| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

 

الأحد 19/6/ 2005

 

 

حدث هذا قبل نصف قرن ــ القسم الثالث

نشأتي...طفولتي...وصباي

( 3 ــ 3 )

 

جاسم الحلوائي

كان عندي عم واحد، وإسمه حسن الحلوائي، يحسب على أغنياء المدينة. يمتهن نفس مهنة والدي ولكن بشكل أوسع، كماً ونوعاً، حيث إنه يستخدم المكائن في العمل وينتج، فضلا عما ينتجه محلنا، الدبس والحلوى. وجلّ إنتاجه للبيع بالجملة والتصدير. وكان عمي يهوى تربية الخيول، ويتاجر بها أيضا ويصدرمنها الى لبنان. وكانت الصحف اللبنانية المعنية بشؤون الخيل، تعلن عن وصوله عندما يحل في بيروت، واصفة إياه بتاجر وخبير الخيول العراقي. وبالرغم من الفارق الطبقي بين عائلة عمي وعائلتنا، فقد كانت هناك منافسة بين العائلتين. ولم تكن عائلتي تعترف بوجود أي فرق بين العائلتين!!. فعندما ولدت أختي رحمة، التي تكبرني بأكثر من سنتين، جرى الحديث داخل العائلتين ومحيطها بأن رحمة ستكون لمهدي إبن عمي الذي يكبرها بسنة واحدة. وعندما ولدت شكرية أخت مهدي أصبحت لي وكان عمري عند ولادتها سنة واحدة! عندما كبرت رحمة تزوجت مهدي زواجا فاشلا، فبعد أقل من سنة عادت الى بيتنا، بسبب إنغمار زوجها بمعاشرة المومسات، لتقضي في بيتنا سنتين، لتعود ثانية مستسلمة لفدرها ككثير من الزوجات العراقيات ومنهن زوجة عمي وأمي أيضا.

كنت في السابعة عشرة من عمري، وبالتأكيد قبل التحاقي بالخدمة العسكرية، عندما نادتني أمي في أحد الايام لتقول لي" إنت هم رجال...موعيب عليك، ماعندك شوية غيرة " أوقفتها عن الأسترسال طالبا منها أن تخبرني فوراً ما الذي حصل. أخبرتني بأن قريبا لزوجة عمي الثانية سيتقدم لخطبة شكرية إبنة عمي، ويجب عليّ أن أذهب وأنهاه عن ذلك، وقد عرفتني بعنوانه. إمتثلت للأمر. عندي خنجر صغير وضعته في حزامي تحت الجاكيت وتوجهت الى العنوان. وأنا في طريقي الى العنوان شاهدني والدي الذي كان جالسا في المقهى. إستوقفني مستغرباً همّتي في السير، مستفسراًعن مقصدي. لم يقتنع والدي بإدعاءاتي غيرالصحيحة، فإضطررت لأخباره بالأمر.فهدأني واعدا إياي، أن يجلب شكرية لي حتى لو كان ذلك في ليلة زفافها. فرفضت وقلت له :" الماي يسدونه من الصدر" وعندما وجدني مصمما، رافقني. وعندما وصلنا بالقرب من المحل المطلوب جلس والدي في ممقهى قريبة وطلب مني أن احضر له الرجل.

عندما وصلت محل الرجل الخاطب، لم أجده، إنما وجدت والده. فسألني عن حاجتي، فقلت له: "لدي كلمة أريد أن أقولها له". وعندما أستفسر هل من الممكن أن يسمعها، طلبت منه أن يرافقني الى المقهى المقابل للمحل حيث يجلس والدي. بعد السلام والتحيات قال والدي له: " سمعنا بأنكم تريدون أن تخطبوا إبنة أخي حسن. ألا تعرفون بأن لديها ستة أولاد عم أكبرهم جاسم ؟ "، مؤشرا عليّ . كنا جالسين أمام مرقد العباس؛ فأقسم الرجل بالعباس، ماداً يده بإتجاه قبة الضريح، بأن ماأخبروهم به هو إن البنت لديها أولاد عم صغار، وإلا لما عزموا على هذه الخطبة، وأعلن إنسحابهم فورا. علمت لاحقا بأن زوجة عمي هي التي حرضت أمي لدفعي الى هذا العمل المتخلف، لكي تمنع زواج إبنتها بأقرباء ضرّتها. لقد كنت أنظر دائما الى شكرية كأختي ولم يكن لديّ أي ميل تجاهها. وبسبب هذا الحادث، لم يقدم على خطبتها أحد. ولم يوصل أهلى  رسالتي الشفهية من السجن عام 1957 الى بيت عمي أعلن فيها إنسحابي. وبعد ثورة تموز1958، طلب إبن عمتي موافقتي على تزويج شكرية بإبنه رضا، عارضا عليّ  إختيار اي واحدة من بناته الأربعة. وافقت فوراًعلى إقتران شكرية برضا، وشكرته على عرضه رافضاً إياه بنفس الوقت. ولم يكن رفضي لقناعتي بأن الزواج يجب أن يتم بناء على تفاهم الخطيبين فحسب، بل ولأني كنت أميل الى فتاة معينة.

