جاسم الحلوائي
الأحد 18 /12/ 2005
ذكريات
القمع الوحشي
( 1 )
جاسم الحلوائي
فلا غرو من أن يحمل عزة الدوري معه 500 نسخة من صحيفة
"الراصد"، اخذها من المطبعة بنفسه، عند سفره الى السعودية
عربونا للحلفاء الجدد. وقد وصلتنا في حينها رسالة تتضمن
الخبر المذكور من عامل يعمل في المطبعة التي طبعت الصحيفة
المذكورة.
نعود الى رد فعل البعث على تقرير اللجنة المركزية في آذار
وعلى الإنقلاب في أفغانستان، فقد إعتقلت سلطة البعث
المجرمة وقدمت للمحاكمة عدداً من الرفاق وأصدقاء الحزب
العسكريين والعاملين في القوات المسلحة بتهمة التآمر على
نظام الحكم وحكمتهم بالإعدام!! ونفذ حكم الإعدام بواحد
وعشرين منهم في 18 و 19 أيار1978. وبعد وصول برقيات
المطالبة بإيقاف الإعدامات من برجنيف وغيره من رؤساء الدول
الإشتراكية، أعدم عشرة رفاق آخرين في 27 و 28 و 29 أيار!!
في 28 أيار عقد إجتماع طارىء للجنة المركزية وترأس
الإجتماع الفقيد زكي خيري لغياب الرفيق عزيزمحمد خارج
البلد. لم يكن تدهور الوضع السياسي محل نقاش ويتحمل
مسؤليته البعث ماعدا صوت خافت يحمل الحزب قسطا من
المسؤولية جراء محتويات تقرير اللجنة المركزية في آذار.
ولم يكن هناك خلاف على ضرورة إتخاذ تدابير الصيانة. وكان
هناك رأي غالب يدعو الى السعي لإيقاف التدهور في الوضع
بخلفيتين مختلفتين، واحدة تدعو لذلك لكسب الوقت وللتغطية
على تدابير الصيانة، والأخرى تأمل بعودة المياه الى
مجاريها مع البعث. ولم أكن مع القسم الأخير. ولم يصدر من
الإجتماع أي بيان. وفي حزيران عقد ثاني إجتماع طارىء للجنة
المركزية لم يختلف في نتائجه عن الأول ، سوى إن صوت
المطالبة بالإسراع في إتخاذ تدابير الصيانة والرد على حملة
البعث الإعلامية كان أقوى.
تولى المكتب السياسي وضع خطة لتدابير الصيانة. عرفت لاحقا
إن أهم ما فيها تشكيل قيادة ظل من الرفيق عمر على الشيخ
عضو المكتب السياسي مسؤولا وعضوية الرفيق سليمان يوسف عضو
اللجنة المركزية والشهيدة عائدة ياسين العضو المرشح للجنة
المركزية. وربطت بهم منظمات وكوادر وهُيأت لهم أجهزة
طباعة. وتقرر فرز التنظيمات والرفاق المكشوفين وربطهم
بالرفاق العلنيين، وإعتماد اللا مركزية في العلاقات
التنظيمية. وتقرر كذلك إنتقال ثلث أعضاء اللجنة المركزية
الى الخارج. ووزعت سكرتارية اللجنة المركزية ( سلم )
بإقتراح من لجنة التنظيم المركزي ( لتم ) مبالغ من المال
على شبكة واسعة من الكادر وإخفاء مبالغ أخرى في أماكن
مختلفة ظلت تحت سيطرة المكتب السياسي حتى بعد خروجنا من
العراق.
وبغياب سكرتير اللجنة المركزية الرفيق عزيزمحمد، وبغياب
مساعده الرفيق باقر إبراهيم، عقد القائم بأعمالهما في (
سلم ) الرفيق عمر علي الشيخ إجتماعا لسكرتارية اللجنة
المركزية، التي لم يبق من أعضائها سوى ماجد عبد الرضا
وأنا، لدراسة تدابير الصيانة. فقدمنا قائمة طويلة من
المقترحات ،عرفنا، فيما بعد، بأن المكتب السياسي شطب حوالي
40% منها بحجة إنها تخلق تطيراً في المنظمات.
