| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جواد بشارة

 

 

 

                                                                                    الخميس 19/1/ 2012

 

العراق في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي: وحدة أم تقسيم ؟
(1-2)

جواد بشارة  - باريس
jawadbashara@yahoo.fr

في كواليس الهجمة الأمريكية على العراق بعد عقد من الزمن
غادرت الولايات المتحدة الأمريكية العراق وهو في وضع أزمة خطيرة قد تطيح بكل ما أنجزته العملية السياسية منذ تسع سنوات، فهل انسحبت أمريكا حقاً من العراق أم أنها خرجت من الباب وتسللت من النافذة؟ وهل تعمدت أن تترك بلد ما بين النهرين في وضع بائس وضعيف، فريسة للتوترات وعدم الاستقرار؟ بعيداً عن تفاصيل الإرهاصات والتداعيات التي ستتمخض عن الخلل الحاصل في جسم العملية السياسية المبنية على التوافق والشراكة والمحاصصة المنافية للواقع ، بسبب الصراعات القائمة بين القوى السياسية وانعدام الثقة والمناورات الدنيئة التي تحيكها هذه القوة السياسية ضد تلك بلا حياء ولا تردد، يمكننا أن ندرج في سياق ذلك محاولات بعض الشخصيات السياسية التي سرقت ونهبت واختلست وقتلت ومارست الإرهاب أو تواطأت مع الإرهابيين على نحو مكشوف والأمثلة على ذلك كثيرة وبالأسماء والتفاصيل خلال السنوات التسع الماضية، مثل قضايا الميليشيات السنية أو البعثية المسلحة الإرهابية و ملفات محمد الدايني وحازم الشعلان و أيهم السامرائي وعدنان الدليمي وصالح المطلك وطارق الهاشمي وغيرهم كثيرون. وفي الطرف الآخر أيضاً توجد جرائم وفضائح تزكم الأنوف كقضية اغتيال السيد مجيد الخوئي على يد رجال مقتدى الصدر وجرائم الميليشيات الشيعية وملفات الفساد التي يتهم بها مسؤولون كبار في الدولة الخ..

كان المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة جورج دبليو بوش قد وعدوا بأن العراق سيكون واحة أو نموذج يحتذى للديموقراطية، أثناء إعدادهم للحملة الأمريكية على العراق قبل تسع سنوات واليوم نرى أننا بعيدون كل البعد عن هذه الصورة الوردية التي رسمها الزعماء الأمريكيون لتبرير غزوهم واحتلالهم للعراق ولم تكن لهم إيجابية واحدة غير الإطاحة بنظام صدام حسين والسماح للحكومة العراقية بمحاكمته وإعدامه بصورة علنية وشفافة وعادلة، رغم أنني ضد الإعدام من الناحية المبدئية والأخلاقية والإنسانية واحتراماً لحقوق الإنسان .

هناك الانسحاب الرسمي والعلني الذي نفذه الأمريكيون حسب الاتفاق المبرم بين الجانبين العراقي والأمريكي، وهناك الوجود الخفي الذي نصت عليه اتفاقية الإطار الاستراتيجي، والمتمثل بعدد هائل ــ يشاع أنه 16000 أجنبي، أغلبهم تابع للمخابرات والشركات الأمنية والخبراء العسكريين والأمنيين والإداريين ــ تحت غطاء التدريب وتأمين المهمات القنصلية والاقتصادية والأمنية وتأهيل للكوادر العراقية، سوف يتواجدون داخل أكبر سفارة أمريكية في العالم، بغية تجنب عقبة الحصانة التي رفضت السلطات العراقية منحها لهم خوفاً من غضب العراقيين.

