بينهم حدثني الرفيق عزيز:

ـ مثلما تعرف فإننا خرجنا للتو من إجتماع اللجنة المركزية والذي تناولنا فيه الوضع السياسي ولا جديد لدينا بالنسبة لما يطرحوه. و كان بودي أن ألتقي بحميد، ولكن الرفاق لم يحبذوا ذلك. فما رأيك أنت:

ـ أنا الآخر لا أحبذ اللقاء خاصة وهو مرسل من جهة أمنية، وليس سياسية.

أخبرت حميد بأن يخبر الجهة التي أرسلته بأن لاجديد لدينا. وبإمكانه أن يوصل لهم نسخ من الأدبيات التي إطلع عليها في المقر. وكان رأي الرفاق مطابق لرأيي في عدم تحبيذهم بقائه وينصحون بعودته، وإلا فقد يعرض عائلته للإنتقام.

علمت من حميد بعد سنوات طويلة من الإنقطاع بأنه سلم الأدبيات لرسول مدير المكتب الأول بعد عودته من كردستان، وبعد فترة أستدعي للأمن العامة وإلتقى بمدير المكتب الأول. كان المدير غاضباً وإعتبرجلب حميد للأدبيات وتسليمها لهم بمثابة تعاطف مع محتواها، وإلا لما حملها لهم. وطلب حميد عدم تحميل الأمور بما لا تحتمل، فهو رسول وما على الرسول إلا البلاغ المبين. بعد ذلك طلب من حميد أن يتحدث عما رآه وسمعه. فقال له حميد:

ـ هذا خارج الإتفاق، لقد ذهبت بمهمة سياسية وليست أمنية وإني أعتبر مهمتي إنتهت. فغير المسؤول الأمني الموضوع. وسرعان ما أنهى اللقاء.

إن مثل هذا الموقف المتزن من حميد، وهو في دائرة أمنية بعثية، ليس بغريب عليه، وقد تطرقت في ذكرياتي الى العديد من هذه المواقف المحسوبة سياسيا. وهناك موقف لا بد من ذكره قبل إنهاء هذا الموضوع. فقد أعتقلت السلطات الأمنية حميد في عام 1965؛ أي في عهد عبد السلام عارف، وطلبت منه أن يرشدهم الى بيتي، وأمام إصرارهم على معرفته بالبيت ونكرانه لذلك، تعرض للتعذيب. وكان يعرف بيتي فعلا. ومن أجل التخلص من هذا المأزق الحرج كاد أن يضحي بحياته عندما أقدم على الأنتحار وقطع شرايين يده اليسرى في موقف الأمن العامة. ونجى بإعجوبة من الموت لأنه نزف كثيرا من دمه قبل علاجه. وأطلقوا سراحه بعد أن قالوا له:

ـ نحن سنطلق سراحك لأننا تأكدنا من عدم معرفتك بيت جاسم، وليس لمحاولتك الإنتحار!

بإعتقادي من غير الصحيح إنهاء هذ الموضوع وإبقاء طلب السلطات الأمنية من أخي حميد الإتصال بباقر إبراهيم وثابت حبيب العاني، دون سواهم، عائما. كان تقديري للأمر في حينه هو إن البعث يتوسم فيهما مرونة سياسية. أو إنه يحاول اللعب على التركيب القومي داخل الحزب بهدف شق وحدته. وأضيف الآن، ربما كان البعث يعول على الرفاق العرب في قياة الحزب، في تغيير سياسة الحزب لصالحه في الحرب العراقية الايرانية لإعتقاده الخاطئ بذيلية مواقف الرفاق الأكراد للأحزاب الكردية. وعند إستفساري من الرفيق عمر علي الشيخ، بإعتباره مرجعي الحزبي، كما سبق وأن ذكرت،عن مغزى طلب الأمن الأول من حميد الإتصال بالرفيقين المذكورين تحديدا، أفاد بأنه لا يعرف.

