| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جواد بشارة

 

 

 

                                                                                    الخميس 9/2/ 2012

 

فهم الكون المرئي لغز دائم
(4)

جواد بشارة  - باريس
jawadbashara@yahoo.fr

الكون الواعي والحي:
لم تنقطع البشرية عن التساؤل بشأن العالم الذي تعيش فيه وتظل تبحث عن إجابات بخصوص الأسئلة الجوهرية والوجودية التي تؤرقها والتي تطرقنا إليها في دراسات سابقة، والحال أن معداتنا وأجهزتنا العلمية الحالية لا تتيح لنا أن نرى أبعد مما نستطيع حالياً. وأمام هذا العجز التقني، نطلق العنان لعقولنا وأفكارنا ومخيلتنا أو تخيلاتنا لتجاوز المحسوس والمقاس أو القابل للقياس لنسبح في اللامجهول وعالم الما ـ وراء. وبالتالي لا نملك، في بحثنا في عالم الميتافيزيقيا، سوى وسيلتين هما " الإيمان والعقل la foi et la pensée "البعض اختار أن ينظر للعالم بعيون الإيمان كالمتدينيين ورجال الدين والمؤسسات الدينية التقليدية، لهذا يعتقد هؤلاء أن النظام الطبيعي للأشياء L’ordre naturel des choses هو ثمرة لتدخل إلهي ما intervention divine. ونلاحظ أنهم يقاومون تحديات العلم وإنجازاته مع علمهم أن الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا الرقمية التي يستخدمونها كل يوم هي نتيجة لدراسة الذرة من قبل العلم وفك أسرارها والبحث فيما دونها، أي في اللامتناهي في الصغر والمعروف بعالم الكموم أو الكوانتا monde quantique بيد أنهم لا يمنحون هذا العلم أية مصداقية بمجرد أن يتعاطى مع المسائل الكبرى كأصل الكون وأصل الحياة والحياة ما بعد الموت وغيرها. يمكن وصف هذه الفئة من الناس الذين يؤمنون بالغيبيات بــ " ما فوق أو ما وراء الطبيعيين surnaturalistes «، أو الروحانيين spiritualistes. في حين اختارت فئة أخرى من البشر أن تنظر للعالم بعيون العقل وحده، لذلك صاروا يعتقدون أن الظواهر الطبيعية phénomènes naturels تعود لأسباب متجذرة في قلب القوانين الطبيعية الثابتة immuable الدائمة والتي لا تتغير، وإن المنهجية العلمية هي المقاربة الوحيدة المقبولة والصالحة والقابلة للإستمرار viable للوصول إلى تلك القوانين وتأسيساً عليها تشييد أساس عقلاني للطبيعة وعملها. ولا يلجأ هؤلاء إلى أية تفسيرات خارقة للطبيعة surnaturelles أو غيبية لمعرفة المجهول L’inconnu ويمكن وصف هؤلاء بــ" الطبيعيين naturalistes أو العقلانيين rationalistes". يوجد قسم قليل من بين هؤلاء العقلانيين من يتعاطى بحذر مع الإيمان ويربطه بالعقل، كل ما في الأمر بالنسبة لهم هو أن يعرف الإيمان تعريفاً عقلياً باعتباره:" الاعتقاد croyance غير المثبت بشيء ما، وإن الطبيعة الروحية أو الطبيعية المادية لهذا ـ الشيء ما ـ هي التي تميز بين الروحانيين والعقلانيين. ويعتقد كثير من المتابعين أن آينشتين Einstein يدرج من بين هؤلاء التوفيقيين حيث كان آينشتين يعتقد بأنه "لا الإيمان وحده ولا العقل وحده كافيان بذاتيهما لكشف الحقائق وأن أحدهما يغذي الآخر" واشتهر بعبارته التي تقول :" العلم بدون الدين أعرج والدين بدون العلم أعمى" بيد أن " إيمان" آينشتين لا يستند على علة فوق طبيعية أو خارقة للطبيعة surnaturelle غير قابلة للشرح والتفسير inexplicable بديلا عن النظام الأفلاطوني système platonicien للطبيعة، المختفي في قلب الواقع، والتي كان من حظ النفس البشرية، وبفضل العلم، أن تكشف عن بعض جوانب ومكونات وشظايا fragments هذا الواقع. وبصفته من شيوخ دعاة التوحيد في الفيزياء النظرية الحديثة، اعتقد آينشتين أن النظام الذي وجدناه في الطبيعة، والقوانين الرياضية الدقيقة التي تصف الحركات والتفاعلات والتداخلات في الأجسام المادية، ليست سوى انعكاس لترتيب وتنظيم وتناسق ولقانون ordonnance أعمق. أي أن هناك قوة ما ورائية غير منظورة تقود وتتحكم وتسير العالم المادي. لذلك صرح آينشتين يوما ما قائلاً:" لم أحاول أن أتخيل إلهاً شخصياً خالقاً بل أكتفي بهذه النشوة التي تنتابني إزاء هذا الكون المحكم في تنظيمه على قدر ما تسمح به حواسنا البشرية المحدودة لتقدير عظمته ولغز وجوده".