وهكذا أدخل السياسيون المحترفون بلدهم في نفق وأزمة خطيرة قد تقود إلى انزلاق البلاد إلى اقتتال طائفي لا سمح الله بسبب خلافات تتعلق بأشخاص أعلنوا أنفسهم ممثلون لهذا الطيف العراقي أو ذاك عنوة ولم ينتخبهم أحد بهذه الصفة.فقضية طارق الهاشمي يفترض بها أن تكون قضائية وجنائية خالصة يتعين على المعني إثبات براءته من التهم الموجهة إليه وليس اللعب بالكلمات وإطلاق التهديدات وتوريط العراق برمته في حرب طائفية دامية ومدمرة لكي ينقذ نفسه من جريمة يحاسب عليها القانون ولم تثبت بعد براءته منها ولا إدانته فيها. أما نائب رئيس الوزراء صالح المطلك فقد تجاوز كل حدود الكياسة المسموح بها عادة بين شركاء في عملية سياسية يفترض أنهم يتحملون جميعهم مسؤوليتها فكيف سمح لنفسه بكيل التهم جزافاً لشخص رئيس الوزراء ووصفه بأنه دكتاتور أسوء من صدام حسين وأن الرئيس المقبور دكتاتور يبني بينما المالكي دكتاتور يهدم ، وبالتالي فإن أقل ما يمكن أن يفعله رئيس الوزراء هو أن يطالب باستبدال هذا الشخص واختيار آخر من نفس القائمة لشغل منصبه والمحافظة على التوازن والمحاصصة المتفق عليها في تشكيل الحكومة لأنه لا يمكن أن يعمل جنباً إلى جنب مع شخص ينظر إليه بهذه النظرة المهينة وهذا التحقير والاتهام المجحف، لا سيما والكل يعرف ماهي خلفية صالح المطلك وتاريخه الشخصي والسياسي المشبوه في زمن النظام البائد، فحركته السياسية باتت ملجأ ومرتع لكل فلول وحثالات النظام البعثي البائد، لذلك جاءت توجيهات حزب البعث المحظور لأعضائه بالتصويت بزخم كبير لصالح المطلك لإيصاله للبرلمان بقوة بغية التأثير بالتوجه والقرار السياسي العراقي بالاتجاه الذي يرتأى ويرغب به خصوم العملية السياسية، وهناك وثائق مؤكدة بهذا الخصوص، بل وحتى منافسي رئيس الوزراء من معسكره داخل المنظومة السياسية العراقية نفسها، لم يسمحوا للمالكي بتحقيق أي إنجاز أو خدمات للشعب العراقي بما فيها إخراجه للأمريكيين من العراق وعدم توقيعه على اتفاق تمديد بقاء القوات الأمريكية رغم الضغوط الهائلة التي مورست عليه، وذلك لكي لا يجني أرباح أو يقطف ثمار مثل هذه المواقف وتزداد شعبيته بين الناخبين العراقيين..ولقد كانت المناورات السياسية من الخطورة بمكان أنها كادت أن تمزق العراق بأكمله من خلال حث بعض المحافظات على إحراج الحكومة واللجوء إلى حيلة دستورية للمطالبة بالفيدرالية كمقدمة للانفصال مما يعرض وحدة البلاد للانقسام و والتفتت، مثل ديالى وصلاح الدين والأنبار التي يتمتعون فيها بنفوذ كبير، وهم يعرفون جيداً أن المالكي لا يمكن أن يتصرف بشكل انفرادي أو دكتاتوري متفرد كما يدعون لأن هناك معايير دستورية تحكم تصرفاته ويخضع لها كأي عراقي ولا يوجد في العراق من هو فوق القانون أو فوق الدستور وبالتالي لا يمكن اتهامه باحتكار السلطة بل هو يمارس سلطاته التي يخولها له الدستور العراقي، وهذا لا يعني أنه معصوم وبلا أخطاء. فوحدة البلاد لا تزال هشة وقابلة للانفصام إذا ما أصر الفرقاء على تغليب المصالح الفئوية على حساب المصالح الوطنية. من المؤكد أن تفاقم الأزمة السياسية الحالية يهدد بتجذير وترسيخ الانقسام الطائفي والقومي والمذهبي والديني القائم في العراق مما أوجد عملية استقطاب وتنافر حاد بين المكونات المذهبية والدينية والقومية ازدادت حدة وخطورة منذ عام 2003 وهذا ما دفع الزعيم الكردي ورئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني للتصريح بنبرة يائسة وتحذيرية بأن الوضع ينزلق نحو أزمة عميقة قد تهدد الشراكة القائمة لذلك دعا ومعه رئيس الجمهورية جلال الطلباني إلى عقد اجتماع عاجل أو مؤتمر وطني يضم جميع القوى والفعاليات السياسية الناشطة في العراق لمناقشة الأزمة والتحاور من أجل الخروج من المأزق قبل فوات الأوان، وهو الأمر الذي نتمنى أن يتحقق خلال الأيام الأولى من العام القادم 2012، ولا داعي للالتجاء للمحتل الأمريكي، خاصة بعد انسحابه