| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جواد بشارة

 

 

 

                                                                                    الخميس 16 / 1 / 2014

 

صيرورة الوجود وماهيته من الأصل إلى الكون الكلي الحي
حقائق علمية جديدة يقدمها تلسكوب بلانك الفضائي

جواد بشارة  - باريس
jawadbashara@yahoo.fr

ماهي الوسيلة الأنجع للتأكد من صحة النظرية العلمية؟ إنها دقة الحسابات والمعادلات الرياضياتية وأناقة النظرية وتطابقها مع المشاهدات والحقائق المرصودة والتجارب المختبرية لإثبات صحة تنبؤاتها وتوقعاتها .

مهمة بلانك تكشف طفولة الكون المرئي أو المنظور

في شهر آيار ـ مايو 2013 حققت البشرية نصرا علمياً جديداً وتقدمت خطوة إلى الأمام في طريق الوصول إلى بداية الكون المرئي أو المنظورمن خلال آخر اكتشافات مهمة بلانك satellite européen Plack والتي تم نشرها قبل بضعة ايام , حيث نجح بلانك في تسجيل أول ضوء انبثق من الكون الوليد بعد تحرر الفوتونات قبل أكثر من 13.8 مليار سنة حيث توصلت إلى الحصول على ضوء أقدم ب 100 مليون مرة من الذي عهدناها ما يعطي للكون عمرا يبلغ 13.8 مليار سنة بدلا من 13.7 مليار سنة. إن الصورة التي نشرتها الهيئات العلمية المتخصصة وعلى رأسها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا لا تعني للإنسان العادي شيئاً فهي في نظر غالبية البشر ليست أكثر من صورة لبيضة مرقطة بمليارات النقاط الملونة بالألوان الحمراء والبرتقالية والصفراء والزرقاء والموزعة بصورة عشوائية لأنه لا يدرك أن كل نقطة محملة بكم هائل من المعلومات التي تروي لنا جزءاً من تاريخ بداية العالم المادي كما خلدته لنا أولى الإشعاعات الضوئية في الــ 370000 سنة الأولى التي أعقبت حدث الانفجار العظيم Big Bang والمعروفة بإسم الخلفية المكروية الكونية المنتشرة في كل مكان من الكون المرئي أو المنظور le fond diffus cosmologique . وكانت وكالة الفضاء الأوروبية إيسا ESA قد أطلقت هذا التلسكوب الفضائي سنة 2009 وهو عالي الدقة والاتقان والكفاءة التكنولوجية بحيث أن الصور التي التقطها من عمق الفضاء الكوني أفضل ألف مرة من الصور الأولى التي التقطت لبداية الكون المرئي أو المنظور سنة 1990 من قبل التلسكوب الفضائي الأمريكي كوب COBE وتم عرض صور بلانك في باريس عن أصل الكون portrait HD de nos origines أي صورة بورتريه عالية الدقة لأصلنا أو الصورة الأصل أو المصدر المرئي الأول للكون image source حسب تعبير وسائل الإعلام الفرنسية، وهي الصور التي تختزن أقدم بصمات لأولى اللبنات للبنيات الأولية للكون في اللحظة 10-35 من الثانية بعد الانفجار العظيم وهو انجاز تكنولوجي هائل حققه البشر في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين الذي نجح في التقاط الأشعة الكونية المتحجرةrayonnement fossile والتي تحتوي على منجم من المعلومات العلمية الجوهرية التي باتت الآن بين أيدي العلماء المتخصصين الذين ينكبون الان على دراسة بصمات اللبنات الأولى مما سيتيح لنا لاحقاً شرح وتفسير ومعرفة أصل الكون المرئي أو المنظور الحالي الذي نعيش فيه. ومن خلال فك رموز الصور تم تفسير وإثبات حدوث أحد ألغاز الكون المرئي ألا وهو الانتفاخ أو التضخم السريع والهائل l’inflation بعد أن كان حدوثه افتراضياً ونظرياً من قبل عدد من علماء الكونيات والمنظرين الفيزيائيين كما كان الحال عندما افترض أحدهم وهو بيتر هيغز نظريا ورياضياتياً وجود جسيم الرب أو بوزون هيغز الحامل لكتل الجسيمات قبل نصف قرن من اكتشافه حيث تم إثبات وجوده