***

لنعد الى الشام، كنت آمل في كل مخابرة تلفونية مع الرفيق فلاح في طهران أن يخبرني بوصول رد إيجابي من المكتب السياسي على طلبي الأجازة لتكون سفرتي شرعية. واخيرأ، وقبل أن تنتهي إجازة أبنائي، أخبرني الرفيق فلاح بوصول رسالة من المكتب السياسي يستغربون فيها مغادرة موقعي. فقطعت السفرة وعدت الى طهران في أول طائرة، وبقت أم شروق لإستكمال المشوار مع أبنائنا لحين عودتهم الى الأتحاد السوفيتي. سافرت الى كردستان حال وصولي الى طهران. حاسبني الرفيق عزيز محمد بحضور الرفيق الصافي وإعترفت بان مغادرة موقعي، والتي حصلت بإستدعاء من قبل عضو مكتب سياسي، كانت تتطلب موافقة مرجعي الحزبي والذي هو في كردستان وليس الشام. وكان الرفيق عزيز مهتما اكثر بالجانب العملي، وأفاد بأنه كان من الممكن الإستفادة من سفرتي لإيصال أمر ما من كردستان للشام لو كان لديهم علم بسفري. وعلمت لاحقا بأن الأمر كان إستفسارأ من قيادة الحزب موجها للرفاق هناك حول رأي السوفيت في عرض حزب البعث لعودة حزبنا للجبهة، وقد تمكن المكتب السياسي من إرسال الإستفسار للشام خلال وجودي فيها، وحملت جوابه معي عند عودتي منها. وقد أشرت الى تفاصيل ذلك ووثقته في مسلسل " حقيقة علاقة القيادة السوفيتية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي في عقودها الأخيرة". لقد ضمنت توضيحاتي مع نقد ذاتي في رسالة موجهة الى المكتب السياسي . وأشرت في هذه الرسالة الى أنني أتحمل اجور السفرة من جيبي الشخصى. وإكتفى المكتب السياسي بالنقد الذاتي الذي قدمته.

وخلال وجودي بالقرب من مقر المكتب السياسي عرفت السبب المباشر لإحتجاز إخوتي وعوائلهم. فقد علمت بإعتقال مراسل في بغداد كان يرتبط بي، عندما كنت مقيما في دمشق، جراء إعتراف عليه. وإعترف هذا المراسل علي تحت وطأة التعذيب الوحشي الذي تعرض له. وتزامن الحادث مع إعتقال عائلتي الكبيرة. ومما رجح قناعتي بذلك هو قول السلطات الأمنية لإخوتي:

ـ ها .. جاسم كاعد (جالس) بسوريا ويخرب علينا.

وأتذكر حادثا طريفا مع المراسل المذكور. فعندما سلمته الحقيبة، التي أخفينا المواد فيها، طلبت منه أن يخمن في أي مكان من الحقيبة أخفينا المواد، فلم يحزر ذلك. فقد أشار الى قعرها وسقفها، ولما نفيت ذلك وقف المراسل وعلى شفته إبتسامة مطمئنة لشعوره بأن البريد مخبأ بشكل جيد وليس هناك خطورة كبيرة في الأمر، وهذا ماكنت أستهدفه من هذا الإختبار. ثم أخبرته بالمكان وبطبيعة المواد وكانت كمية محترمة من جريدة "طريق الشعب" ومقالات مختارة من مجلة الثقافة الجديدة، مطبوعة على ورق شفاف وبحجم صغير جدا، مخبأة في حفرة في المحيط الخشبي للحقيبة وبشكل فني يصعب إكتشافه. وكنا نجلب مثل هذه الحقائب من طهران لعدم توفرها في سورية. وكان الصديق العزيز كاظم الصايغ هو الذي يقوم بترتيب الحقيبة، ومنظمة بيروت هي التي تطبع المواد.

وقد وصلت الحقيبة سالمة الى بغداد ووزعت المواد، اما الإعترافات فقد جاءت لاحقا.

***

كنت أنام وأصحى في ايران على شعارات رجال الدين المتشددين في ايران والتي كانت تعكس طموحاتهم وأهدافهم في إحتلال العراق وإقامة النظام الجمهوري الإسلامي التابع لهم. وكان ذلك يقلقني سياسيا. و تحولت تلك الشعارات الى التطبيق العملي في صيف عام 1982 بعد تحرر الأراضي الايرانية ولجوء العراق الى مجلس الأمن مطالبا بإيقاف القتال والقبول بمبدأ المفاوضات بين الطرفين المتحاربين لإنهاء النزاع. وقد صدر قرار من مجلس الأمن بهذا الصدد، رفضته الحكومة الايرانية وواصلت حربها وقامت بتعرض عسكري خطير إستهدف إقتطاع البصرة، ولم يعد لدي أدنى شك بضرورة إجراء تغيير في موقفنا السياسي. فالحرب لم تعد من جانب ايران لا تحررية ولا عادلة. فعندما إستدعيت لحضور إجتماع اللجنة المركزبة في إيلول من العام المذكور، طلبت لقاءً بقيادة حزب توده والذي غير موقفه معتبرا أهداف الحكومة الايرانية من مواصلة الحرب هي أهداف توسعية، وأخذ يطالب بإيقاقها. إلتقى بي الفقيد رضا شلتوكي عضو المكتب السياسي وأبلغني بأن نور الدين كيا نوري الأمين العام للجنة المركزية كان يروم المجيء الى اللقاء وتعذر عليه ذلك وبلغني تحياته وأسفه لعدم لقائي. شرح لي شلتوكي الوضع السياسي وبين حيثيات موقفهم الجديد من الحرب، وبدوري أخبرته بأن موقفنا لم يتبدل من الحرب لحد تلك اللحظة وسيدرس الموضوع قي اجتماع اللجنة المركزية الذي يوشك على الإنعقاد.