الشكلي، لكي يتدخل لفض النزاعات وإملاء الأوامر والحلول وكأننا أطفال لا يمكننا أن نتدبر أمورنا بدونه. إن الدعوة للحوار والتفاوض تتطلب من جميع الأطراف تقديم أقصى ما يمكنهم من التنازلات والتخلي عن الشروط التعجيزية التي وضعوها قبل استئناف أي حوار بين المتنازعين على السلطة، من قبيل عدم الإصرار على أشخاص بعينهم وإلغاء المقاطعة والمشاركة في جلسات مجلس الوزراء والبرلمان وعدم التدخل أو التأثير على مجرى القضاء فيما يتعلق بملف طارق الهاشمي واعتذار صالح المطلق أو تقديمه استقالته وإتاحة المجال لاختيار غيره لشغل منصبه وتسوية كافة الملفات العالقة بين جميع الأطراف بما فيها المناطق المتنازع عليها وتعديل الحدود الإدارية للمحافظات والقانون 140 والوزارات الأمنية الخ .. فلا توجد موضوعات محرمة مهما كانت حساسيتها وينطبق ذلك أيضاً على التعديلات والإصلاحات الدستورية بشأن العديد من بنود وفقرات الدستور التي تثير إشكاليات في التفسير والفهم والتأويل. شعر البيت الأبيض أنه ربما يكون قد تعجل أمر الخروج من العراق لكن لم يكن أمامه خيار آخر لذلك أعرب الناطق الرسمي بإسم الرئاسة في واشنطن جاي كارني عن قلقل البيت الأبيض بشأن التطورات الخطيرة التي وصلتها الأزمة السياسية في العراق وحثت الولايات المتحدة الأمريكية جميع الأطراف لحل خلافاتهم بالطرق السلمية وعن طريق الحوار والتفاهم بصورة تحترم الدولة العراقية والقوانين والدستور والعملية السياسية والديموقراطية في العراق والمحافظة عليها، بل وقررت إرسال نائب الرئيس الأمريكي على عجل إلى العراق للتدخل مباشرة في لحلة الوضع المتأزم، وإقناع الزعماء المتصارعين بالتوصل إلى تسويات سياسية تنقذ العملية السياسية من الانهيار حتى لا تخلق إحراجاً للإدارة الأمريكية هي بغنى عنه في مرحلة الإعداد للانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة. لقد تركت أمريكا العراق ضعيفاً تنهشه الانقسامات الداخلية، والفساد، والمطامع الإقليمية، مكشوف الحدود ناقص السيادة لأنه ما يزال يرزح تحت ثقل البند السابع، مكشوف الأجواء، بلا طيران وقوة جوية، وبلا دفاع جوي ولا رادارات و لا جيش مؤهل ومدرب ومجهز بما فيه الكفاية. انتهت الحرب الوقائية والاستباقية التي شنتها إدارة جورج دبليو بوش اليمينية ليلة 20ــــ19 آذار2003 بدعم من بريطانيا وبعض الدول الهامشية غير المهمة على رقعة الشطرنج الدولية، وبدون موافقة أو تفويض أممي أو دولي صادر عن مجلس الأمن والأمم المتحدة، وانتهى الاحتلال رسمياً في 31 ديسمبر 2011-12-31، قبل أن يستعيد العراق عافيته أو يعيد بناء نفسه بعد. كانت الحصيلة مرعبة أكثر من 110000مدني عراقي سقطوا قتلى بلا ذنب و ربع مليون جرحوا أو صاروا معوقين وذوي عاهات وتهجير حوالي مليوني عراقي، إلى جانب 4800 جندي أمريكي وأجنبي قتلوا ممن أعلن عنهم رسمياً مع 36000 جريح في حين بلغت كلفة الحرب أكثر من 800 مليار دولار ونترك للجيوسياسيين مهمة استخلاص الدروس والعبر ونرى بوضوح أن النتائج لا تصل إلى مستوى المخاطر ولا الوسائل التي وفرت لأن حكم التاريخ سوف لن يرحم الرئيس الأمريكي السابق وبطانته في كذبهم وغيهم وادعائهم بوجود أسلحة الدمار الشامل التي يعرفون مسبقاً أنها غير موجودة، والديموقراطية التي تركوها عرجاء متعثرة وآيلة للسقوط في أية لحظة. وقد اعترف جورج بوش نفسه بضحالة معلوماته الاستخباراتية بخصوص أسلحة الدمار الشامل في العراق والتي شن بإسمها حملته العسكرية على العراق كما قال في مقابلة معه على قناة آ بي سي التلفزيونية في الأول من ديسمبر سنة 2008 ولم يعتذر أو يتأسف على ذلك. وقد سبق لوزير خارجية بوش كولن باول أن تهجم على وكالة المخابرات المركزية في مقابلة تلفزيونية بتاريخ 8 أيلول 2005 لأنها خدعته بخصوص أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق ولم تخبره بالحقيقة قبل تورطه في خطابه المثير للسخرية في الأمم المتحدة .