ثم أعلن آينشتين مدافعاً عن نفسه في معمعة الحملة الظالمة التي شنتها عليه الكنيسة الانجليكية البروتستانتية في أمريكا :" ما قرأتموه عن موضوع إيماني وتديني مشوه وكاذب ولقد كرره خصومي وأعدائي بذكاء وعلى نحو مدروس ومتعمد وأقول وأكرر أنني لا أؤمن بإله شخصي ولم أفكر في ذلك أبداً، بل على العكس، وكل ما في الأمر أن ما في داخلي من يسميه المغرضون بالتدين إن هو إلا إعجاب غير محدود بهذا الكون المحكم والمنظم والمتسق حسب ما استطعنا كشفه بواسطة مستوانا العلمي لحد الآن". وهذا بالطبع ليس إيمان غيبي وأضاف :" إن موقفي يفتقد للإيمان التقليدي الغيبي ومع ذلك لم ـ أنسب مطلقاً للطبيعة أي هدف أو دور أو أي شيء يمكن فهمه على أنه إيحاء بسرمدية وكل ما أراه في الطبيعة هو بنية مدهشة لكننا نفهمها بشكل ناقص في أفضل الأحوال ولا علاقة لذلك بالروحانيات الدينية والجن والعفاريت والملائكة الذين تزدحم بهم النصوص الدينية المقدسة ". وفي الختام نستطيع ترديد جملة آينشتين الشهيرة :" أنا أؤمن بإله سبينوزا الذي يتجلى ويكشف عن نفسه عبر هارمونية الطبيعة والكون، ومن خلال ذلك التآلف لكل الموجودات فيه، وليس بالإله الذي تسوقه الأديان والذي يشغل نفسه ويهتم بمصير البشر وأفعالهم وتصرفاتهم، فإلهي لا يلعب بالنرد". فالعشوائية ليست من صميم الأشياء كما يعتقد آينشتين وإن بداية الكون قد تكون مختلفة عما كانت عليه في عقول البشر . وهو يعبر عن إحساس دفين وغامض بأن خلف ما نعرفه ونحس به يوجد شيء ما لا نستطيع إدراكه في الوقت الحاضر وقد نسبر كنهه يوما ما، وهذا الشيء يهزنا ويرهبنا بجماله وسموه وتألقه وإن كان بصورة غير مباشرة وقد تكاد تكون غير محسوسة بالنسبة لكثيرين ". وقد أعرب عن أفكاره هذه في كتاب :" أفكار آينشتين الحميمة pensées intimes d’Einstein الصادر سنة 2000 . وكما قال العالم الفذ كارل ساغان :" لو كنا نعني بمفردة إله القوانين الطبيعية التي تحكم الكون وتسيره فهو بالتأكيد موجود لكنه لا يشبع رغباتنا العاطفية لأنه من غير المجدي أن نصلي ونعبر ونطلب الغفران من قانون الجاذبية مثلاً". فمفردة الله غالباً ما تستخدم على لسان العلماء بمعناها المجازي أو الرمزي لذلك نجد رجال الدين يغلفون فكرة الإيمان الغيبي بهالة من الاحترام والتقديس وتحريم الاقتراب منها أو انتقادها أومناقشتها عقلياً .

