| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

 

الجمعة 1/7/ 2005

 

 

حدث هذا قبل نصف قرن ــ القسم الرابع

عشية ثورة 14 تموز المجيدة

(1 ــ 5 )

 

جاسم الحلوائي

على أثر إنعقاد الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي في أيلول 1956، إنعقد في بداية تشرين الأول في الكوفة إجتماع موسع لكوادر الحزب في الفرات الأوسط. ضمّ الإجتماع أعضاء اللجان المحلية وقيادة المنطقة، وحضره الرفيق سلام عادل سكرتير اللجنة المركزية ومعه عضو اللجنة المركزية سليم الجلبي. قادني باقر إبراهيم الى مكان الإجتماع، دون أن يخبرني أي شيء عنه مسبقا. عند وصولنا كان سلام عادل قد شرع في شرح الوثيقة الصادرة عن الكونفرنس تحت عنوان " خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي". لم تكن الوثيقة مطروحه على الإجتماع لغرض مناقشتها وإغنائها، بل لغرض التثقيف بها. وقد تولى ذلك الرفيق سلام عادل. القضية التي أثارت نقاشاً في الإجتماع، هي أساليب الكفاح. فقد شخصت الوثيقة طبيعة المعركة " بإعتبارها معر كة ذات طابع سلمي غالب". ولم يقتنع العديد من المجتمعين بالتوضيحات التي قدمت للإجتماع لتبرير هذا التشخيص. وقد جاء هذا التشخيص غير الصحيح متأثراً بما توصل اليه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي بخصوص إمكانية الإنتقال السلمي للإشتراكية. وقد صححت اللجنة المركزية هذا الخطأ على أثر إنتفاضة تشرين الثاني 1956 التي جوبهت بالرصاص من قبل السلطات، وذلك في بيانها الصادرفي 11 كانون الأول 1956؛ لتقرر بأن الإسلوب العنفي هو الإسلوب الغالب.

إندلعت إنتفاضة تشرين الثاني 1956 لنصرة مصر، على أثر العدوان الثلاثي الذي تعرضت له مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين التاني 1956 . وكانت حركة التحرر الوطني العربية في أوج نهوضها،  والحزب الشيوعي العراقي منغمرا فيها من خلال المهمة العاجلة التي طرحها أمامه وأما م الحركة الوطنية والقومية، بصيغة سياسية مرنة، من شأنها أن تعزل حكومة نوري السعيد من جهة، وتعبىء جميع القوى المعادية للإستعمار ضدها من اجل إسقاطها من الجهة الأخرى. وكانت هذه الصيغة كما يلي:  " إن ما يواجه بلادنا الآن هو قبل كل شيء ضرورة تحول السياسة القائمة من سياسة تعاون مع الإستعمار وتوافق مع الصهيونية وإنعزال عن حركة التحرر الوطني، الى سياسة وطنية عربية مستقلة. "[1]  .

خرجت الجماهير الشعبية في مظاهرات إحتجاجية عارمة على العدوان ولنصرة  مصر الشقيقة، وهتفت بسقوط حكومة نوري السعيد وحلف بغداد... وقد شملت المظاهرات ثلاثين مدينة من جنوب العراق الى شماله مرورا بوسطه.  وكانت واسعة جدا في النجف، وساهمت فيها مختلف الفئات الإجتماعية بمن في ذلك رجال دين بارزين. وقد دامت المظاهرات في البلاد مدة شهرين، وتوجت بإنتفاضة الحي الباسلة. جوبهت المظاهرات من قبل حكومة نوري السعيد بالأحكام العرفية وتعطيل الدراسة في الكليات والمدارس وبالقمع العنيف. وسقط، الكثير من الضحايا، وتعرض حوالي عشرة آلاف طالب للفصل والإبعاد والسجن، وأرسلت المحاكم العسكرية المئات من المناضلين للسجون، وكنت أنا وإثنان من إخوتي من بينهم، وسيأتي شرح ذلك لاحقا. وكانت السلطات تتحسس، وهي على حق! من أي شعار، حتى ولو كان شعارا قوميا عاما مثل: " وحدة وحدة عربية" أو" يعيش جمال عبد الناصر" لأنهما ينطويان على عداء لحلف بغداد وحكومة نوري السعيد. وقد لعب الشيوعيون دورا فعالا، إن لم نقل طليعيا، في المظاهرات وكان أول شهداء الإنتفاضة الكادر الشيوعي الباسل عواد الصفار الذي إستشهد في بغداد،  وآخرهم الشيوعيين البطلين عطا الدباس وعلي الشيخ حمود اللذين أعدما،  في ساحة الصفا التي تقع وسط مدينة الحي وتنطلق منها المظاهرات ؟! وكان الشهيد عطا قد قتل تحت التعذيب ورغم ذلك وضعوا حبل المشنقة في عنقه للتمويه، وكأنه حي . أما الشهيد علي الشيخ حمود فقد هتف بحياة الشعب والوطن قبل إعدامه.