سافرت الى كردستان وتحديدا الى وادي ناوزنك، حيث مقرقيادة الحزب، ورافقتني أم شروق في هذه الرحلة. التقيت بالرفيق عزيز وسلمته تقريرا باللقاء مع حزب تودة وأخبرته برأيي القاضي بإعادة النظر في موقفنا من الحرب ، وأخبرني بوجود رسالة من الفقيد زكي خيري تطالب بذلك أيضا، وصرح لي بأنه هو الآخر يشعربضرورة تحريك موقفنا.

بادرت بطرح رأيي في إجتماع اللجنة المركزية وإقترحت تغيير شعارنا السياسي المركزي والذي هو، إسقاط الدكتاتورية وإيقاف الحرب الى إيقاف الحرب وإسقاط الدكتاتورية. وكان عدد من الرفاق يتعاطفون مع إجراء تغيير على سياسة الحزب، وأتذكر بأن الرفيق كريم أحمد تطرق الى ذلك أيضا .وسرعان ما تعرض هذا الموقف من قبل الرفاق المتشددين الى هجوم متطرف صاعق محملا الموقف الداعي للتغيير، تداعيات خاطئة، على سبيل المثال، إن التغيير في الشعار المركزي يستهدف، لاحقا، التخلي عن شعار إسقاط السلطة تمهيدا للمصالحة والتحالف معها تحت شعار الدفاع عن الوطن. وبإعتقادي إن أحد أسباب تلك التداعايات الخاطئة، هو رد فعل خاطئ على الأخطاء التي أرتكبت في فترة تحالف حزبنا مع حزب البعث.

بعد مرورسنتين، وبدون تغيير في مواقف الطرفين المتحاربين، ولكن بعد ان أصبحت الأهداف الايرانية تفقأ العين على الأرض، إستوعبت اللجنة المركزية التغيير الذي جرى على طبيعة الحرب، سائرة في ذيل الأحداث بإمتياز، مزودة السلطة الدكتاتورية بأوراق إضافية تخدم دعايتها المضادة للحزب، فغيرت اللجنة المركزية الشعار السياسي المركزي للحزب من إسقاط الدكتاتورية وإيقاف الحرب الى إيقاف الحرب وإسقاط الدكتاتورية، وذلك في إجتماع اللجنة الكركزية المنعقد في تموز عام 1984. أما التداعيات التي كانت تخشاهااللجنة المركزية من تغيير الشعار المذكور، الذي غير أولويات الحزب السياسية، فلم تؤكد الحياة صوابها. فمن المعروف إنها لم تحصل بعد تغيير الشعار المركزي، فالموقف من السلطة الدكتاتورية لم يتغير. ووجود رفيق واحد في قيادة الحزب، وأقصد الفقيد زكي خيري، تبلورت آراؤه تدريجيا لتطابق تلك التداعيات لا يشفع للجنة المركزية خطئها في عام 1982، لأن خيري ظل يغرد خارج السرب لإبتعاد أطروحاته عن الواقع. ووصل به الأمر عام 1986 أن يدعو الى :

ـ ... إقامة حكومة دفاع وطني يشارك فيها الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب الراغبة في الدفاع عن الوطن وحزب البعث."