لم يجد آينشتين أي مبرر للجوء إلى الدوغمائية الدينية التقليدية لتفسير الظواهر الطبيعية لاسيما الغامضة منها فبالنسبة لمن يعتقد بقانون العلية والسببية لايمكن أن يصدق فكرة الخالق الذي يتدخل في سياق ومجرى الأحداث لأن كائن علوي يحاسب ويعاقب، سرعان ما يتحول في نظر الإنسان الواعي والمفكر إلى كائن غير مقنع وغير ضروري، لأن الإنسان لم يخلق نفسه وبالتالي فالذي خلقه هو المسؤول عن أفعاله كإنسان لا يتصف بالكمال والعصمة أي أن على الله أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب مخلوقه الذي خلقه ناقصاً وليس كاملاً، على أفعال هو ليس مسوؤلاً عنها لأنها ناجمة عن قصوره الذاتي وعدم كماله وعصمته، من هنا تبدو فكرة حرية الاختيار التي تركها الله للإنسان ليست سوى خدعة كبرى أو فخ. وقد اكتفى آينشتين بوضع حدس مذهل لافتتانه بالكون ومواجهته للمجهول الكوني، وفي مواجهة هذا الغموض حاول جاهداً صياغة تعبير محدد في عقله للبناء الرائع للوجود برمته. وكان واثقاً بقدرة العقل الإنساني في حل الألغاز الكونية الصعبة إذا تمكن من التخلص من العادات والمسلمات الاستبدادية التي تفرضها الأيديولوجيات الدينية.