في الاول من كانون الثاني من عام 1950 التحقت بالجيش لاداء الخدمة الالزامية  لمدة ثلاثة أشهر، بعد أن دفعت البدل النقدي والذي كان 50 دينارا عراقيا. وقد قضيت المدة في مدينتي الحله والديوانية. في الديوانية كان ينام بالقرب منّي شاب يهودي اسمه صبحى ، ينتظر تسريحه من الجيش ليسافرالى إسرئيل. كنت الوحيد الذي يتحدث ويتمشى معه؟! في السينما الوحيدة في الديوانية شاهدت فلم (غزل البنات) ، من تمثيل وغناء ليلى مراد وأنور وجدي ونجيب الريحاني ، مرات عديدة. و منذ ذلك الوقت وأنا أحب كل أغاني  هذه الفنانة ، العظيمة ، و يدون إستثناء.

 عندما كنت في الديوانية شاهدت في أحدى المرات مشهدا لن أنساه ، و لا أشك أنه كان من التراكمات التي شكلت وعيي لاحقا . كان في الديوانية مبغى ( منزول ) عام و رسمي ، كما هو الحال في عدد من المدن العراقية الكبيرة كالبصرة وبغداد ... وكان أرتيادها ممنوعا على العسكريين. وقد تعرفت على جندي يساعد معارفه بأصطحابهم الي بيوت سرية، وقد ذهبت معه. قادني الجندي في أزقة ضيقة  وبيوت صغيرة وقديمة، وادخلني بيتا و من ثم، بسرعة، أدخلني في غرفة صغيرة، وجلسنا على كنبة قديمة، وكان في الغرفة رجل ضعيف غير حليق الذقن لا يتجاوز عمره الاربعين جالساً على الكنبة، أستقبلنا واقفا وجلس عند جلوسنا. وكانت هناك امرأة جالسة على الارض عمرها حوالي الثلاثين عاما لا أثر للوسامة في وجهها ، يشوب نظراتها الانكسار والاعتذار، ترضع طفلا قطعت رضاعته وتركته على الارض، عندما شاهدتنا، بجانب اخيه الذي كان يزحف بالقرب منها. وكان بجانبها بطانية قديمة، معلّقة، تفصل جزءا من الغرفة يتسع لسرير. لم أكن أصدّق ما أشاهده . نظرت الى صاحبي الجندي متسائلا... فأشر لي برأسه بأتجاه المرأة والبطانية؛ فأخبرته بعزمي على العودة الى المعسكر, وقد غادرنا الغرفة فوراً. و في طريق عودتنا، سألت الجندي بعض الاسئلة عن العائلة، فلم يجبني ، فخمّنت إن ذلك جزء من واجبات المهنة.

 وأنا أفكر ببؤس هذه العائلة,  قادني تفكيري ، مرة أخرى، الى البحث عن أسباب هذا البؤس، و عن المسؤول عن ذلك و كيف يرضى الله به ؟ ولماذا لايزيل هذا البؤس عن وجه الارض ؟ و ...الخ. مجرد أسئلة، لم أجد لها أجوبة ، ولاأعرف لمن أوجه أسئلتي، أو هل يجوز للمرء أن يطرح مثل هذه الاسئلة أصلاً ؟! .

 ومن الأسئلة المشابهة التي  كانت تحضرني، وذلك عندما كنت أتمدد على الفراش على سطح الدار في الصيف وأنظر الى السماء، فأتعجب لسعتها و للنجوم وكثرتها وكنت أعرف عند ذاك بأن الله خالقها ولكن كنت أتساءل عن الذي خلق خالقها ؟!. وبالرغم من إن أمي، وهي أيضا أمية كأبي، ردتني، عندما سألتها مرّة ، فزعة،  (أستغفر الله )، طالبة منّي أن أستغفره أيضا، وأن لا أعود لمثل هذه الأسئلة المحرّمة. ففد كان هذا السؤال يفرض نفسه عليّ، منذ أن كان عمري حوالي أثنى عشر عاما. وبعد سنين طويلة، وبعد أن توفرت لي فرصة لدراسة الفلسفة وتاريخها منهجياً في معهد العلوم الإجتماعية في موسكو ، عرفت بأن هذا السؤال يتعلق بمسألة أصل الوجود، التي حيّرت الفلاسفة منذ قديم الزمان، ولا تزال الاجابة عنها مختلفة؛ وأن المعرفة البشرية هي ثمرة هذا الاختلاف و صراعه.  

