| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

 

الجمعة 12/8/ 2005

 

 

 

ذكريات - العودة للوطن

( 1- 2 )

 

جاسم الحلوائي 

عندما حدث إنقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، كنت في المدرسة الحزبية العليا في صوفيا عاصمة بلغاريا . وقع الخبرعلينا ، نحن الموجودين في المدرسة ، وقع الصاعقة . ومن اللحظة الأولى لسماعنا الخبرأدركنا بأن هدف الإنقلاب ليس إسقاط حكم الزعيم عبد الكريم قاسم حسب ، بل وتصفية الحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية . ولم يطل بنا الأمر كثيرا، حتى سمعنا بإعدام الرفيق سلام عادل ورفيقيه محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة وبالتصفيات الجسدية لكوادر الحزب وأعضائه وتحطيم اغلب منظماته .

كنا نعيش وضعا نفسيا صعبا، فيما نسمع من بعيد ما حل بالوطن والحزب دون ان نتمكن من تقديم يد المساعدة . تحمسنا جميعا للعودة الى الوطن للمساهمة في إعادة بناء الحزب، وكان تحمسي للعودة كبيراً على الرغم من بداية دراستي للمنهج المقرر، بعد دراسة اللغة البلغارية. وكان معي في المدرسة كل من ناصرعبود وعبد الرزاق الصافي وحسين جواد القمر وزوجته ناهدة العبايجي وسليم المرزه وزوجته عميدة الرفيعي وحميد الدجيلي وحميد بخش وبيتر يوسف ونوزاد نوري.

 يعد بضعة أشهر من الإنقلاب أخبرني المسؤول الحزبي لفريقنا الدراسي ، ناصر عبود ، بأنني سأعود الى الوطن. لم أتمكن من حبس دموع الفرح ، وأنا أعانقه ، تعبيرا عن شكري لهذه البشرى. سافرت، بعد فترة قصيرة، الى براغ عاصمة جيكوسوفاكيا. ودخلت هناك دورة تأهيل للعودة مع رفيقين آخرين وهما خضر سلمان وعدنان، لا أذكر إسم أبيه، وكنت مسؤولهم الحزبي في البيت. كنا نقيم وندرس في فيلا تقع في منطقة ريفية جميلة قرب مدينة ملادابوليسلاف التي تبعد حوالي 70 كيلو مترا عن العاصمة براغ؛ وحوالي كيلو مترين عن الفيلا يوجد مقهى يتحول الى مرقص في نهاية الأسبوع لشبيبة المنطقة ومراهقيها. لم نكن نرتاد المقهى ،  إلا عندما يتعذر علينا النزول الى براغ. لأننا كنا ندخل المقهى نحتسي البيرة ونجلس كغرباء معزولين، لإنشغال الآخرين عنا. كنا نحب الرقص ولم تنقصنا الجرأة لطلب فتاة للرقص معها، الا إننا لم نحاول ذلك إطلاقا، لعدم توفر الأجواء الملائمة. وذلك خلافا لما عليه الحال في براغ، وخاصة في المراقص التي يرتادها اناس من جيلنا،  في عقد الثلاثين.

كانت الدراسة مكرسة لتعليمنا فنون العمل السري. ومع إن المعلومات لم تكن تنطبق على ظروفنا من بعض النواحي ،  لإستنادها  على تجارب اوربية أو مخابراتية، ولكنها لم تكن تخلو من فائدة. إنتهت الدراسة و لم نتجه الي الوطن.

كان حسين سلطان عضو اللجنة المركزية مسؤولنا الحزبي، يزورنا كل بضعة أسابيع، ينقل لنا آخر الأخبار وبعض الصحف العربية ويعدنا بقرب السفر. أخذ الملل والضجر يدب في نفوسنا. كنا ننزل الى براغ في نهاية كل أسبوع لنقضي  فيها يوما نتجول في شوارعها الجميلة وخاصة في ميدان فلاديسلاف و نجلس في  مقاهيها ومطاعمها االرائعة ونعود باكرا في اول باص الى الفيلا . كان المزعج في هذه السفرات هوإضطرارنا للإنتظار ساعة ونصف في محطة الباص، نقضي حوالي الساعة منها نرتجف من البرد، في ذلك الشتاء القارص، قبل أن يأتي الشغيل لإشعال المدفأة.