كان رد العراق على الهجمات الايرانية في الجبهة بصواريخ أرض ـ أرض مؤثرا جدا، حيث تعرضت الكثير من المدن الايرانية القريبة من الحدود الى قصف صاروخي مستمر كمسجد سليمان، بهبهان، دزفول، مهران، انديمشك، خرم آباد، بختران وايلام. وكانت خسائر الايرانيين جسيمة بالأرواح والممتلكات، وأحرجت، نداءات السكان المطالبة بالحماية من الصواريخ ، السلطات الايرانية، وكانت هجرة سكان تلك المدن الى أماكن أخرىتضاعف من مشاكل البلد. اما قصف طهران بواسطة الطائرات فلم يكن ذو جدوى ماديا، ولكن منظر مضادات الطائرات الايرانية البائسة، والتي تبدو كلعب أطفال، كان يثير السخرية. وكنا، أم شروق وأنا، نجلس على سطح الدار ونتفرج لعدم وجود قبو في البيت أو ملجأ نحتمي به. ولم تقع إصابة بالقرب منا، وإنما حصل إنفجار شديد قريب من بيتنا، من أعمال القوى المعادية للحكومة، هشم زجاج نوافذ شقتنا ولم نصب بأذى، وقد أصلحت الحكومة هذه الأضرار بسرعة.

لم يكن لدي عمل يومي اتابعه عند إقامتي في طهران، وأقصد به عمل يومي روتيني، إلا إذا إعتبرنا مطالعة الصحف والمجلات الايرانية صباح كل يوم عملا! أما الترجمة أو كتابة مقال، التي كنت أقوم بها أحيانأ، فإنها لا تستغرق مدة طويلة. أما مهامي الأخرى فلم تكن يومية ولا كثيرة. كان العمل الروتيني اليومي للمنظمة كلا موحدا وتنهض به لجنة مسؤولة وسكرتيرها الرفيق فلاح، وهو رفيق ديناميكي وكفوء سياسيا وتنظيميا. وكان بإمكانه أن يقوم بما أقوم به من مهام إضافة الى مهامه. وعندما مر علينا الرفيق الصافي في طهران قال لي وبحضور الرفيق فلاح:

ـ خوش مساعد عندك، ويقصد بذلك الرفيق فلاح.

ـ ليش هو المساعد يو (أم) أنا؟

كان ذلك الوضع يولد لدي شعورأ بأن طاقاتي مجمدة ولا ضرورة لوجودي في طهران، مما يستدعي مصارحة الحزب بذلك. ولم يكن أمامي من حل وقتئذ سوى طلب نقلي من طهران الى مكان آخر. وبما أنني لا أستطيع الإقامة في كردستان بسبب سماعة الاذن، فذلك يعني نقلي الى دول المهجر،حيث كانت الإقامة فيها أشبه بالسياحة. ولم أكن أرتضي لنفسي بتقديم مثل هذا المقترح. كنت مستسلما للقدر، مكتفيا بقناعة الآخرين بضرورة وجودي بمن فيهم الرفيق فلاح الذي كان (ولا يزال) يعتقد بأن إشرافي على المنظمة كان مفيداً وضرورياً.

كنت أقضي أوقات فراغي بالقراءة، وكانت قيادة منظمة حزبنا في اليمن ترسل عن طريقنا ألى قيادة الحزب في كردستان مايصدر من كتب سياسية ونظرية جديدة. كنت أقرأها ومن ثم أرسلها. ومن الأدب الكلاسيكي الذي قرأته آنذاك هي مجموعة رسائل لكارل ماركس وفردريك إنجلز. وهناك فكرة مهمة وردت، على الأرجح. في آخر رسالة لإنجلس، لاحظت بعض أصدقائي غير مطلعين عليها، يقول فيها:

ـ لقد أولينا إهتماما كبيرا لتأثير المادة على الفكر وقصرنا في توضيح تأثير الفكر على المادة.

وقرأت للمفكر الكبير الراحل الشهيد حسين مروة كتابه الموسوم "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية". وهو كتاب تراثي وفلسفي غزيرفكريا وجذاب جداً. قرأه الرفيق عزيز محمد أيضا في شقتنا في طهران. وصحح الكتاب لدينا فكرة خاطئة وهي إن الشيعة يساريين في الإسلام. في حين إنهم معتدلون واساس إعتدالهم يكمن في التقية. والطريف في الأمر إن مصدر الفكرة الخاطئة كان نفسه بالنسبة لكلينا، وهو مقالات السيد أحمد عباس صالح في مجلة "الطليعة" المصرية والتي نشرت في ستينيات القرن المضي تحت عنوان "اليمين واليسار في الإسلام"

و قرأت في طهران كتبا باللغة الفارسية، ومما قرأته الشاهنامة للحكيم أبو القاسم الفردوسي، وهي الملحمة الفارسية التي تعتبر مصدرا أساسيا في التراث القومي الفارسي، يعتز بها الايرانيون أيما إعتزاز. وتمتاز لغة الشاهنامة بخلوها من أية كلمة أو جذر لكلمة عربية. وقرأت بعض الروايات لكتاب ايرانيين معاصرين. وأهم ما قرأته بالفارسية هو تاريخ العالم منذ نشوء المجتمع البشري حتي إنتصار الثورة الفرنسية العظمى في عام 1789، وكانت مجموعة مجلدات ضخمة، إستاجرتها من مكتبة غير بعيدة عن بيتنا بمبلغ متواضع. و ساعدتني أم شروق في جلبها للبيت وإعادتها للمكتبة.