علمياً ومختبرياً في شهر آب 2012 وتأكيده نهائياً في شهر مارس آذار سنة 2013 وبصورة نهائية لا تقبل الدحض بغية تفسير أصل ومصدر كتلة الجسيمات الأولية . أما التضخم فهو أروع وأهم لأنه يكشف عن كونه الأصل لنشوء وظهور المادة وكل البنى الحالية للكون المرئي أو المنظور. وذلك سوف يؤثر بلا أدنى شك على كثير من الثوابت والقيم والحسابات الرياضياتية وربما على سياق نظرية النسبية العامة لآينشتين التي مازالت صامدة أمام عواصف الاكتشافات الكونية. تأتي مهمة بلانك اليوم لتكرس صحة نظرية الانفجار العظيم أو الكبير البغ بانغ باعتبارها الصيغة العلمية المثبتة علمياً لولادة أو إنبثاق الكون المرئي وليس لخلقه كما تقول الميثولوجيا الدينية، وخروجه من رحم حالة الضبابية المعتمة brouillard opaque أي الحساء الكثيف جداً الذي كان يسبح فيه الكون إبان الانفجار العظيم عندما كانت درجة حرارته تقدر بمائة ألف مليار المليار المليار درجة وفي قلب هذا الجحيم كانت الجسيمات الأولية تتلاطم في حالة اضطراب كبير ساجنة في طياتها الفوتونات النقالة أو الحاملة للضوء . وفجأة بدأ الكون بالتمدد والتوسع وبانخفاض ملحوظ في درجة حرارته وتغير ظروفه الأولية . ثم بدأت مرحلة إعادة الترتيب والتركيب recombinaison عند مرحلة الــ 370000 سنة بعد الانفجار العظيم عندما كانت كثافته أكبر مليار مرة من كثافته الحالية إلا أن درجة حرارته بلغت 2700 كلفن ، عندها، هدأت الجسيمات نسبياً وبدأت تنظم نفسها على شكل ذرات مستقرة من الهيدروجين والهليوم التي تعتبر أولى مكونات الكون المادي، ومن ثم تحررت الفوتونات متجهة نحونا بسرعة الضوء أي 299792458 متر في الثانية أو 300000 كلم في الثانية وإن تلك اللحظة بالذات هي التي استطاع تلسكوب بلانك الفضائي التقاطها وبفضله صرنا نعرف أول صرخة أطلقها الكون المرئي الوليد أو ما يسمى اليوم بصدى الانفجار العظيم. ولكن هذه المرة كانت اكثر دقة مما حققه سلفه الأمريكي التلسكوب الفضائي كوب COBE – cosmic Background explorer سنة 1992- 1990 وهو الحدث الذي ضمن لمصمميه الأمريكيين العالمين جورج سموت George Smoot و جون ماثرJohn Mather الحصول على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 2006 . و قدمت مهمة بلانك الفضائية أيضا أدق خريطة للكون تم الحصول عليها على الإطلاق بالإضافة إلى التصحيح الذي أجرته في نسب الطاقة المظلمة, والمادة المظلمة و المادة الاعتيادية في الكون, حيث أثبتت أن الطاقة المظلمة موجودة بنسب أقل من المتوقعة في حين ازدادت نسبة المادة المظلمة و المادة الاعتيادية عن النسب الموجودة حاليا, وسوف تنشر المهمة تقريرا مفصلاً و كبيرا لها في العام 2014, كما قامت مهمة بلانك الفضائية بإطلاق أكثر الخرائط دقة و تفصيلا لأقدم الأضواء والإشعاعات الموجودة في الكون, ما أدى إلى كشف معلومات جديدة حول عمر الكون, ومحتوياته و أصوله. والجدير بالتذكير أن بلانك هي مهمة تابعة لوكالة الفضاء الأوروبية, و تساهم فيها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA بدور أساسي من خلال تكنولوجيا الأجهزة العلمية الموجودة في المهمة, و يعمل فيها علماء من الاتحاد الأوروبي, وأمريكا و كندا من أجل تحليل البيانات القادمة من بلانك. حيث يعكف فريق عمل علمي كبير من جميع أنحاء العالم يعمل بجهد هائل على فصل الفوتونات الناجمة عن إشعاعات الخلفية الماكروية الكونية عن باقي الفوتونات التي التقطها بلانك والقادمة من كل مكان في الكون المرئي أو المنظور.