تحررت من رقابة والدي بعد أن تسرحت من الجيش. وفي الواقع، كانت تلك الرقابة قد خفًت قبل ذلك بسنتين تقريباًً. وتبعا لذلك أخذت تنشأ لديّ علاقات مع الشباب جلاّس مقهى الطرف، أسافر معهم الى بغداد والى الهندية (طوريج) ــ تبعد 30 كيلو متر عن كربلاء ــ حيث توجد سينما صيفية ومحل لبيع المشروبات الكحولية (وهذه كانت ممنوعة  في كربلاء وفي المدن المقدسة الاخرى في العراق مثل النجف والكاظمية... ). يعد ذلك نشأت لي علاقات مع بعضٍ من زملاء الدراسة الأبتدائية واصدقائهم. مجموعة الشباب الأولى لم تكن متعلمة، ولكن المجموعة الثانية كانت متعلمة. كنا نتناقش في جميع الامور ما عدا الأمور السياسية فكان التطرق اليها نادراً، وكانت وجهتنا العامة تقدمية، تميل الى الواقعية وتبتعد عن الغيبيات.  ومن أوساط هؤلاء تكوّنت لديّ صداقات وعلاقات بعضها مستمرة الى يومنا هذا.

في تلك الفترة وبسبب العطالة، أخذت أجلس في المقاهي التي يلعبو ن فيها الدومينو. وتطوراللعب على الشاي الى اللعب على النقود، ومن الجلوس في المقهى الى الجلوس في غرف سرية خلف المقهى، بل وحتى في بيوت خاصة للعب القمار.لم تدم هذه الفترة أكثر من ثلاثة أشهر، وقد تركت هذه العادة السيئة بشكل حاسم، ولم أعد اليها مطلقاً. لقد شهدت كيف يرهن أحدهم عباءته والآخر ساعته وثالث أسطة بناء يخسر المقدمة التى قبضها لكي يباشر العمل، فيتحايل على الزبون ليأخذ المزيد، ويلعب لأسترجاع ما خسره وإذا به يخسر مرة أخرى؛ فيلجأ للتخفي والتهرب من الزبون. وفي إحدى المرات كان لديّ مبلغ، هو كل ما تبقى كرصيد للعائلة في نهاية موسم العمل، فخسرته بالغش؛ فإكتشفت الأمر. وقد كان معي في مجموعة اللعب أحد أقربائي؛ فتشاجرنا وأسترددنا المبلغ الذي خسرته. على أثر ذلك تركت القمار الى الأبد، كما أسلفت. فقد كانت فكرة خسارة المبلغ المذكور، والتي ذقت طعمها فعلا لدقائق قبل أكتشافي الغش، ترعبني. الأنطباع الراسخ الذي خرجت به من التجربة، هو إن المدمن على لعب القمار(القمرجي) عديم الشعور بالمسؤولية تجاه نفسه وعائلته والمجتمع.

مدينة كربلاء إحدى المدن المقدسة، لاسيما لدى المذهب الشيعي في الدين الأسلامي. يؤمها الكثيرمن الزوّار من مختلف محافظات العراق، وكذلك من بلدان شتى بينها بلدان كبيرة، كإيران والهند وباكستان وتركيا وافغانستان و...الخ. كانت المدينة قبل نصف قرن متوسطة الحجم يقطنها حوالي 80 ألف نسمة.  تحيط بالمدينة بساتين عامرة بالنخيل والأشجار المثمرة التي تنتج مختلف أنواع الفواكه والتمور والخضرالتي تسدالحاجة المحلية ويزيد منها للتصدير, المدينة قديمة و كئيبة. لا يوجد في المدينة سينما، الموسيقى والغناء ممنوعان في محيط صحني الحسين والعباس. وممنوعان في كل المدينة شهري محرم وصفر، وكان ذلك مصدر إستياء بعض الشباب، خاصة أولئك الذين لايملكون راديو. وكانت كثرة الطقوس الدينية ولا معقولية بعضها كالتطبير والزنجيل و...الخ تستفزعقول بعض الشباب وتدفعهم للتفكير حتى بالمسلمات، وكنت واحدا منهم.