يقودنا ما سبق إلى القول أن البشر كائنات عاقلة ومفكرة تبحث عن معنى sens، أي أننا نسعى ونجهد بكل السبل لنفهم لماذا يوجد العالم على الهيئة التي يبدو فيها للناظر أي كما هو عليه حاله الظاهر؟ ولماذا نبدو نحن على هذه الهيئة وبهذه الصورة؟ وإننا غالباً من نسند أو نعزي attribuerons أسباباً وعللاً على الظواهر، تخدم هدفاً ما، لكي نستوعب كيف يمكن للطبيعة أن تكون مختلفة. وعندما ننظر للعالم نرى النظام في كل زواياه وفي كل مكان فيه ، أو هكذا يبدو لنا ظاهرياً، على غرار ما نلاحظ تعاقب الليل والنهار وتعاقب الفصول وكيف يؤثر ذلك على نمو وتكاثر النباتات وعلى سلوكيات الحيوانات وننتبه لحركات الأجرام السماوية المنتظمة، وتشخيصنا لدقة وصرامة وقوة وكفاءة facultéقوانيننا الرياضية في وصفها لجزء من هذا العالم المحيط بنا. ولكن هل تخبرنا تلك القوانين بأن الطبيعة تعرف مسبقاً إلى أين تسير؟ أو يمكنها أن تعرف أن هناك هدف للكون وماهو هذا الهدف؟ وهل تستطيع أن تثبت لنا بأن هذا الكون حي وواعي لذاته وبأننا ، على نحو ما، النتيجة الحتمية لهذا السيناريو الكوني scénario cosmique ؟ وكان العالم الفيزيائي الكبير جون ويلير John Wheeler يتساءل دوماً :" كيف ظهر الوجود" ؟؟ وتناول العالم الفيزيائي بول ديفيز Paul Davies في كتابه الممتع الجاكبوت الكوني Le jackpot cosmique – cosmic jackpot نفس المسائل التي تهم ويلير وحاول الاقتراب من أجوبة ممكنة توسلت بمفاهيم غريبة مثل الكون الحادث أوالعرضي univers accidentel أي الذي إنوجد بفعل حادث عرضي ، أو الكون العبثي univers absurde أي الذي إنوجد هكذا بلا هدف معين أو معروف بتعبير آخر كان وجوده عبارة عن حالة عبثية. وعندما نقول أن الكون حادثي عرضي فهذا ينسحب أو ينطبق على الحياة التي ظهرت فيه، أي لا يوجد أي هدف لهذه الحياة ولا لأي شيء في الوجود بالرغم من تمكن البشر من تطوير ملكة فكرية وعقلية ووعي وذكاء قادر على طرح تساؤلات فهي لا تخرج عن نطاق الحادث العرضي. إن دعاة التوحيد الفيزيائي أو المتدينين ورجال اللاهوت والكهنوت ورجال الدين في كل الأديان يعتبرون هذا الموقف ـ أي تبني مفهوم الكون الحادث أو العبثي ـ نوعاً من الاستسلام أو الاستعفاء والتنازل démission فالقبول بالطابع الحدثي أوالعرضي caractère accidentel للصيرورات الفيزيائية ـ الكيميائية الحاصلة في الطبيعة، يعني التخلي عن نزعة البحث عن العلاقات الأعمق الموجودة بين الحياة والوعي والكون. وإن تعبير الكون العبثي يظهر لوحده التقييم والحكم السلبي لهذه النظرة أو الرؤية vision ويكشف صعوبة تخيل أن يكون الكون خالياً من المعنى sans signification وأنه لا وجود لأي قانون سري أو خفي secrète ـ سواء كان علمي أو إلهي ـ لتبرير وجودنا. والحال أنه لا يمكن لكون يولد كائنات حية وعاقلة وواعية على إحدى كواكبه كالأرض وفي غيرها من الكواكب والأنظمة الشمسية المتشابهة أو المتباينة والمتنوعة التي تملأ مجراته التي تعد بمليارات المليارات، ويكون بلا معنى وعبثي كما يعتقد التوحيديين في الفيزياء أو الخلقيين أو أتباع نظرية الخلق المباشر لأن ذلك سيعني أن وجودنا فيه عبثياً وأننا جئنا إلى الحياة هكذا صدفة وبلا هدف وهذا ما لن يقبله هؤلاء على الإطلاق. وبالنسبة للعقلانيين فإن التفكير بأنه ليس للكون معنى أفضل بكثير على الاعتقاد بأنه ـ أي الكون ـ وهم معه، موجودون بفعل خطة كونية مدبرة ومسبقة وغامضة أو لغزية plan cosmique mystérieux لأن ذلك يعني أن ظهور الحياة في كون عبثي يجعلها نادرة وفريدة من نوعها وحدثاً استثنائياً بعيداً عن النوايا الإلهية الميتافيزيقية ومآربها. فخلال آلاف السنين اعتقد البشر أنهم محميون من قبل الله أو من قبل عدد من الآلهة مختلفي الاختصاصات وإنهم تم اقتنائهم أو اختيارهم من بين عدد لا نهائي من الكائنات وتمت حمايتهم من الانقراض والدمار النهائي وسيبقون كذلك إلى أن تحين الساعة الموعودة في يوم الميعاد والقيامة ليقفوا بين يدي خالقهم في المحاكمة النهائية ليحاسبوا عما فعلوه ويتعرضوا لعذاب أليم، وهذا السيناريو الكارثي يحرم البشرية من القدرة الذاتية على المقاومة والقدرة على البقاء على قيد الحياة والاستمرارية أو الديمومة بقوتها الذاتية والعقلية لبلوغ مرحلة الخلود. وعندما يشير العلم إلى أن الحياة ظهرت كنتيجة حتمية معدة سلفاً أو مقصودة aboutissement prémédité من تظافر ظواهر طبيعية داخل كون عازم على الوصول إلى هذه النتيجة المحددة déterminé فإن ذلك يعني أن العلم يضع البشرية في مصاف الآلهة ويقدم لها نفس النوع من الحماية الإلهية الغيبية. فإذا فشلت الحياة في الظهور والنمو والتطور على هذا الكوكب أو ذاك فبإمكانها أن تنشأ وتنجح على كوكب آخر من بين مليارات الكواكب المشابهة له. ويعتقد البعض أن حضارات متطورة جداً تقوم باستمرار بتأهيل كواكب قاصرة أو شبه عافرة وتزويدها بالخصائص والمستلزمات التي يتطلبها نشوء وارتقاء الحياة فيها لكي تكون قادرة على احتضان الحياة فيها. كما يعتقد أنصار التوحيد les unificateurs سواء للنظريات الفيزيائية أو أتباع الفكر التوحيدي الغيبي، بوجود خطة كونية كبرى grand plan cosmique أو بنية رياضية فائقة hyper structure mathématique تربط بين كل ما هو موجود ، مرئي أو خفي ، وتتضمن في طياتها تفسير الأصل لهذا الكون المرئي ولخصائص الجسيمات الأولية المكونة للمادة وإن كل ما في الطبيعة نابع من، وخاضع ومستنتج se déduit من هذه الصيغة formulation المعروفة بإسم " نظرية كل شيء أو النظرية الجامعة والموحدة théorie du tout. إن وجهة النظر هذه شهدت صيغتين version، واحدة معتدلة modérée والأخرى متطرفة أو راديكالية radicale. وحسب هذه الأخيرة فإن كافة خصائص الكون والمادة تنحدر أو تنجم découlent عن هذه الصيغة الوحيدة بدون أية حرية في اختيار المعايير paramètres. فالنظرية بنيت إنطلاقاً من علاقات رياضية جامدة relations mathématiques rigides تعكس حالة التجانس والتماثل la symétrie القصوى. أما الصيغة المعتدلة فتسمح بوجود عدة نظريات توحيدية، كل واحدة منها تصف واقعاً مستقلاً باعتباره أحد مكونات نظرية الأكوان المتعددة multivers وإن أحد هذه الأكوان المتعددة يتوافق ويتلائم مع الكون الذي نألفه ونعيش فيه. ولكن لا يوجد أي من هذه الصيغ من يعلمنا ويرشدنا instruit بشأن ظهور الحياة. إن عالم فيزياء الجسيمات physique des particules والحائز على جائزة نوبل دافيد غروس David Gross يعتقد بأن الحياة ، بشكل عام، والحياة الذكية على نحو خاص، منتشرة في كوننا المرئي . وبناءاً على ذلك تغدو الحياة نابعة من هذا الكون المبرمج univers planifié لا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أنفسنا ككائنات فريدة spécieux وفي حالة توفر نفس الظروف والشروط التي توفرت لنا من البديهي التفكير بإمكانية ظهور حيوات أخرى تشبه الحياة الموجودة على الأرض والفرق بينها أنها إما أن تكون أقدم وأكثر تطوراً ورقياً وتقدماً علمياً وتكنولوجياً منا ببضعة آلاف أو ملايين من السنين ، أو أحدث زمنياً وبالتالي ربما تكون أقل تطوراً وأكثر بدائية مثلما كانت عليه الحياة قبل بضعة عصور على الأرض سواء في مرحلة الخلية الأولى أو في مرحلة وجود الإنسان المتوحش أو الإنسان النياندرتال أو في مرحلة العصور التي سبقت اكتشاف النار وصنع الأدوات واكتشاف الزراعة أو بعدها بقليل أو بالمستوى الذي عاشه الإنسان في العصور الوسطى الخ ..