(2-2)

إن ما حدث في العراق ومازال يحدث فيه وفي المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل، لم يكن مفاجئاً للولايات المتحدة الأمريكية أو خارجاً عن سيطرتها وتوجيهها وتخطيطها، إذ كانت قد درست وحللت ذلك وتوقعته منذ العام 1973، إثر تجرؤ العرب التفكير ـ مجرد التفكير ليس إلا ـ في استخدام سلاح النفط الخطر والمؤثر على المصالح الحيوية لهذا الوحش الكاسر المسمى الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد وضعت عقول أمريكا الإستراتيجية خططاً كثيرة لمواجهة كافة التوقعات والسيناريوهات والاحتمالات، وحملت إحدى تلك الخطط عنوان" غزو العراق للكويت" كما ذكر ذلك المحلل الاستراتيجي الفرنسي آلان جوكس في كتابه أمريكا المرتزقة الصادر سنة 1990، وجاء في الكتاب أن من وضع تلك الخطة هو الجنرال شفوارتزكوف الأب سنة 1973 ونفذها نورمان شفوارتزكوف الإبن في عهد رئاسة جورج بوش الأب في حرب الخليج التي حررت الكويت من الاحتلال العراقي إلا أن الرئيس الأمريكي ارتأى آنذاك، وبتدخل وإلحاح من قبل حكام الخليج وعلى رأسهم السعودية والكويت، إبقاء صدام حسين على سدة الحكم لأكثر من عقد من الزمن وسحق انتفاضة الشعب العراقي المجيدة التي حررت 14 محافظة من مجموع 18 من قبضة الطاغية، والتي حرض عليها الرئيس الأمريكي نفسه، بعد أن سمح لصدام حسين استخدام السلاح الثقيل والطيران والآلة العسكرية الجبارة، المتمثلة بالحرس الجمهوري، والتي لم تمس أثناء الحرب، حيث نجح صدام في ذبح مئات الآلاف من الثوار العراقيين المنتفضين ضد حكم الاستبداد وتمكين هذا الحاكم المستبد من رقابهم. ومن ثم جاء جورج دبليو بوش الإبن ليكمل مشوار أبيه ويستكمل مشروع تدمير العراق وإرجاعه إلى الوراء نحو نصف قرن وتركه ضعيفاً وعرضة للأطماع والابتزاز من قبل القاصي والداني حيث صار يتجرأ عليه وعلى سيادته حتى أضعف الدويلات ـ علب الكبريت المسماة دول ـ والتي كانت ترتعب من مجرد تعكر مزاج الحكام العراقيين على اختلاف مشاربهم منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وصارت اليوم تتحكم بمصير دول عربية كبيرة كمصر والعراق وسورية والجزائر.

جاءت أحداث 11 أيلول 2001 ، التي من المؤكد أن للإدارة الأمريكية السابقة ضلع فيها على نحو مباشر وسري أو غير مباشر من خلال تجاهل التحذيرات التي وصلت إليها من الدوائر الإستخباراتية الدولية قبل وقوع الكارثة، لتتخذها ذريعة لشن هجوم شبه صليبي، على حد توصيف العديد من المراقبين والمحللين الدوليين، على العالمين العربي والإسلامي، وقد بلور الرئيس الأمريكي وعصابته اليمينية مفهوم " محور دول الشر، وهي العراق وإيران وكوريا الشمالية، وكان ينوي وضع سورية بديلاً عن كوريا الشمالية لكن مستشاريه نصحوه بعدم المبالغة واستعداء واستفزاز العرب والمسلمين الذين سيبدون وكأنهم هم وحدهم المقصودين بهذه الهجمة. منذ تلك اللحظة وضعت بغداد على مرمى الإصابة الأمريكية حتى في خضم الاستعدادات العسكرية الأمريكية التي كان يعدها جورج دبليو وبوش ونائبة المتشدد والقوي ديك تشيني ضد القاعدة وطالبان في أفغانستان، إذ كان العراق حاضراً في كل خطوة وفي كل لحظة وخطة، بل هناك تأكيدات اعترف بها مقربون عسكريون وأمنيون نشروها فيما بعد في مذكراتهم، تؤكد أن العراق كان هو الذي يحظى بالأولوية في كل النقاشات والتحضيرات السياسية والعسكرية والإستراتيجية والاقتصادية في أمريكا إلى حد الهوس.