براغ مدينة جميلة ،  فألى جانب المباني التاريخية والقبب الذهبية والأزقة الضيقة، فهي مدينة أوربية حديثة تقع على ضفاف نهر فلتافا منذ أكثر من عشرة قرون. ويصل بين ضفتي النهر 14 جسرا أشهرها جسر كارل الحجري الذي يصل مركز المدينة بقلعة براغ التاريخية التي تشرف عليها من سفوح تلالها الخضراء. وتجد في براغ الكثير من المسارح و صالات العروض الموسيقية والمعارض الفنية. ومع الأسف الشديد لم أستمتع بهذه الإمكانيات الرائعة لا في ذلك الحين ولا في زياراتي اللاحقة الى براغ، إلا جزئيا. ولكن لم يفتنا زيارة الحمام التركي! وكانت هناك ثلاثة أمور  جديدة علي في هذا الحمام ، بالمقارنة مع حماماتنا، أوحتى الحمامات البلغارية. الأول: وجوب دخول المرء للحمام عريانا ( ربي كما خلقتني ). الثاني: وجود (ساونا) في الحمام وكانت المرة الأولى التى أشاهد ذلك وأستخدمه. الثالث: وجود مقلم أضافرومنظف القدمين الذي يستلم الزبون بعد إنتهائه من الإستحمام . كنت أستغرب من كمية الزوائد التي كان يستخرجها من قدمي اﻠ "نظيفتين". وقد علمت بأن الأمر لايتعلق بقدمي، بقدر ما يتعلق بالوسائل والأساليب المستخدمة. 

الجيكوسلوفاكيون مهذبون ، ونساؤهم جميلات ويتمتعن بسيقان جميلة ، إذ نادرا ماتجد أكثر من زوج من السيقان غير الجميلة بين كل خمسة نساء ، في حين لا تجد زوج من السيقان الجميلة بين مئة إمرأة بلغارية! زميلي في االمدرسة الحزبية في بلغاريا الرفيق عبد الرزاق الصافي وجدها فرصة ليخطىء إنطباعي السيء عن سيقان البلغاريات ، عندما كنا جالسين في احد الأيام في إحدى مقاهي صوفيا ، لينبهني الى جمال سيقان النادلة التي تخدم مائدتنا.  وقد خاب ظنه عندما اجابت الفتاة على إستفسارنا ، بأنها يوغسلافية الأصل!  .

كان لدينا طباخة جيكية ماهرة. سألتنا عما نشتهي من أطباق لكي تهيئها لنا. ولأننا نعرف بأن تهيئة مانشتهيه من الطبخ العراقي أمر صعب، ولرغبتنا في عدم الإثقال على مضيفينا، فقد شكرناها وتركنا هذا الأمر لها، بعد تقديم بعض المقترحات البسيطة، لتتصرف كما تشاء. في أحد الأيام أخبرني المترجم بأن الطبق الرئيسي لذلك اليوم سيكون لحم أرنب. طلبت منه أن لايخبر الآخرين، لأنني كنت أعرف بأن عدنان لايحب غير اللحوم االمألوفة في العراق. بعد أن إنتهينا من الأكل رحت أثني على جودة اللحم وإتفقنا ثلاثتنا على إنه كان لذيذا. عند ذاك أخبرتهم بأنه  لحم أرنب . فما كان من عدنان إلا وأن مسك بطنه وركض الى التواليت ليتقيء! وظل يتقيء الى أن فرغت معدته تماما ! عرفنا بعدئذ بأن لحم الأرنب موجود لدى بعض القصابين ويباع بوصفة طبية! لندرته وفائدته لبعض المرضى، لخلوه من الدهون. 

ادت الحالة النفسية السيئة التى كنا عليها، بسبب الإنتظار الطويل، الى نشوء توترات بيننا نحن الثلاث ولاسباب تافهة، الى الحد الذي كاد خضر سلمان وعدنان أن يتشاجرا بالأيدي أمام مضيفينا الجيك. ولتخفيف وطأة هذا الحدث على مضيفينا تحدثت مع معلمنا الجيكي شارحا له الظروف النفسية الصعبة التي نعيشها . فرد المعلم عليّ قائلاً: " بأن ما حدث بسيط، هناك قادة كبار أخذوا يتصرفون كالأطفال في هذا البيت بسبب الإنتظار. لأن الإنتظار أصعب شيء في حياة الإنسان في المنعطفات المصيرية والخطرة في حياته ". كان المعلم يتكلم الروسية وأنا البلغارية (اللغتان سلافيتان ). كنا نتفاهم ولكن ليس بدون مساعدة اللغة العالمية - لغة الإشارات.