إن هذا التشخيص الذي اتخذ هيئة القاعدة règle عرف في الأوساط العلمية بمبدأ القصور principe de médiocrité الذي لا يعتبر الأرض كوكباً استثنائياً نادراً لا يوجد له مثيل في الكون ونحن البشر لسنا سوى جزء ضئيل لا يذكر ولا قيمة له من بين عدد لا يعد ولا يحصى من الحضارات والمخلوقات المنتشرة في أرجاء الكون المرئي الشاسعة كما جاء في كتاب آليكس فيلانكين Alex vilenkin الرائع وعنوانه عدة عوالم في عالم واحد: البحث عن أكوان أخرى Many Worlds in One the search for other universes الصادر سنة 2006 .

إذا تبنينا أطروحة الأكوان المتعددة فإن هذا سيعني أن كوننا المرئي ليس سوى جزء لايذكر من بين عدد لامتناهي من الأكوان المتوازية أو المتداخلة أو المتواجدة جنباً إلى جنب كما ورد في ثنايا نظريات الأوتار، وقمتها الأكثر أناقة هي نظرية الأوتار الفائقة les théories des cordes ou du super cordes حيث توجد عدة أبعاد في كوننا المرئي تصل إلى أحد عشر بعداً ، كما توجد عدة أكوان مختلفة ومتميزة بعضها عن بعض ولها خصائص مختلفة ومتميزة بعضها عن بعض أيضاً. في قسم منها قد يكون الإلكترون بلا شحنة كهربائية أو تكون له شحنة وكتلة مختلفة، وفي بعضها الآخر قد لا يوجد إلكترونات. والعديد من تلك الأكوان قد يكون عقيماً stériles غير قابل لاحتضان أي نوع من أنواع الحياة أو على الأقل غير ملائم لنوع الحياة التي نعرفها. وربما يكون كوننا مضبوطاً وفق حسابات ومعايير وقياسات وثوابت وقوانين محددة بدقة لا متناهية تؤهله لكي يفرز في داخله كائنات واعية ومفكرة وعاقلة وذكية وتتكون فيه قوانين فيزيائية وشروط قسرية contraintes بيولوجية يفرضها أو يتطلبها علم الأحياء. وكل من يؤمن بوجود نظرية موحدة وتعدد أكوان يأمل بوجود نوع من الاصطفاء أو الانتخاب يقوم باختيار عدد من الـ cosmoides بما يلائم كوننا المرئي من بين عدد لا نهائي من هذه الـ cosmoides ففي كل واحد من وديان vallée du paysage نظرية الأوتار يمكن أن يكون كوننا ممكناً له مزاياه الخاصة إلا أن واحداً منها فقط يمكن أن يشكل كوننا المرئي. المشكلة تكمن في أن فكرة تعدد الأكوان يصعب إثباتها أو اختبارها علمياً أو مختبرياً بالرغم من وجود عدد كبير من النماذج إلا أنها تبقى تجريدية abstraits كما أخرجتها لنا عمليات المحاكاة الحاسوبية في الكومبيوتر العملاق.