إن أهم إنجاز حققته مهمة بلانك هو إثبات صحة سيناريو الانتفاخ أو التضخم المفاجيء المتسارع والهائل l’inflation للكون المرئي الذي حدث مباشرة بعد الانفجار العزيم وهو السيناريو الذي يخبرنا أن الكون انتفخ فجأة وبسرعة لا متناهية بعد حدوث الانفجار العظيم حسب ما أكدته نتائج الرصد التي سجلها تلسكوب بلانك الفضائي وكان اقتراح هذا السيناريو قد تم استجابة لثلاث مشاكل عويصة ارتبطت بموضوع التوسع الكوني l’expansion de l’univers . ففي لحظة الانفجار العظيم بدا الكون بالمشاهدة متجانساً homogène ومتماثلاً أو متناظراً وبدرجة حرارة متماثلة هي نفسها في كل مكان فيه ، والحال كان يفترض في الحقبة 370000 بعد الانفجار العظيم عكس ذلك تماماً إذ لم يكن هناك وقت كافي للضوء للانتقال من نقطة إلى أخرى ووضع كل مناطق الكون في حالة توحيد unission ، والنقطة الثانية هي أننا لو نظرنا إلى أية منطقة في الكون المرئي فسوف نجد أن المادة موزعة بنفس الطريقة أي أن الكون المرئي أو المنظور يوجد في حالة إزوتروب أو موحد الخواص، أي متساوي الخصائص في جميع الاتجاهات، في حين أن هذا الأمر يبدو مستحيلاً إذا كانت التقلبات والتفاوتات الأولية fluctuations originelles قد ألقيت عشوائياً ، وأخيرا أن هندسة الكون المرئي أو المنظور تبدو إقليدية euclidienne فالأشعاعات الضوئية والأجسام أو الأشياء الحرة تنتقل بخط مستقيم بينما تخبرنا نظرية النسبية العامة أن الهندسة الكونية ليست إقليدية بالضرورة ، وحتى لو كانت كذلك فهي تنحو لكي تحيد عن ذلك ببطء ولكن على نحو مؤكد. وللخروج من هذا المأزق اقترح العالم الأمريكي آلان غوث Alan Guth سنة 1980 نظرية التضخم الفوري الهائل والمتسارع théorie de l’inflation، وبموجب هذه النظرية يكون الكون المرئي قد شهد فترة ليست هادئة بل عنيفة من التوسع المفاجيء وفي لمحة لامتناهية في الصغر زمنياً حيث تمدد بشكل مذهل موزعاً كل شيء على نحو متجانس وممدداً الفضاء على شكل مسطح . لم يكن هناك دليل على حقيقة وقوع هذا التضخم وبقي المقترح في حدوده النظرية يتداوله العلماء على نطاق محدود في أوساطهم إلى أن جاءت مهمة بلانك لتؤكد صحة هذا الافتراض النظري الفذ وتحول السيناريو المفترض إلى حقيقة علمية. وقد اكتشف العلماء من معطيات ونتائج تلسكوب بلانك الفضائي نهاية هذه المرحلة التضخمية وبداية مرحلة التباطؤ النسبي ralentissement relativement lente . وعند هذه النقطة الفاصلة تخلت فيها القوة السلبية النابذة أو الطاردة force négative repulsive التي مددت الكون بسرعة هائلة، عن سمتها الدافعة، وتنازلت للقوى الجوهرية الأخرى الجاذبة عن مهمتها وتحولت بدورها إلى مادة عندما ولدت التقلبات الأصلية تركيبات وبنى الكون المرئي المنظورة اليوم. ولقد أوضحت الخريطة الأولية التي رسمت للكون وفق معطيات بلانك أن الكون يتمدد حالياً بسرعة أقل من تلك التي اعتقدها العلماء, وأن عمره هو 13.8 مليار سنة و هو عمر اقدم بمائة مليون سنة من التقديرات السابقة. و توضح البيانات التي تم الحصول عليها أن الطاقة المظلمة موجودة بشكل أقل من التقديرات السابقة, و كذلك تتواجد المادة المظلمة و المادة العادية في الكون بشكل أكبر من التقديرات السابقة. والحال أن المادة المظلمة عبارة عن مادة غير مرئية و لكن يمكن كشفها من خلال آثارها الثقالية, في حين أن الطاقة المظلمة تقوم بدفع الكون للتوسع. و إن طبيعة أو ماهية كل منهما تبقى غامضة.