تأخرت مدينة كربلاء نسبياً عن التظاهر في إنتفاضة تشرين الثاني 1956. وأخيرا إتفقنا مع حزب البعث العربي الإشتراكي، لإخراج مظاهرة، على أن نسعى الى عدم إصطدامها بالبوليس، وذلك لرفع معنويات الناس وعلى أن تنطلق من مدرسة الثانوية، وهي الثانوية الوحيدة في المدينة. وفعلا خرجت المظاهرة وفقاً لما هو مخطط لها. لقد كنت مطارداً آنذاك، ولم يحبذ مرجعي الحزبي مساهمتي المباشرة في المظاهرات. ولكن ما أن سمعت صوت المظاهرة وأنا على سطح الدار أنتظر، بتوتر، إنطلاقها، حتى أسرعت للإلتحاق بها!، كانت  المظاهرة تتكون من حوالي 500 شخص، جميعهم شباب وغالبيتهم طلبة. كانت الشرطة تسير وراء المظاهرة بهدف ارهابها، وللإنقضاض عليها وتفريقها بالقوة في الوقت المناسب. تحايلنا على الشرطة، وأدخلنا المظاهرة في سوق وكأنما نريد الخروج من الجهة الثانية للسوق، فلم تتبعنا الشرطة وإنما أسرعت لتتهيأ في الجهة الاخرى من السوق لإستقبالنا! عند وصول المظاهرة مكاناً ملائماً في السوق فرقنا المظاهرة فضاع المتظاهرون على الشرطة. كنت أنسق مع ممثل حزب البعث عبد الرزاق أبو الحب في المظاهرة. كانت المظاهرة تهتف بالشعارات الوطنية وكذلك الشعارات القومية بما في ذلك شعار "وحدة وحدة عربية".

وعلى أثر تلك المظاهرة عطلت الدراسة في المدرسة الثانوية، وجرت حملة إعتقالات في صفوف الطلبة وإنقطعت علاقتنا بحزب البعث مؤقتا. وحرصا على مواصلة المظاهرات خرجنا، بعد بضعة أيام من المظاهرة الأولى، متظاهرين من مركز المدينة (الميدان)، في منتصف النهار وفي ساعة ألإزدحام الشديد. وقد بادر بالهتاف ،حسب الخطة المقررة، أخي قاسم. لقد شقت المظاهرة، ولم يتجاوز عددها الخمسون في ذروة نموها، طريقها الى سوق العلاوي ومن ثم الى شارع العباس. وكان هناك جمهور واسع يقدر بالمئات يتفرج على المظاهرة ويسير متعاطفاً معها، ولكن يخشى المساهمة ، مما حدا  بأحد المتظاهرين بأن يهتف يسقط المتفرجون! وكانت مجموعة من الجنود شاهرة سلاحها تسير خلف المظاهرة. عندما وصلت المظاهرة شارع علي الأكبر لم يعد يتجاوز عددها الثلاثين، أربعة منهم أخوتي! تفرقنا في مكان ملائم من الشارع المذكور. القي القبض على أخي قاسم وتمكن من الأفلات من الشرطي الذي كان يحرسه في عربة الخيل (رَبل).  قبل توجههم الى مركز الشرطة (السراي) وساعده الناس على الفرار والإختفاء.

في المساء جاء من يخبرنا  بان الشرطة تستفسرعن بيتنا فتحولت أنا وأحد اخوتي   الى البيت المقابل لنا (بيت صكب) في نفس الزقاق؛ فكنا نراقب دخول الشرطة الى البيت من شباك الغرفة المظلمة التي كنا مختفين فيها. وعند خروج الشرطة عدنا الى البيت نتقافز فرحين لأننا ضحكنا على ذقون الشرطة. وبالمناسبة، كان في (بيت صكب) شاب يصغرني بعدة سنوات إسمه ايضا جاسم، وكان أميّاً ولديه رغبة شديدة في تعلم القراءة. وقد ساعدته وتعلم بسرعة، فبعد أشهر معدودة أخذ يقرا الصحف اليومية! في اليوم التالي لتحري بيتنا جاءت احدى جاراتنا والتى يقع بيتها خلف بيتننا لتخبرجدتي بإستعدادهم لإستقبالنا في بيتهم في حالة مداهمة الشرطة لبيتنا عبرحائط السطح الذي يفصلنا. كانت الجماهيرتتعاطف معنا، ولكن إستعدادها للعمل الثوري كان ضعيفاً ً.

بعد بضعة أيام كنا، لجنة المدينة من ثلاثة رفاق، مجتمعين في بيت أحد أعضائها وإسمه جاسم الطويل. وقد كنا على وشك الإنتهاء من كتابة تقريرعن المظاهرات والأوضاع السياسية والتنظيمية في المدينة، عندما جاءنا رسول من المختار ليخبرنا بان تحريا سيجري على البيت بعد قليل. أسرعنا بإخراج الرفيق الثالث من البيت، أما أنا وجاسم الطويل فقد قررنا ان نعبر على الجيران. وقد حرقنا ما لدينا من أوراق ما عدا التقرير فقد أحتفظت به. عند عبورنا على سطح الجيران وجدت تنوراً أخفيت فيه التقرير، وإختفينا في زاوية ملائمة من السطح. كان علينا ان لا نثير أي صوت لعدم تنبيه أهل البيت؛ فلم يكونوا ممن يتعاطفون معنا. كنت مزكوماً ومضطراً لأن أكتم رغبتي الشديدة بالسعال. بعد فترة وجيزة شاهدنا ضياء مصباح يدوي يتنقل على سطح بيت جاسم الطويل، في تلك اللحظة أشرت لجاسم، مازحا، بأني أريد أن أسعل! فما كان منه ألا وأن وضع يده على فمي. ثم إنتشر ضياء المصباح اليدوي على جهة من السطح الذي كنا نختفي فيه، ولكن الضوء لم يصل، ولحسن الحظ، الى الزاوية التي كنا فيها. بعد فترة حصلنا إشارة من أحد أفراد عائلة جاسم بأن الشرطة غادرت البيت. عبرنا الى بيت جاسم دون أن ننسى أخذ التقرير معنا. طلبت من جاسم أن يختفي وأخبرته بأني سأقيم في الريف لبعض الوقت.

يتبع


[1] ـ ( خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي ) وثيقة الكونفرنس الثاني، ص 23