هناك فئة ثالثة من الناس تعتقد بأن وجود الحياة في الكون المرئي ليس وليد حادث عرضي وقع صدفة وليس نتيجة نظرية موحدة عن الطبيعة، بل يعتقدون بوجود نوع من " المبدأ الحيوي principe vitale ". عام وشامل يعمل agirait في حيز يتعدى القوانين الفيزيائية التي نستخدمها اليوم لوصف عالم الطبيعة. ويمكننا في يوم ما نحن البشر اكتشاف هذا المبدأ بالرغم من أننا لا نعرف في الوقت الحاضر ما هي ماهيته وماذا يشبه. فالقوانين الفيزيائية ـ الكيميائية كما نفهمها اليوم تبقى صامتة وعاجزة فيما يتعلق بظهور الحياة ولا تقدم لنا سوى فرضيات واحتمالات وكما أشار العالم بول ديفز paul Davies في كتابه المذكور أعلاه الجاكبوت الكوني فإن هذا المبدأ الحيوي يعاني من مفهومياً conceptuellement من طبيعته الغائية التيلولوجية télélogique بوصفه الحياة كغاية نهائية بحد ذاتها But final وفق النظرية الغائية التي تقول أن كل شيء في الطبيعة موجه لغاية معينة ، أو باعتبارها استراتيجية كونية محتومة déterminée وإن الروح الإنسانية هي الجوهرة التي يصبو إليها هذا الاندفاع أو الانطلاقة الحيوية élan vital بعبارة أخرى سنكون الكائنات المختارة أو المنتخبة élus على غرار شعب الله المختار لدى العبرانيين. وبغياب الدلائل والمبررات والبراهين والحجج arguments العلمية لدعمه، يبقى من الصعب تمييز المبدأ الحيوي عن مبدأ يعزو attribution وجودنا إلى فعل إلهي غير مفهوم أو قابل للشرح والتوضيح inexplicable، من جهة أخرى ، وكما بين لنا تاريخ العلوم، فإن ما كان يبدو فنتازياًfantaisiste أو خارق للطبيعة أو إعجازي surnaturel اليوم يمكن شرحه وتفسيره بواسطة العلم غداً مثلما كان الأمر بالنسبة للظواهر التي بدت خارقة للطبيعة وإعجازية أو فنتازية بالأمس عادية ومألوفة ولها تفسيرها العلمي اليوم.

ومن أهم الموضوعات والدراسات العلمية هي البحث عن مبدأ يربط بين ظهور الحياة والأسباب الفيزيائية والكيميائية التي تقود إلى ظهورها ، والأهم هو معرفة لماذا أو لأي غرض أو غاية تظهر الحياة، وهل الكون المرئي هو الذي أراد وقرر ظهور الحياة والروح أو النفس البشرية esprit ونشوء وتنمية الوعي والعقل ، عند ذلك سيتغير السؤال من لماذا نحن هنا إلى لماذا الكون موجود؟ هل خلقنا أو أوجدنا الكون المرئي لكي يفهم ذاته se comprendre ؟ مما يعني استبدال الروح الإلهية بالروح الكونية كعلة أولى وهل من الضروري الاعتقاد بأن حياتنا مبرمجة programmée سلفاً لكي يكون لها معنى؟