ويبقى هناك لغز دائم يبحث عن جواب وهو: ما الذي أحدث أو تسبب في حدوث التضخم الهائل ؟ هل هناك آلية أو ديناميكية كامنة سابقة للحدث تسببت في حصول التقلبات والترجرجات ؟ قادت الدراسات العلمية الدقيقة للبيانات الفلكية الجديدة إلى تأكيد حصول شيء ما في اللحظة 10-35 بعد الانفجار العظيم. وهذا الشيء الغامض هو الذي تسبب في حدوث التضخم وهو عبارة عن جوهر أو ماهية غامضة substance افتراضية وضعت نظرياً لتفسير التضخم وقد قامت هذه الماهية الغامضة أو المجهولة الهوية بدور القوة النابذة أو الطاردة التي أدت إلى حدوث التوسع المفاجيء والعنيف . المعلومات التي وفرها تلسكوب بلانك الفضائي عن هذه الماهية الجوهرية الغامضة تقول أنها سبقت المادة وبتفككها تحولت إلى مادة مرئية. أي إن التضخم هو المصدر la source لكل ما ظهر في الكون المرئي أو المنظور فيما بعد. ولكن ماهي طبيعة هذه الماهية الغامضة الأولية السابقة للمادة؟ لا أحد يعرف يفترض علماء أنها يمكن أن تكون هي الطاقة المظلمة أوالداكنة أو المعتمة أو السوداء، التي تقوم الآن بعملية توسع الكون وتباعد مجراته بعضها عن البعض الآخر. كانت تلك الماهية هي القوة الأقوى في الكون لكنها تنازلت فيما بعد عن بعض امتيازاتها للثقالة أو الجاذبية وللقوى الجوهرية الكونية الثلاثة الأخرى الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة والنووية الشديدة. وقد يضطر العلماء على ضوء المعلومات الجديدة إلى اقتراح ثابت كوني جديد هندسي والبحث عن طرق جديدة للبحث والتقصي.
إنطلقت مهمة بلانك في العام 2009 و قامت منذ ذلك الحين بفحص السماء, و بوضع خريطة لإشعاعات الخلفية الكونية الميكروية, و كذلك بوضع خريطة للتوهج اللاحق للانفجار العظيم المفترض الذي أدى إلى نشوء كوننا المرئي أو المنظور. إن هذا الإشعاع القديم يقدم للعلماء القدرة على إلقاء نظرة على الكون بعد 370000 سنة من الانفجار العظيم. ولنتذكر أن الضوء وجد قبل هذه المرحلة و لكن تم احتجازه من قبل البلازما الحارة بما يشابه شعلة الشمعة, التي تبرد فيما بعد و تترك الضوء حرا.
إن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي متجانس بشكل ملحوظ على كامل السماء, لكن التغيرات أو التباينات الصغيرة تكشف عن بصمات الأمواج الصوتية الناجمة عن الاهتزازات الكوانتية أو الكمومية في الكون تماما بعد لحظة ولادته. هذه البصمات, كلطخات في خريطة بلانك, و هي البذور التي نمت منها المادة, و شكلت النجوم و المجرات. إن مهمات الفضاء تلك التي تأخذ شكل البالونات أطلعتنا و بتفصيل كبير عن الكثير من تلك الحزم الضوئية من خلال مسبار أو تلسكوب ويلكنسون الفضائي لقياس التباين الميكروي (WMAP) التابع لناسا حيث حصل مكتشف الأشعة الخلفية الكونية (COBE), على جائزة نوبل للفيزياء في العام 2006.
تلسكوب بلانك الفضائي هو الوريث لهذه الأقمار الصناعية, و يغطي مجالا واسعا من ترددات الضوء مع تحسينات على الحساسية و الدقة.
فإلى جانب الخريطة الجغرافية المجسدة للكون التي ينتظرها علماء الفلك في جميع أنحاء العالم على أحر من الجمر كما يقول جون سينتريلا و هو عالم في برنامج بلانك من وكالة ناسا: " فإن القياسات الأخيرة التي وفرتها مهمة بلانك, مهمة جدا للعديد من العلوم, تماما كأهميتها بالنسبة لمستقبل مهمات الفضاء. فنحن سعداء جداً للعمل مع وكالة الفضاء الأوروبية في مثل هذا المسعى التاريخي". إن الخريطة الناتجة تعتمد على المراقبات التي أجرتها المهمة في الأشهر الخمسة عشر و نصف الأولى من عمرها, و تكشف أيضا هذه المراقبات وعن تذبذبات صغيرة في درجة الحرارة في الخلفية الكونية الميكروية, و هو الضوء الذي رحل لمليارات السنين تقريبا منذ بداية الكون حتى يصل إلينا الآن. إن حزم الضوء هذه تمثل بذور المجرات و العناقيد المجرية التي نراها حولنا الآن.