كان الأمريكيون ينتظرون من حلفائهم في الغرب ، وبالأخص في أوروبا، دعماً وتأييداً كاملاً وغير مشروط على الصعيدين الدبلوماسي ـ السياسي والعسكري، بينما كانت باريس تنظر بعين أخرى ولها نظرة مختلفة لما تحضره واشنطن في الخفاء للمنطقة الشرق أوسطية وعلى رأسها العراق لأنه يمثل رأس الثعبان كما كان يصفه وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد.

كان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ووزير خارجيته آنذاك دومينيك دوفيل بان يرون بأن شن هجوم عسكري على العراق أمر غير مبرر وغير ضروري من وجهة نظر القانون الدولي. وقالا بضرورة الفصل بين المسألة العراقية وملفي القاعدة وأفغانستان، لأن المغامرة العراقية تنطوي على مخاطر كبيرة يصعب التكهن بتداعياتها ومن العسير إدارتها أو السيطرة عليها. فالمشكلة كما رأت باريس لا تكمن في الحرب بحد ذاتها بل بما سيحدث بعد الحرب وكانت نظرة باريس هي الصائبة. فالأمريكيين لم يفكروا بعواقب الغزو والاحتلال وما سيتمخض عنهما من مشاكل وتعقيدات مأساوية سيدفع ثمنها المدنيون الأبرياء والعزل ، في حين كانت فرنسا بماضيها الاستعماري وما خاضته من حروب شنها الثوار من أجل التحرر الوطني في المنطقة، تدرك ذلك جيداً، وهذا ما يذكرنا بخطاب الجنرال ديغول في بنوم بنه عندما حذر أمريكا من عواقب ومخاطر الانزلاق في فيتنام وكان محقاً في تحذيراته فكلنا يعرف ما حصل للفيتناميين وللأمريكيين على حد سواء من كوارث ودماء وتضحيات وهدر للثروات وآلاف الضحايا والمعوقين.

بلغ التوتر الدفين بين باريس وواشنطن أوجه في أروقة الأمم المتحدة في 14 شباط 2003 حيث كان العالم يحبس أنفاسه بانتظار نتائج المبارزة الدبلوماسية بين باريس وواشنطن بشان الملف العراقي والجميع يتابع وعلى الهواء مباشرة من داخل صالة مجلس الأمن الدولي تفاصيل هذه المعركة، عندما نزع رئيس الدبلوماسية الفرنسية قفازه وأعلن صراحة وبلا مواربة وبجرأة نادرة أن فرنسا يمكن أن تسحب دعمها لواشنطن التي تحضر لعمل عسكري غير قانوني ـ وكاد أن يسميه عدوان عسكري ، وكان يصفه بهذه الصفة في جلساته الخاصة ـ للإطاحة بصدام حسين المشتبه بحيازته ترسانة من أسلحة الدمار الشامل. وفي الجهة الأخرى من ساحة المواجهة أو المبارزة الفرنسية ـ الأمريكية ، كان يقف وزير الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت وهو الجنرال السابق كولن باول ، الذي كان رئيساً للأركان إبان حرب تحرير الكويت في 1990 ـ 1991 من القرن الماضي، ويعتبر العنصر الأكثر اعتدالاً في الفريق الأمريكي الحاكم في إدارة جورج دبليو بوش الأولى ، والذي غدا محرجاً أمام رئيسه لأنه كان يدافع بضراوة عن ضرورة التنسيق مع المجموعة الدولية قبل خوض المعارك والحصول على الغطاء القانوني للحملة العسكرية ، ولكن ها هو يرى كيف ارتسمت أمامه ملامح خيانة باريس وبالتالي كان لا بد أن يتصدى لها مدافعاً، رغماً عنه وعلى العكس من قناعته، عن مواقف بلده على الجبهة الدبلوماسية من خلال معركة كلامية قاسية تحول فيها صديقه الفرنسي دومينيك دوفيل بان إلى خصم شرس .