في سبعينات القرن الماضي اقترح عالم الفيزياء الفلكية براندون كارتر Brandon Carter ما عرف بالمبدأ الأنثروبي principe anthropique المتعلق بالإنسان وخلاصته أن الملاحظات الذكية تنجم عن خصائص فيزيائية idoines مسجلة ومدرجة كلياً داخل النسيج أو البنية الكونية structure cosmique . وفي الصيغة القصوى لهذا المبدأ فإن الكون هو الذي أولد أو افرزengendré المراقبين بل وحتى اللغز التليولوجيtéléologie mystérieuse وفق المقولة الصوفية :" كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي يعرفوني ـ أو كما قال بول د يفز إن الكون هو الذي صنع وعيه بنفسه . بعبارة أخرى فإن الكون نفسه حي وواعي وإن الكائنات الموجود في داخله أو التي يخلقها قادرة على التأمل والتفكير بشأنه أي أن هناك " طبيعة إلهية للكون " تجعله قادراً على الوجود خارج الزمان والمكان لأن هذين الأخيرين جزء منه.

وإذا عدنا لأطروحة الأكوان المتعددة ـ لأنها تشكل العمود الفقري لنظرية الكون الحي الواعي والمطلق ـ فإنه يمكننا القول على إفتراضي spéculative أن الحياة والوعي جزء طبيعي في الكون المرئي فهذا الأخير هو بذاته ليس سوى جسيم لامتناهي في الصغر أو بمثابة خلية حية أو جزيء حي من عدد لا متناهي من الأكوان الحية وغير الحية التي تكون الكون المطلق اللانهائي الأبعاد الحي، الواعي الذي لا يحده زمان ولا مكان لأنهما جزء من مكوناته ويمكن تحول أحدهما إلى الآخر، ولا بداية له ولا نهاية فهو أزلي وأبدي وسرمدي ذو قدرة كلية ويمكننا اعتباره بمثابة الله ذو الكمال المطلق لكنه قطعاً ليس الله المشوه الذي تحدثت عنه الأديان السماوية أو التوحيدية والذي يتصرف كالبشر فهو يغضب ويمكر وينتقم ويعذب ويدمر ويعطف ويسامح ويتأثر نفسياً والسادي بتعذيب عباده أو مخلوقاته لأنها عصت أو لم تصلي له أو تعبده ، فهذا الكون الأعظم هو المطلق الوحيد في الوجود وكل شيء آخر نسبي وهو القيمة اللانهائية الوحيدة في معادلة الوجود لأنه هو الوجود المطلق ولا وجود غيره أو خارجه وهو أكبر بكثير بما لا يقاس من مجرد كون مرئي يخضع للرصد والمراقبة والقياس أو الحساب حيث يمكننا أن نحصي مجراته ونحسب عمره ونقيس قطره ونقدر عمره وندرس ونحلل مكوناته ومحتوياته مهما كبرت ومهما تعددت من مليارات المليارات من السدم والمجرات وأكداس أو حشود المجرات وما فيها من أجرام سماوية ونجوم وثقوب سوداء وغازات وطاقة مرئية ومعتمة ومادة مرئية وسوداء ومسافات هائلة يعجز العقل البشري عن تصورها أو استيعابها تقاس بمليارات المليارات من السنين الضوئية ،ورغم هذه اللوحة الإعجازية للكون المرئي لكنه لا يتعدى كونه جسيم مجهري لا متناهي في الصغر إلى جانب عدد لا متناهي من أمثاله، فهو الكل وليس كمثله شيء، فهو الحي الوحيد والباقي خلايا حية هي جزء منه. وهذه صورة تبدو ميتافيزيقية اليوم لكنها تصور علمي وليس ثرثرة فلسفية وسوف نعثر على المعادلات الرياضية الخاصة بهذا التصور العلمي حيث سيكون المستقبل كفيل بإثبات صحتها كنظرية علمية في مجال الكوزمولوجيا وعلم الأكوان خاصة بعد تطور العلم والتكنولوجيا وقدرات البشر العقلية ومستواهم الإدراكي .

Le jackpot هو جهاز حديث يوجد في الكازينوهات للعب القمار وفقاً لمفهوم الحظ

 

فهم الكون المرئي اللغز الدائم (3)
فهم الكون المرئي اللغز الدائم (2)

فهم الكون المرئي اللغز الدائم (1)

 

 

free web counter