 ظهر إن التريث في إرسالنا الى الوطن مصدره توقعات عن تغيرات في الوضع السياسي في العراق، لدى رفاقنا الجيك والعراقيين على حد سواء، من شانها توفير حد معين من الضمانات لسلامتنا. وفعلا حصل إنقلاب 18 تشرين الثاني 1963 الذي قاده عبد السلام عارف، وسقطت سلطة حزب البعث تحت وطأة جرائمه ونزعة إنفراده بالسلطة ولخوائه الفكري والبرنامجي ولإستفحال التناقضات بينه وبين شركائه في السلطة ولإنقساماته الداخلية. ولعبت دورا هاما ومشرفا في هذا المصير المشين تلك الحملة العالمية ضد الإنقلاب ولنصرة الشعب العراقي، التي ساهمت فيها الدول "الأشتراكية" وكافةالمنظمات الديمقراطية العالمية وإتحاداتها، وحركة الدفاع عن الشعب العراقي ، التي شكلت لجنتها العليا في براغ برئاسة شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري وعضوية د. فيصل السامر والفنان محمود صبري ود. نزيهة الدليمي ود. رحيم عجينة وعبد المجيد الونداوي وكمال فؤاد ونوري شاويس ومراد عزيز وغيرهم . وكان للجنة فروع في العديد من الدول . ولعبت إذاعة (صوت الشعب العراقي) دورا هاما في الحملة. وقد عرت الحملة طبيعة سلطة البعث الفاشية تعرية تامة وعزلتها عالميا .

وتوالت الأنباء عن كيفية هروب شراذم "الحرس القومي" مذعورين بشكل لايعرفون حتى كيفية التخلص من اسلحتهم وملابسهم الرسمية. وحصل إنفراج نسبي في الوضع السياسي . وأضحت عودتنا  متوقفة على توفير الأمور الفنية.

بعد بضعة أسابيع أطلعني الرفيق آرا خاجدور على جواز سفري المزور. الجواز كان لبنانيا، والمهنة تاجر، والعمر يقارب عمري ، اما الأسم الثلاثي، نسيت الأول والثاني، والثالث هو الحلوائي!!. نظرت  بدهشة الى آرا ومتسائلا : "لماذا هذا اللقب؟" فأنا معروف به. عرفت من آرا بأن لامعرفة لرفاقنا في ذلك وإن الطرف الجيكوسلوفاكي هو الذي زور الجواز. وأصبح من المتعذر إجراء أي تغيير آخر في نفس الجواز مما  قد يؤدي الى تلفه. أما طلب تغيير الجواز فربما قد يفسر تهربا من العودة للوطن . أخبرت آرا بأني سأسافر به مادام الأمر على هذا النحو. لم أفهم مغزى تثبيت لقبي في الجواز. هل لكي لا أنساه كما نسيت الإسم الأول والثاني؟!

تقرر سفري بعد عيد رأس السنة الجديدة. ومن المعروف إن براغ  تحتفل بهذا العيد بشكل متميز ويصلها الكثير من السواح من خارج البلد وكذلك من المحافظات للإحتفال فيها بهذه المناسبة. وتتحول جميع مطاعم براغ دون إستثناء الى صالات لعروض فنية مسلية ومدهشة والى عزف موسيقي لكل أنواع الموسيقى الراقصة من التانكو الى الفالس مرورا  بالسامبا والرومبا والتويست والروك اند رول ، فينجذب جميع الرواد الى الرقص. وكثيرا ما تطفىء الأنوار لفترات قصيرة لفسح المجال للعشاق والمحبين للتعبير عن أشواقهم وحبهم بعيدا عن الأعين المتطفلة  للآخرين. وهناك صالة كبيرة تتسع لبضعة آلاف يحتفل فيها الشباب والشابات وتقع في أطراف المدينة . لم نتفق نحن الرفاق الثلاث على طريقة الإحتفال بالعيد، فخطط كل منا لنفسه كيفية الاحتفال بهذه المناسية .

يتبع