بدأ الوزير الفرنسي المعركة الدبلوماسية بخطاب ذو أسلوب شعري وأدبي محبوك وغير مألوف في الدوائر الدبلوماسية أكد من خلاله موقف فرنسا المبدئي في احترام القانون الدولي ومعارضتها للحرب على العراق قائلاً :" إن استخدام القوة العسكرية ضد العراق غير مبرر قانونياً وإن بلدي قد يضطر لاستخدام حق النقض ـ الفيتو ـ لمنع صدور قرار عن مجلس الأمن يخول واشنطن باستخدام القوة العسكرية " جاءت كلماته هذه لتثير إعجاب البعض الذي صفق لها كثيراً ، وامتعاض البعض الآخر. ثم واصل خطابه قائلاً :" في معبد الأمم المتحدة هذا، نحن حراس المثال الأعلى، نحن حراس الضمير الجمعي، فالمسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقنا والشرف الكبير العظيم الممنوح لنا، يجب أن يقودانا إلى أن نعطي الأولوية لنزع السلام في إطار السلام وليس الحرب. إن بلداً شيخاً هو فرنسا، في قارة عجوزة هي قارتي أوروبا، هو من يقول لكم ذلك بعد أن عشنا الحروب والاحتلال والبربرية، بلد لم ولن ينسى ، ويعرف بماذا يدين ، للمحاربين من أجل الحرية الذين جاءوا من أمريكا ومن غيرها من البلدان لتحرير بلدي من الاحتلال، والذي لم ينفك أن يقف شامخاً أمام التاريخ والبشر، مخلصاً وأميناً لمبادئه ويريد أن يتحرك اليوم بحزم وصرامة برفقة باقي أعضاء المجموعة الدولية، وهو يؤمن بقدرتنا في أن نبني معاً عالماً أفضل". بدا هذا الخطاب وكأنه موجهاً للجمعية العمومية بأعضائها الـ 191 وللمراقبين الدوليين وللعالم أجمع وليس فقط لثلة من الدبلوماسيين الذين يمثلون خمسة عشر دولة 15 مجتمعين حول طاولة مستديرة في مجلس الأمن. لقد أثار ذلك الخطاب موجة من الغضب داخل أروقة الدبلوماسية في كل من واشنطن ولندن ومدريد ووارشوا وغيرها من العواصم المؤيدة لواشنطن والمتجمعة في ما سمي بالتحالف الدولي الطوعي. ومقابل ذلك وقف وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية كولن باول جاذباً الأنظار واهتمام وسائل الإعلام العالمية وهو يعرض في مجلس الأمن، بالصور والخرائط، " المزورة طبعاً " إمكانيات النظام العراقي السابق التدميرية المفترضة وحيازته لأسلحة الدمار الشامل، رغم قناعته الشخصية الداخلية بعدم جدوى هذه الحملة العسكرية المكلفة والخطرة ، فهو ضد الغزو إذا لم يحظ بمباركة ودعم وتأييد الأمم المتحدة والمجموعة الدولية كما كان الحال في حرب 1990 ضد صدام حسين نفسه. لكنه بعد أن لمس بما لا يقبل الشك عزم فرنسا عرقلة جهوده وتعطيل هذه المحاولة ومنع صدور قرار من مجلس الأمن يبارك الحرب ، ارتد إلى معسكر الصقور في الإدارة الأمريكية بقيادة ريشارد تشيني ودونالد رامسفيلد واستسلم لقرار رئيسه بشن الحرب منفرداً وبدون موافقة دولية ولا غطاء قانوني دولي. ومن ثم صار ينشط من أجل العمل العسكري الأمريكي في العراق معللاً موقفه بما لديه من أدلة وهو يعرض للجميع علبة دواء صغيرة فيها سموم كيميائية أو جرثومية قال أنها كافية لإبادة آلاف الأرواح البشرية إذا كانت بين يدي مجرم مثل صدام حسين الذي سبق له أن استخدم الأسلحة الكيميائية ضد الإيرانيين، بل وحتى ضد شعبه الكردي، وهو يمتلك الكثير من الأسلحة الكيميائية والجرثومية الفتاكة مثلما يمتلك القدرة على إنتاج المزيد منها وربما القدرة على إنتاج السلاح النووي أيضاً لذا لا بد من إطاحته والتخلص منه لصالح البشرية والأمن والسلم العالميين حسب خطاب باول. وهكذا انقسم العالم إلى مؤيد للحرب بقيادة واشنطن وبتأييد جزء من بلدان أوروبا الغربية والشرقية سابقاً وعدد كبير من البلدان العربية، ومعارضة روسيا وفرنسا وألمانيا وإلى حد ما الصين وجزء صغير من الدول العربية. كانت العاصمتان ، باريس وواشنطن، قد أعدتا بعناية بالغة هاتين المسرحيتين الدبلوماسيتين إلا أن الأمر وقف عند هذا الحد بالنسبة لباريس بعد أن صرح رامسفيلد مهدداً ، بأنه يجب تجاهل ألمانيا ومسامحة روسيا ومعاقبة فرنسا، إذ لم تتجرأ باريس في المضي إلى ابعد من ذلك بينما واصلت واشنطن تنفيذ مخططاتها الموضوعة منذ عقود والتي بدأت بالعراق منذ العام 1980 عندما ورطته في حرب الثمان سنوات العبثية مع إيران لاستنزافه عسكرياً وسياسياً ومادياً واقتصادياً وبشرياً إلى حد الدمار الكامل حيث خرج منها مثخناً بالجراح والآلام ومفلساً اقتصادياً. ثم أغرته للانزلاق في فخ غزو الكويت بخدعة حاذقة لجره لمغامرة مميتة حيث قامت بتدمير ما بقي لديه من بنى تحتية مع الحفاظ على النظام في السلطة لأكثر من عقد من الزمن إثر توسل دول الخليج بها لإبقائه ضعيفاً مقصوص المخالب في السلطة ومنع وصول الشيعة للسلطة العليا لأنهم يشكلون عليهم خطراً يفوق خطر صدام حسين عليهم. وانتظر الأمريكيون سنة 2003 لاستكمال مشروع تدميره الكامل وإخراجه من معادلة الشرق الأوسط الإستراتيجية وإغراقه في المشاكل والمخاطر الداخلية والتهديدات أو التدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية من جانب إيران وتركيا والكويت والسعودية ودول الخليج والأردن وسورية وتعريضه لمخاطر التقسيم والصراعات الطائفية الداخلية والحروب الأهلية والفتن الطائفية وإغراقه في فوضى عارمة والتخبط في سياسة المحاصصة واللبننة إلى أبد الآبدين. وبعد خراب البصرة هيمنت أمريكا بكل آلتها الحربية الفتاكلة على كل مفاصل الحياة في العراق ولم تفعل شيئاً لانتشاله من مأساته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بل ارتكبت أخطاء فادحة حين نصبت في السلطة رجالها المخلصين والتابعين المنفذين لأوامرها وهم معروفون من قبل الشارع العراقي فتاريخ كل واحد منهم معروف ومفضوح لذلك حرص المخلصون من بين هؤلاء السياسيين، ممن لم تربطه علاقات سابقة بواشنطن، النأي بنفسه من تهمة العمالة لأمريكا، وكلنا يتذكر جملة رئيس الوزراء العراقي الأستاذ نوري المالكي الشهيرة في بداية عهده والتي أطلقها على الملأ علناً قائلاً:" لست رجل أمريكا" وهو قطعاً ليس رجل إيران كما يتهمه الكثيرون وأنا أعرف شخصياً طبيعة العلاقة التي تربطه بإيران وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون علاقة تبعية وخضوع، وهاهو مرة أخرى وفي قلب واشنطن يقول للأمريكيين أنه ممتعض من مناوراتهم غير المقبولة وتدخلاتهم التي تنتهك سيادة العراق واستقلاله بعد أن رفض التمديد لقواتهم بالبقاء في العراق والتمتع بالحصانة والعمل خارج القوانين العراقية، وقد سبق له أن واجههم بشجاعة عندما انكشف سر تفاوضهم مع قوى وجماعات مسلحة عراقية خارجة على القانون من بقايا حزب البعث المنهار والمنضوية تحت غطاء ما يسمى المجلس الوطني للمقاومة العراقية وكانت تلك المفاوضات السرية قد حدثت في أنقرة في تركيا وربما بعلم من بعض القيادات العراقية في القائمة العراقية والتي يوجد لبعض القادة فيها علاقات حميمة مع تركيا كنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي أو غيره حتى قبل تفجر فضيحة ممارساته التي أدت إلى إصدار مذكرة إلقاء القبض عليه بعد اعترافات حمايته الشخصية في عمليات إرهابية بتوجيه شخصي منه. لقد اعترف الأمريكيون كعادتهم البراغماتية بذلك ولم ينكروه بل لم يشعروا بأي حرج ولم يقدموا أي تفسير لائق ومقبول للسلطة العراقية الشرعية المنتخبة.