يقول تشارلز لورانس و هو عالم في مهمة بلانك من مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة ناسا: "مع رحيل الضوء القديم باتجاهنا, تقوم المادة بعرقلة مسيره و مساره و حرفه ما يؤدي إلى حصول التغيير في هذه الحزم قليلا", و يتابع قائلا: "لا تكشف خريطة بلانك فقط عن كون شاب جدا, و لكن عن المادة و المادة المظلمة أو السوداء المتواجدة في كل مكان من الكون".
ومن النتائج الملفتة للنظر في مهمة بلانك هي إعادة النظرة في بعض المعطيات الجوهرية للفيزياء الفلكية les donées fondamentales de l’astrophysique مثل ثابت هابل constante de Hubble الذي يحدد في المعادلة الرياضياتية معدل توسع الكون المرئي أو المنظور، الذي كان مقدراً بــ 74.3 كلم في الثانية وبوحدة القياس الميغابرسيك mégaparsec أو الفرسخ الفلكي، الذي يعادل أكثر من 3 مليون سنة ضوئية ،وقدر بــ 67.3 ، مما يعني أن الجسم الفضائي الذي يقع على بعد ميغابارسيك أو فرسخ فلكي واحد من الأرض يبتعد عنا بسرعة 67.3 كلم في الثانية ، وإذا كان يبعد عنا بــ 2 ميغابارسيك فإنه يبتعد عنا بسرعة مضاعفة ، وبالتالي فإن عمر الكون المرئي التقليدي سيتغير بشكل طفيف كذلك، وصار يقدر الآن بــ 13.81 مليار سنة بدلاً من 13.75 مليار سنة في السابق، وبالطبع هناك عوامل وثوابت وكميات قياسية تتوقف عليها دالة من المتغيرات المستقلة في المعادلات الرياضياتية، إضافة إلى ثابت هابل والتي تدخل في تقدير عمر الكون المرئي لذلك تم تعديل بعضها وفق آخر المعلومات التي زودنا بها تلسكوب بلانك الفضائي اليوم. من بينها الكثافة الكلية للمادة densité totale de la matière في الكون المرئي أو المنظور، والتي تقترب أكثر فأكثر من العدد واحد 1 أو بدقة أكبر من 0.9585 مما يعني أن الكون المرئي أو المنظور يبدو كأنه فضاء مسطح منبسط espace plat وإن هنسدته المكانية sa géométrie على المستوى الكوني لا تختلف عما نمارسه أو نطبقه نحن على مستوانا في كل يوم. ولقد وجد العلماء خللاً أو تشوهاً في الهيكيليات أو البنى الأساسية les structures للكون المرئي من خلال ملاحظة وجود توزيع غيرمتكافيء وغير متجانس للمحتويات فيه ، فهناك نصف الكون يحتوي على كمية أكبر من النصف الآخر كما لو كان هناك تفضيل في التوجه مما قد يدفع باتجاه ابتكار فيزياء جديدة ربما، وهو الأمر المتعلق بفرضية تطرح تساؤل : هل كوننا المرئي جزء ضئيل من أكوان متعددة multivers أكبر وأوسع بما لا نهاية؟ وهل في هذا التباين الذي اكتشفه تلسكوب بلانك الفضائي ذاكرة لمراحل أخرى سابقة في السيرورة الكونية ما قبل الانفجار العظيم؟ أي أن هناك تشققات في الأساست النظرية الكونية مما سيدفع العلماء حتماً في السنوات القادمة إلى محاولة صياغة نماذج نظرية أخرى جديدة وسيناريوهات جديدة بل وحتى ربما إعادة النظري في الدعمة الرئيسية لفيزياء اليوم ألا وهي نظرية النسبية العامة لآينشتين . وهذا هو فحوى القسم الثالث من هذه الدراسة.
إن عمر, محتويات الكون المرئي و الأساسيات الأخرى الموجودة في الكون يتم وصفها من خلال نموذج بسيط طوره العلماء, يدعى النموذج القياسي أو المعياري للكون. وإن هذه البيانات الجديدة تسمح للعلماء القيام باختبار و تطوير معطيات هذا النموذج للوصول إلى دقة أكبرفي النتائج . وفي ذات الوقت, تم ملاحظة خصائص مثيرة و غير متطابقة مع الصورة البسيطة.على سبيل المثال, يفترض النموذج القياسي أو المعياري للكون أن السماء متماثلة من كل الجهات, لكن حزم الضوء القادمة من كلا نصفي السماء غير متماثلة, و هناك بقعة منها تمتد على مجال من السماء أكبر بكثير من المتوقع.
يقول جان تاوبر و هو عالم في مشروع بلانك من وكالة الفضاء الأوروبية: "من ناحية, لدينا نموذجا بسيطا يناسب مشاهداتنا ومارقبتنا بشكل ممتاز, و لكن من ناحية أخرى نرى خصائص غريبة تجبرنا على إعادة التفكير بافتراضاتنا الأساسية", و يتابع قائلا: "هذه هي بداية الرحلة, و نتوقع أن تحليلنا المستمر لبيانات بلانك سوف يساعد في تسليط الضوء على هذا اللغز ".
يعكف فريق العمل العلمي على تحليل أكثر من ألف مليار نقطة حسابية أجراها تلسكوب بلانك الفضائي ولم يتمكنوا إلى الآن إلا من تحليل نصفها، وهناك إشارات ضوئية أضعف بعشرة إلى ألف مرة من الإشارات التي تبعثها الأشعة الماكروية الخلفية الكونيةle fond diffus ومع ذلك سجلها تلسكوب بلانك الفضائي ويجري الآن فصحها ودراستها وتحليلها وعند الانتهاء منها سوف نحصل على كم هائل من المعلومات التي سوف تضيء لنا تصورنا حول جغرافية الكون وطوبولوجيته وشكله ، وهل هو وحيد أم منطوي على نفسه او متداخل مع غيره.
كما تقوم الاكتشافات أيضا باختبار النظريات التي تصف التضخم l’inflation, و هو التوسع الدرامي الذي حصل للكون مباشرة بعد ولادته. و في وقت أقل من الوقت اللازم لغمضة عين, توسع الكون من حيث الحجم ب 100 مليار مليار مرة. فالخريطة الجديدة, و من خلال اقتراحها بأن المادة تتوزع على ما يبدو بشكل عشوائي, تفترض أن العمليات العشوائية كانت تحتل مكانا في مرحلة مبكرة جدا من الكون عند المقياس الكمومي niveau quantique. هذا يسمح للعلماء باستبعاد العديد من نظريات التضخم المعقدة لصالح تلك البسيطة منها.
يقول لورانس: " إنالحزم الموجودة في أقسام كبيرة جدا من السماء تخبرنا ماذا كان يحدث عند تلك المقاييس الأصغر للزمن, مباشرة بعد ولادة الكون".
ويعلق العالم الأمريكي كرزيستوف غورسكي المشارك في مشروع بلانك من مختبر الدفع النفاث: "نتمنى أن تساعدنا التكنولوجيا الحديثة في التوصل إلى نتائج أكثر دقة, و هذا يؤدي إلى إعطاء الفلكيين كنزا دفينا من البيانات المذهلة, و يقدم لهم فهم أعمق لخواص و تاريخ كوننا المرئي أو المنظور الذي رصده تلسكوب بلانك الفضائي .
فمعدل التمدد الذي تم تقديره حديثا للكون كما ذكرنا أعلاه, و المعروف بثابت هابل, هو 67.15 زائدا أو ناقصا 1.2 كيلومتر\ثانية لكل مليون فرسخ فلكي mégaparsec. فكل مليون فرسخ فلكي ميغابارسيك mégaparsec يمثل تقريبا 3 مليون سنة ضوئية. و هذا أقل من التقديرات السابقة التي تم استنتاجها من التلسكوبات الفضائية, مثل تلسكوب سبيتزر و هابل, بالاعتماد على تقنيات مختلفة.
وبعد النجاح الهائل الذي حققته مهمة بلانك أقنع العلماء وكالة الفضاء الأوروبية إيسا ESA بمشروع علمي جديد أكثر طموحاً وأكثر كلفة بكثير إسمه كور CORE وهو يعني البحث أو التقصي عن الأصول الكونية cosmic origins explorer والذي سيركز على دراسة التقلبات الاستقطابية للأشعة الكونية الماكروية الخلفية les fluctuationspolarisées du rayonnement fossile ويتمثل التحدي في رصد وتسجيل ، ومن ثم دراسة وتحليل، الموجات الثقالية الأولية les ondes gravitationnelle primordiales ، التي تعتبر أحد خصائص التضخم والتي ستوضح بلا شك وعلى نحو مؤكد مختلف الأحداث التي وقعت في بداية الكون المرئي أو المنظور وحول احتمال وجود الثقوب السوداء البدائية أو الأولية حتى قبل تشكل النجوم والمجرات والكواكب . وهو مشروع ضخم ومكلف ويحتاج لعشرات السنين قبل انطلاقه للبحث بين النجوم والمجرات عن حقيقة ما جرى فعلياً في طفولة الكون الذي نعيش فيه.
تجدر الإشارة هنا إلى ماحققه المرصد الفضائي AMS-Alpha Magnetic Spectrometer من تسجيل لدفق من الجسيمات غير المتفاعلة وغير المتدفقة باتجاه محدد، يمكن أن تكون مؤشرات على الكتلة المفقودة في الكون المرئي أو المنظور أو ربما تكون من مكونات المادة السوداء أو المظلمة matière noire حسب اعتقاء بعض العلماء.
ومن المعروف في علم الفيزياء أن لكل جسيم هناك جسيم مضاد يشبهه في الخواص ويناقضه في الشحنة مما يعني أن للمادة في الكون المرئي أو المنظور مادة مضادة antimatière والتي كانت مجرد فرضية قدمها العالم البريطاني بول ديراك Paul Dirac سنة 1931 ومن ثم اكتشف العلماء فيما بعد البوزترون positron وهو الجسيم المضاد للالكترون في المادة العادية المرئية المعروفة، الذي يشبهه في كل شيء ما عدا شحنته الكهربائية فهو موجب على عكس الالكترون السالب الشحنة ولهما نفس الكتلة. واليوم قد تضع مهمة بلانك التلسكوب الفضائي الأوروبي نهاية للغز كوني حير آلاف العلماء على مدى أكثر من نصف قرن فربما سيكشف بعد دراسة معطيات تلسكوب بلانك الفضائي حول مكونات الكون المرئي أن التقديرات الجديدة للمادة المظلمة او السوداء في الكون هي 26.8%, حيث ارتفعت من كونها 24%, في حين هبطت الطاقة المظلمة أو المعتمة إلى 68.3% بعد أن كانت 71.4%. و المادة العادية أصبحت الآن 4.9%, بعد أن كانت 4.6%، وبالتالي سيعتقدون أنهم عثروا على المادة السوداء أو المظلمة أو الكتلة المفقودة في الكون matière noire ou masse manquante والذي يعتبر وجودها لا غنى عنه نظرياً لشرح وتفسير بنية الكون ، ولكن لم يتمكن لحد الآن أي أحد أو أي جهاز من رصدها ومازالت طبيعتها أو ماهيتها أو كنهها موضوعاً لسجالات وجدالات وافتراضات وتفكر وتأملات spéculations عديدة ومتضاربة بين العلماء. ولو تمكنت مهمة بلانك من اكتشاف هذه المادة السوداء أو المظلمة فسوف يحدث ذلك بكل تأكيد ثورة أخرى في عالم الفيزياء الفلكية لأنها سوف تفسر لغز، لماذا لا تهرب النجوم أو تفلت من مداراتها في مجراتها ولماذا تنظم المجرات نفسها على شكل حشود وتجمعات les Amas بدل أن تتشتت وتنتشر عشوائياً في كل مكان، وذلك دون الحاجة للجوء إلى جاذبية أو ثقالة نيوتن. وذلك استناداً إلى آخر القياسات والمعلومات التي سجلها المرصد الفضائي AMS-Alpha Magnetic Spectrometer ، وهو كاشف للجسيمات وضع على متن المحطة الفضائية الدولية ISS على ارتفاع 400 كلم من الأرض، كما صرح العالم الأمريكي الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1976 صامويل تانغ Samuel Ting الأستاذ في معهد ماسوشوسيت للتكنولوجيا MIT التابع لجامعة كمبردج في الولايات المتحدة الأمريكية . وكانت كلفة هذا المشروع العلمي حوالي 1.5 مليار دولار ولقد نشر هذا العالم مقالاً علمياً مهماً في شهر شباط 2013 بهذا الصدد وهو واثق من أن هذا المرصد الفضائي المتخصص في رصد وكشف الجسيمات سوف يتمكن من اقتناص ورصد ما لا يقل عن 25 مليار من الجسيمات المشحونة كهربائياً والموجودة في الإشعاعات الكونية الماكروية الخلفية المنتشرة في كل مكان في الكون والتي تقصف المجال الجوي للأرض ، ولقد تم بالفعل رصد كميات مهولة من الالكترونات وجسيماتها المضادة البوزترونات وكذلك الفوتونات ومضاداتها protons et antiprotons ، وإن البحث عن هذه الجسيمات يتم في النجوم المحتضرة أو التي تعيش آخر أيام حياتها والتي ستنفجر على شكل مسعار كبير supernova قاذفة في الفضاء مليارات الجسيمات المشحونة الطاقوية أو الفعالة والمتخمة بالطاقة والتي تنتقل بسرعة عشرات الالاف من الكيلومترات في الثانية حيث تمتص بعضها كتل رفيقاتها من الجسيمات الأخرى قاذفة جملة من المواد المتنوعة. إن هذه التفاعلات تبث أو تنثر طوفانات من الجسيمات عبر الفضاء مشكلة ما نسميه الإشعاعات الكونية البدئية أو الأولية rayons cosmiques primaires التي تقصف الغازات المتواجدة بين النجوم وبين المجرات وتقوم بذلك بتحطيم جزئيات الغاز بطاقة هائلة. ثم تفرز نتائج تعرف بإسم الإشعاعات الكونية الثانوية rayons cosmiques secondaires ، ومن خلال تحليل هذه الأخيرة سيتمكن مرصد AMSالفضائي من إثبات وجود المادة السوداء أو المظلمة matière noire.
وبحكم المشاهدات والتطورات النظرية بات العلماء يعرفون بالتحديد كمية الجسيمات الأولية والثانوية التي تقصف الغلاف الجوي للأرض ، والحال أن مرصد أو كاشف الجسيمات AMS سجل تشوهاً أو خللاً و شذوذاً anomalie مدهشاً في دفقات البوزيتونات في مستويات الطاقة على عكس ما كان يتوقعه بعض العلماء وكان الفرق بمقدار 10 إلى 30 Gev وهو فرق يمكن أن يكون مؤشراَ على وجود المادة السوداء أو المظلمة فهذه البوزيتونات positons الزائدة يمكن أن تكون ناجمة عن جسيمات المادة السوداء غير المرئية المعروفة بإسم الويمبس Wimps التي هي مختصر لــ wealkly interacting massive particules أو الجسيمات ذات الكتل التي تتفاعل بشكل ضعيف جداً أو على نحو غير ملحوظ مع المادة التي افترضتها النظريات ، وهي أيضاً جسيمات لا بد أن يكون لها مضاداتها كما هو الحال في المادة العادية المرئية. ولكن مع الأسف إن الويمبس Wimps ومضاداتها يفنيان بعضهما البعض وينتج من جراء ذلك بوزيترونات والكترونات أخرى وإن الفرق الموجود في البوزيترونات هو الذي سيؤشر ربما على وجود المادة السوداء أو المظلمة.
ولقد سبق لتجربة علمية روسية - إيطالية أن أجريت في هذا السياق وحيرت العلماء بنتائجها قبل بضعة سنوات وكانت تحمل إسم باميلا pamela وهي تعني paylood antimater exploration light nuclei astrophysic وقد أجريت التجربة سنة 2006 على متن القمر الصناعي الروسي الراصد DK-1 حيث نجحت تجربة باميلا في الكشف عن فائض في البوزيتونات positons إلى حد 100 Gev وهي أعلى نسبة رصدت حتى ذلك الوقت وأعتقد عد لا بأس به من العلماء آنذاك أنها جسيمات من المادة السوداء أو المظلمة حسب معطيات وحسابات تجربة باميلا. لكن الحذر والحيطة هو الذي غلب ولم يتجرأ أحد بالتصريح بهذه النتيجة على إنها حقيقة قاطعة ومؤكدة كونها جسيمات المادة السوداء أو المظلمة . بيد أن نتائج مرصد أو كاشفAMS أكثر دقة وأكثر عدداً حيث وصل الفائض إلى 300 Gev وأكثر كما افترض بعض العلماء أن للويمبس Wimps كتلة تقدر ببضع مئات من الــ Gev ، وبانتظار التأكيد النهائي سيعني ذلك نهاية أحد أهم الألغاز الكونية وفي نفس الوقت بداية للغز آخر جديد حتماً . إذ لو وجدت المادة السوداء أو المظلمة فعلياً وعثر عليها على نحو مؤكد وإنها هي التي تتخذ شكل الغلاف أو الهالة التي تحيط بمجرتنا درب التبانة ولكن بفائض بوزيتونات يتجاوز الألف Gev أكثر من العدد الضروري، عندها سيتوجب على المنظرين الانكباب مجدداً للعثور على تفسيرات جديدة ومقنعة علمياً لتلك النتائج المغايرة لمعلوماتنا الحالية.

يتبع

 

الـــ Gev تعني Gigaélectronvolt حيث إن واحد جيغاإلكترونفولت يساوي 109 أو مليار ev إلكترونفولت وهذا الأخير هو وحدة قياس الطاقة للالكترون الواحد مسرع بكثافة واحد فولت حسب معادلة آينشتين الشهيرة الطاقة تساوي الكتلة مشروبة بمربع سرعة الضوء التي هي حوالي 300000 كلم في الثانية مضروبة برقم 2 ويعبر العلماء عن الكتلة بالالكترونفولت ev/c2 وكتلة البروتون حوالي واحد Gev والجسيم الذي كتلته 10 Gev يساوي عشر مرات كتلة البروتون.

 

 

free web counter