بعد فترة إكتشف البعث بان الحزب يعتزم التحول الى العمل
السري . فقد كانت بعض التدابير تتم في المقرات العلنية -
مثل نقل أجهزة الطباعة - التي تخضع لمراقبة متنوعة مثل
الإنصات والكامرات الخفية. فغيرت السلطة خطتها من القضم
التدريجي بالحواشي والأطراف وبالمنظمات الأبعد كالبصرة
والمحافظات الجنوبية الى الإنقضاض على جميع المقرات
وقيادات المنظمات، وشملت الإعتقالات أعضاء وأعضاء مرشحين
للجنة المركزية مثل عادل حبة وكاظم حبيب وفخري كريم و محمد
جواد طعمة ( أبو زيتون) وتعرض بعضهم للإعتداء. واعتقل
لاحقا الرفيق ماجد عبد الرضا عضو سكرتارية اللجنة المركزية
. وإتبع نظام البعث الساقط مختلف الأساليب الدنيئة
والوحشية لتغيير معتقدات المناضلين السياسية والفكرية
وإنتزعت في تلك الأجواء الإرهابية الفظيعة تواقيع الألوف
من المناضلين على تعهد لا مثيل له في التاريخ، يؤدي بموقعه
الى الإعدام إذا ما عاود نشاطه السياسي السابق!! وهكذا فقد
تجاوزت الأحداث خطة المكتب السياسي لتدابير الصيانة وصرنا
أمام أمر واقع جديد، الا وهو التراجع غيرالمنظم في إطار
رؤية غير واضحة سياسيا، وتبعا لذلك غير واضحة تنظيميا.
واصبحت المهمة هي محاولة إضفاء بعض التنظيم على التراجع.
وإعتمدت على الكادر المتطوع لها. وكنت أحدهم فتقرر بقائي
في المقر العام كآخر رفيق مركزي.
× × ×
في بداية تشرين الأول أخبرتني إبنتي شروق، وكانت في الصف
االثاني المتوسط، بأن رئيسة الإتحاد الوطني لطلبة العراق
في مدرستهم قد إستدعتها وقالت لها:
ـ إنك الوحيدة التي لم تنتمي للإتحاد ، ويجب أن تنتمي!
ـ انا لا أنتمي للإتحاد، إن والدي عضو اللجنة المركزية
للحزب الشيوعي العراقي، وخالي إستشهد تحت التعذيب بيد حزب
البعث، أجابت شروق، ما لقنته أمها لها لمثل هذه الحالة،
وهي ترتجف من الخوف.
ـ احنا نعرف ... نعرف كل شيء عن أبوك ، سأعطيك فرصة
إسبوعين للتفكير.
ذهبت، قبل إنتهاء المهلة، للمدرسة وإلتقيت برئيسة الإتحاد
. وقد أخبرتها بأني ولي أمر شروق ولا أوافق على إنتمائها
لمنظمتهم. نظرت الي نظرة وعيد، وإنتهى اللقاء. لم تعد
رئيسة الأتحاد تضايق شروق. ولكن شروق كانت تشكو لي من
عزلتها في المدرسة. خفت عليها أن تتعقد. إستفسرت من الفقيد
حميد بخش ( ابو زكي)، الذي كان قد أرسل زوجته البلغارية
وطفليه توا الى بلغاريا، وكان عضوا في لجنة التنظيم
المركزي وأنا مسؤولها، عن مدى إمكانية الدراسة لأعمار مثل
سن شروق في بلغاريا، فأجابني:
ـ أبو شروق الحجي بيناتنا ، لأن أخاف يسمعونه ويعتبروني
متطير، البعث ما راح يخلي لا شروق ولا أم شروق ولا أخوشروق
ولا عائلة أي كادر حزبي، يجب التهيؤ لإخراج الجميع الى
خارج البلاد.
ـ هيجي تشوف؟
ـ بالضبط.
وكما أشرت آنفا فقد رفضت، بعض مقترحات (سلم) واعتبرت
تطيراً، من قبل المكتب السياسي وكانت أخف بكثير من مقترح
أبو زكي.. وعندما أستحضر الآن أجواء بداية تشرين الأول
1978، أرى بان تعميم مقترح أبو زكي كان من شأنه أن يخلق
الرعب في أوساط البقية الباقية من الكوادر والتنظيمات. ولا
يساعد على إضفاء بعض التنظيم على التراجع غير المنظم. وفي
نفس الوقت كان رأي أبو زكي صحيحا وبالتالي يجب إتخاذ
التدابير الضرورية له. كنا في مأزق حقيقي. وهذا مثل واحد
على المأزق الذي كنا فيه عند تصدينا لمعالجة تدابير
الصيانة في تلك الفترة. هذا على صعيد الموقف العام . أما
على صعيد الموقف الشخصي فقد كنت مقتنعا برأي أبو زكي؛
فطلبت من أم شروق أن تجدد جواز سفرها وجوازات الأبناء في
أول فرصة. وكانت الجوازات تجدد في بداية السنة، فجددتها في
اليوم الثاني من سنة 1979، وأمنتها خارج البيت في مكان
لايمكن أن تطاله يد.
يتبع
*
انني استخدم كلمة الرفيق مع اسماء
الاشخاص الذين كانوا اعضاء في الحزب الشيوعي العراقي في
حينه ، بصرف النظر عن مسار تطورهم اللاحق .
[1]ـ
أنظر
د. رحيم عجينة، الإختيار المتجدد ص 97 و 134.