بعض القيادات العسكرية الأمريكية لم تكن ترغب بالاعتراف بأنها سوف تخرج من العراق إلى أن تحقق ذلك عملياً في 31 ديسمبر 2011 ولم يعد لها كلمة مسموعة في بلاد الرافدين ولن تستطيع إملاء أوامرها أو تمرير مخططاتها بسهولة وبدون إعتراض من قبل بعض القيادات والقوى السياسية العراقية الوطنية. لذلك بات على الأمريكيين أن يفهموا ويتقبلوا أن العراق لم ويعد ولاية تابعة لهم يتحكمون بها كيفما يشاءون لأنهم اعتدوا بلا مبرر قانوني وبذرائع واهية وبلا تفويض من قبل الأمم المتحدة، على بلد عضو مؤسس لهذه المؤسسة الدولية، صحيح أنهم ساعدوا الشعب العراقي على التخلص من الطاغية وحكمه الاستبدادي والوحشي لكن هذا لا يمنحهم الحق بالتحكم بمصير هذا البلد ومستقبله، وهم لم يفعلوا شيئاً جدياً لإخراجه من وصاية الأمم المتحدة وتخليصه من براثن البند السابع، كما أن الشعب العراقي لم يطلب منهم شن الحرب على العراق وتدمير بناه التحتية ومؤسساته، وقد تكون الإيجابية الوحيدة للتدخل العسكري الأمريكي هي إطاحة الطاغية وتسليمه للعراقيين لمحاكمته ومعاقبته على جرائمه التي لاتعد ولاتحصى، في حين تحول وجودهم كطرف محتل إلى مصدر للاضطرابات والفوضى والعنف والقتل العشوائي ومبرراً للعمليات الإرهابية بحجة محاربة المحتلين والتي أعلنها وتمترس خلفها كل من هب ودب من مجرمي الحرب من أتباع الدكتاتور المقبور أو من أتباع تنظيم القاعدة الإرهابي ومن لف حولهم أو تعاون معهم من عتاة المجرمين والقتلة الذين كلما سيطروا على منطقة حولوها إلى مقبرة جماعية وبقعة أحزان وبؤس وكتلة من المحرمات تسودها الحياة البائسة التي تفتقد لكل مظاهر الفرح والبهجة ومظاهر الحياة السعيدة ويوسمها الانغلاق والحداد الدائم والبكاء والسواد والكآبة وكأنها غارقة في القرون الوسطى حيث يهيمن عليها العنف والتخلف والمحاكم الإسلاموية الشهيرة الموسومة بقطع الرؤوس وذبح الضحايا كالخراف وإخماد الأصوات المعترضة بقوة السلاح والنار.

إذا كان الاستقرار الأمني هشاَ فلأن الأمريكيون أرادوه أن يكون هكذا لكي يبقى العراق معتمداً عليهم في كل شيء يخص أمنه واستقراره وعافيته ولم يقوموا بأية خطوة جدية في طريق تجهيز وتسليح وإعداد وتأهيل الجيش العراقي وقوات الأمن والشرطة والاستخبارات العراقية لكي تقوم بحماية البلد ومنع القوى الإرهابية وعصابات المجرمين من أن تعيث بالأرض فساداً وتقوم بانتهاك القوانين وإشاعة الفوضى وممارسة جرائمهم بحرية وبلا رادع ولا خوف من عقاب أو عواقب.. فهم يأملون أن يعود العراق إليهم صاغراً ويطلب منهم من جديد إعادة قواته وهذه المرة بتغطية تكاليفهم من الخزانة العراقية وعلى حساب ميزانية الشعب مع منحهم بالطبع الحصانة لكي يرتكبون جرائمهم بلا خوف أو تردد بحجة محاربة الإرهاب الذي جلبوه هم معهم عند غزوهم للعراق.

بقي العراق مكشوف الظهر والرأس وبحاجة لسلاح متطور وحديث سيما السلاح الجوي والطائرات والرادارات وأجهزة ومعدات مكافحة الإرهاب وكشف العبوات الناسفة الخ..، بغية مواجهة المخاطر التي تتربص به داخلياً وإقليمياً ودولياً، علماً أن بإمكان العراق بالطبع الحصول على هذا السلاح من سوق السلاح الدولية ولا حاجة به للاعتماد على السلاح الأمريكي المقيد بشروط تعجيزية وبارتفاع أثمانه، فطائرة الأف 16F التي ستبيعها الولايات المتحدة الأمريكية للعراق لا تشبه في شيء، ولا يمكن مقارنتها بنفس الموديل الذي يباع لإسرائيل إضافة إلى زرع فيروسات في نظامه الالكتروني يمكن تنشيطها في أية لحظة من داخل واشنطن لتعطيل عملها وفعاليتها وتحويلها إلى كومة من الحديد، فبإمكان العراق شراء الأسلحة من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين إلا أنه يتعرض لضغوط مكثفة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وما قصة المفاوضات السرية مع فصائل متمردة ومسلحة، والتلميح لبعض القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية والمختلفة مع الحكومة المركزية أن بإمكانها التصرف كيفما تريد حتى لو استخدمت القوة ضد السلطة المركزية العراقية، وأن أمريكا لن تتدخل لحل النزاعات بين الأطراف المتنازعة حتى لو تطورت إلى مجابهات مسلحة لا سمح الله، ليس سوى رسائل مشفرة ووسائل خبيثة لبعث رسائل ملغمة للعراقيين لكي لايخرجوا عن خط الطاعة للقيادة الأمريكية.


 

 

free web counter