لم نتجول في ايران كثيرا، زرنا ساحل بحر قزوين ومدينتي قم ومشهد فقط، كان يقيم في المدينة الأولى ولدي خالتي، أما في الثانية فقد كانت تقيم زوجة وأطفال صديقي الشهيد علي النوري، وقد تحدثت عنه وعن عائلته في موضوع سابق.

سافرنا، أم شروق وأنا، مع أخي مجيد وعائلته، الذين كانوا في سفرة سياحية في ايران، الى ساحل بحر قزوين للسباحة بالقرب من مدينة (بابل سر) الواقعة في محافظة مازندران. وهذ البحر هو نفسه بحر الخزر الذي يُعد أكبر مسطح مائي مغلق على سطح الأرض، إذ تبلغ مساحته حوالي 371 ألف كم مربع، ويبلغ أقصى عمق له 980 م. ولذا فهو يتصف بخصائص البحار والبحيرات في آن واحد. وتطل على البحر خمس دول هي كل من روسيا وأذربيجان وإيران وتركمانستان وكازاخستان .

لقد حولت الجمهورية الإسلامية هذا الساحل، الذي كان يعج بالسياح والحياة، الى مكان بائس، ولا يؤمه سوى عدد قليل من الناس. فقد نصبت السلطات الايرانية حواجز تحجب الرؤيا عن القسم الذي ترتاده النساء. كما فرض على النساء السباحة بملابسهن العادية وحجابهن! أما المكان المخصص للرجال فهو بعيد عن مكان النساء، وبالرغم من ذلك فعلى الرجل أن لا يبتعد في البحر أكثر من 200 متر عن الساحل. وهذه المسافة هي طول حاجز داخل البحر يفصل قسم النساء عن الرجال. ويقوم الحرس على الساحل بملاحقة المخالفين . وكل ذلك لكي لا يسمح للرجال رؤية رأس إمرأة محجبة في الماء، ولو عن بعد! إن أوقات السباحة محددة، حيث تمنع السباحة خلال سويعات الظهيرة. هذه الظروف البائسة كانت عاملا هاما في إختصار مدة بقائنا ومغادرة الساحل الى حيث لا رجعة.
تقع مدينة قم في القسم المركزي من ايران وعلى الحدود الجنوبية لمحافظة طهران، وهي أصغر محافظة من المحافظات الايرانية الثمان والعشرين. ويتوسط المدينة مرقد السيِّدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر وأخت الإمام الرضاعليهما السلام. وهي مدينة دينية وقاعدة أساسية من قواعد الطائفة الشيعية. المدينة تبدو فقيرة وكئيبة.
أما مدينة مشهد فتعتبر من كبريات مدن ايران ومن أعظم مدن خراسان ويقع فيها مرقد الإمام علي بن موسى الرضا ( ع ) . المدينة فسيحة، وخلافا للمدن الشيعية الأخرى فهي بهيجة، وفيها الكثير من الحدائق بل وحتى السينمات. ومن المعروف إن الإمام الرضا كان أميرا في المدينة وكان يخرج لصلاة المغرب والعشاء على عزف موسيقي خاص. وهذا التقليد لايزال ساريا لحد الآن، وقد شاهدنا الفرقة الموسيقية، وهي على شكل تماثيل تعزف وتتحرك آليا، وإستمعنا لعزفها. وغير بعيد عن مدينة مشهد تقع مدينة طوس التاريخية. و زرنا فيها قبرالشاعر والحكيم أبو القاسم الفردوسي مؤلف الشاهنامة. و شاهدنا النسخة الأصلية مكتوبة على الجلود وبحجم كبير جداً.

يتبع


[1] ـ زكي خيري. مصدر سابق، ص 234.

[2] ـ إطلع الرفيق فلاح على مسودة المسلسل لأغراض التوثيق، وأبدى عليه، مشكورا، ملاحظات مفيدة.

 

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى