| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم العايف

 

 

 

                                                                                    الجمعة 4/3/ 2011



"ذاكرة الرصيف".. و الفصول غير المروية

جاسم العايف

كتاب (ذاكرة الرصيف) * للأستاذ "توفيق التميمي" ، وحسب ما وصفه في عنوانه الفرعي على غلافه " فصول غير مروية من تاريخ شارع المتنبي". وأضاف أيضاً ، "سيرة رواها" ولم يقل كتبها ، ويأتي ذلك انسجاما مع العنوان الفرعي ذاته ،إذ أن السير تروى عادةً، ومع كل الجهد التاريخي والتوثيقي والمعاينة اليومية التي بذلها "التميمي" لغرض توثيقها ومن ثم كتابتها فهو بدراية وبتواضع كبيرين يقرر إنه "يروي". وبحكم إن التميمي احد الرواة-الشهود- فأنه ينقب في المكان -الرصيف- المحدود مسافة والمفتوح زمنياً لاستعادة مكونات وتاريخ هذا الرصيف- الذاكرة لغرض الحفاظ عليها من الاندثار أو النسيان و لتوصيلها إلى الزمن القادم والأجيال المتعاقبة.يحدد الراوي-الكاتب والمؤلف في ذات الوقت- اقتران ظاهرة رصيف الكتاب بـظواهر اجتماعية واقتصادية متعددة ومتنوعة خلال حقبة التسعينيات من القرن المنصرم وخاصة خلال فترة الحصار، والذي هو أقسى أنواع العقوبات الهمجية التي فرضت على العراق ، واستطاع النظام إن يلقي بثقلها الغالب على العراقيين ، والتخلص منها بالنسبة إليه.لا بل عمد لاستغلال تلك العقوبات بوضع العراقيين بين ناريين، ناره المستعرة التي لم تخمد ، ونار الحصار المتواصل والفتاك والذي أصاب البنية الاجتماعية إصابات باهظة مما ولد ظواهر وأمراض وجرائم وسلوكيات لم يعتدها العراقي سابقا، مع انه قد خرج من حرب طاحنة امتدت ثمان سنوات ، وأعقبتها حروب خاسرة أخرى، لم يجن منها غير الخسران والقتلى والمفقودين والمعوقين والأرامل والأيتام والجوع وأخيراً الاحتلال. و الكاتب "توفيق التميمي" خلال روايته في كتابه يوثق و يتناول شارع المتنبي الذي يعتبر واحداً من أهم مكونات المكان العراقي ثقافياً، كون إن شارع المتنبي يشكل وجه العراق الثقافي ، وأغلفة كتبه والكثير من متونها وحواشيها ، تقترن وتحاول أن تنقب في الروح الثقافية والمعرفية في الواقع العراقي وتحولاته الصاخبة القاسية المريرة ، والشارع بات في تلك المرحلة ميدان للصراع الشرس بين الثقافة الحرة ورموزها ، والسلطة القامعة وممثليها والمتعاونين معها .


من الرصيف والعوز والحرمان والقمع والطموح للاطلاع والمقاومة برزت ببسالة نادرة ظاهرة"الاستنساخ" العراقية بتفرد، فهي إذا كانت عادةً ، بحثاً عن الربح غير المشروع واستغلال المؤلف و الباحث والكاتب والأديب وسرقة جهوده و حقوقه، فإنها في العراق ، وفي تلك المرحلة بالذات، كانت غير ذلك. إنها المطبوع المعارض والمشاكس الذي فضح في احد معاني ظهوره ورمزيته تفاهة وانحطاط وتخلف الثقافة السلطوية وأطروحاتها المتلفعة بالقومية ضيقة الأفق ، مضافاً لها التدين الزائف والكاذب من خلال ما سمي بـ"الحملة الإيمانية". لقد نقب(الراوي- التميمي) في مستهل روايته لذاكرة الرصيف في تاريخ المكتبات البغدادية العريقة أمانة منه أولاً واستجابةً للضرورات التاريخية والبحثية ثانياً ، ومن هذه المكتبات المكتبة العصرية التي أسسها المرحوم محمود حلمي سنة 1914 وهي أول مكتبة استوطنت شارع المتنبي قادمة من سوق السراي ، وكان ذلك في أربعينيات القرن المنصرم وتوالى بعدها انتقال مكتبات أخرى، منها الشرق والأهلية والمثنى والمعارف والنهضة والتربية ومكتبة الشطري وغيرها من المكتبات كالزوراء والبيان والنهضة، والنهضة العربية وغيرها، ثم استعرض تاريخ وتطور رصيف الكتاب ومزاده و ورائده الأول الأستاذ "نعيم الشطري" صاحب المكتبة البغدادية ومؤسس مزاد الشطري الشهير. وواجه التميمي مصاعب عدة لغرض هذا التوثيق ، منها انعدام المعلومات التاريخية الرسمية خاصة في المكتبات الجامعية المعنية بهذا الأمر أساساً، مما دعاه للبحث الشخصي في هذا الموضوع ، مع صعوبته وامتناع بعض ورثة هذه المكتبات عن تقديم يد العون والمساعدة في هذا الجانب. وفي بحثه عن سيرة شارع المتنبي يذكر إن اغلب المصادر التاريخية تؤكد إن هذا الشارع يعود في أصله إلى أواخر العصر العباسي وهو مذ ذلك الحين اشتهر بازدهار مكتباته والمؤسسات الثقافية التي كانت فيه، وان الملك غازي هو الذي أطلق عليه تسمية"شارع المتنبي" عام 1932 تيمناً بالشاعر"أبي الطيب المتنبي" . في الفصل الثاني المعنون "ولادة الرصيف- ثقافة الاستنساخ" ينقل التميمي الجدل الدائر ،حتى اللحظة، حول من أسس لهذه المغامرة فالبعض يرى إن الشاب "صباح ميخائيل" هو من بدأها ، والآخر يذهب إلى إن القاص والروائي "حميد المختار" هو مَنْ كان الأول ، وقسم آخر ينسبها إلى الشاعر "زيارة مهدي". ومن المهم أن نعلم إن من بدأها هو احد المثقفين العراقيين الذين لم تتلوث سيرتهم بمآدب ومغانم النظام المنهار، ومن"الرصيف" ولدت هذه الظاهرة ،وبدأت معها رحلة محفوفة بالمخاطر والعذاب والمحن، بسبب "ثقافة الاستنساخ" وما كانت تعمد إليه السلطة من إجراءات للحد منها و لقمعها أو تحجيمها، خاصة وان ظاهرة الاستنساخ قد تركزت على كتب المعارضين العراقيين، ممن كانوا من المقربين من النظام ويملكون أسراراً كثيرة عنه ، وعن سلوك قادته وماضيهم الملوث، وبربرية مصادر القرار فيه بالذات. وكذلك بعض الذين تحالفوا معه في فترة ما، وبعد أن فتك بهم وبقواعدهم ، استوطنوا المنافي بعد ذلك،وكانت مذكراتهم وكتاباتهم المتنوعة، جميعا، قد فضحت السلوك القمعي والتكوين السري والعشائري والقروي لقادة وحاشية النظام. كما يتناول ويوثق "الراوي-التميمي" نشاطات الأجهزة الأمنية ومحاولاتها السيطرة على حركة الشارع ونشاطه الثقافي وجهودها المستميتة في ذلك بمساعدة بعض العاملين فيه وتعاونهم مع المخبرين السريين ، أو المتطوعين الوشاة ومنهم بعض الأساتذة في الجامعات العراقية ، مما حول عمل وحياة العاملين منهم على الاستنساخ ، جحيماً من النادر الخلاص منه إذ وقع بعضهم في شرك الجهات الأمنية التي دفعتهم للاعتقال،ونكلت بعوائلهم دون رحمة، وألقت بهم في السجون لسنوات ومنهم " سعد خيون العبيدي" و"رحيم عبيد موسى" "وحيدر محمود شاكر" وكنيته( حيدر مجلة). ويكشف "الراوي- التميمي" في روايته كيفية النهب المنظم للتراث الثقافي العراقي بتهريب المخطوطات والوثائق النادرة والتي كانت تجري بتسهيل موثق من بعض وجهاء السلطة ورموز النظام. وكذلك يروي عن " مجانين شارع المتنبي" والمشتركات التي بينهم ومنها لوثة جنون الكتابة والرسم والتهور الشجاع وبطولات الجنون التي لا تتيسر للأصحاء والنبذ من العوائل والحرمان من الإرث والسكن في الكراجات الليلية ومنادمة سكان المقابر النائية وتمسكهم بحرية الجنون التي يرون إنها أنبل من العقل. ومصائرهم الشخصية المتشابهة ، حيث السجون أو الموت بلا مراسيم أو نحيب من قريب، وتواجدهم بعد الغياب الأبدي، في الذاكرة الخاصة بالرصيف وباعته ورواده الدائمين. ومن المجانين في شارع المتنبي الشاعر "صباح العزاوي" الذي يوثق له مقاطع من بعض قصائده والقاص "حامد عبد الرضا الموسوي" القادم من أرياف النجف و المقتول برصاصة طائشة ختمت حياته التي يكتنفها الغموض حتى في طريقة موته المعلن ، والرسام والشاعر والكيماوي"هادي السيد حرز" الذي ينشر له مقابلة أجراها معه في زمن ما . هؤلاء المجانين المقترنة تسميتهم بشارع المتنبي ليسوا سوى ظاهرة خاصة بذلك الرصيف وشارع المتنبي بالذات، ولم يكن أمامهم غير خيار قدرهم الطوعي والبطولة المتلفعة باليأس والتي تنكر لها العقلاء - الواعون ولم يتمتع بها غير المجانين، أو مَنْ يدعي منهم ذلك ، لمواجهة ذلك الزمان وفظاظة أيامه وشراسة سلطته . ثم يروي في فصل "اغتيال شارع" لما سمّاه التميمي بحق "اليوم الأحمر"، يوم الاثنين، الخامس من آذار عام 2007، اليوم الذي تم فيه تفجير شارع المتنبي وحصد أرواح بعض رواده والعاملين فيه " فعند الساعة الحادية عشرة والنصف تعطلت لغة الكتابة، واحترقت الجدران وتفحمت أجساد باعة الكتب، وتهاوت السطوح، وانهارت البنايات، ولم يبق من شارع المتنبي غير أكوام من الكتب المحترقة وتحتها أجساد الباعة، ومن بقايا هذه الأجساد ربما يد مبتورة أو رأس مهشم أو جسد مشوه وسط دخان صعد إلى أعالي السماء،والسنة النار المستعرة"(
ص- 149). ويكشف" التميمي" التناقض بين عدد الشهداء الذي ذكرت السلطات الرسمية انه لا يزيد علي الثلاثين بينما تجاوز عدد المغدورين أضعاف ذلك بكثير ، ويذكر أسماء بعضهم وصورهم ومكتباتهم التي تحولت إلى خراب بفعل أولئك الذين يأتون من أكثر زوايا التاريخ عتمة وتتوالى هجماتهم تفجيرا ،وتنوء مخالبهم وتستعر أحقادهم ضد أنوار المعرفة وفلسفات النور والعشق والحب والرحمة وحكمة الحكماء، كما يوثق لقدرات ورهانات العراقيين دوما على انتصار القيم التي يجمعون على إنها تتمتع بالثقة على انتصار الجمال والعدالة الاجتماعية الإنسانية بمواجهة الظلم والفناء،متطلعين بوله نحو الفضاءات الرحبة والغنية التي تنطوي على ما هو جميل ونبيل وحافل بالثراء الوجداني- الإنساني وذلك من خلال على إعادة اعمار شارع المتنبي من قبل الجهات الرسمية ، ومساهمات بعض الجهات المدنية المعنية بالثقافة حصراً والإصرار على إعادة الحياة للشارع ذاته، والتي في حقيقتها رسالة علنية تحمل في بعض دلالاتها موقعة مقارعة الجهل والبربرية والعدوان والشراسة والتخلف، ولتجديد دفق الحياة والثقافة في ذات مكان الجريمة التي حدثت بشكل مروع ، وكان يمكن للأجهزة الأمنية العمل على تلافيها أو التقليل من حجم خسائرها المادية والبشرية. "ذاكرة الرصيف" وتفاصيل الرواية فيه تفصحان عن إن الإنسان ينحو لأن يتذكر ويروي بقدر ما يراه ويعيشه أو حتى يتخيله، و هو ينشد إلى قادم الزمان بقدر ما يتلازم ويوثق للمكان، وان الذاكرة وتصوراتها تملأ الزمان بما هو ممكن أو مختلف ، وان الوعي الإنساني لا يمكن أن يتوقف أو ينتكس أو يتأرجح أو يختفي عند مرحلة ما لدى الإنسان المأخوذ و المشدود والمتوله بين زمنه أو مكانه، وانه من المؤكد سيفصح عنها وتفاصيلها بوضوح وحدة،عبر ذكرياته المروية في زمن مناسب لذلك .


* إصدار جريدة العهد/ بغداد- 2010/ تقديم الدكتور سلمان عبد الواحد كيوش


 

free web counter