| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم العايف

 

 

 

 

الأثنين 26 /2/ 2007

 



 الورثة والأسلاف *


جاسم العايف

هذا الكتاب ** ، ترجم وطبع لمرات عدة ، في القاهرة وبيروت وبغداد ، ألهب الخيال لسنوات مضت ، وإذ أعود إليه فلا يعني ذلك حثّاً للخيال ، قدر ما يعني استعادة ذلك الموقف والمصير الإنساني الفاجع والمؤرق ، الذي يتشابه كثيراً مع مصائر مئات الآلاف من العراقيين ، والذي يتشابه فيه القتلة كذلك ، بغض النظر عن الزمان والمكان ، فإذا كان الفاشست قد سلبوا حياة ( يوليوس فوتشيك ) الصحفي والقاص و الفنان ، فان ورثتهم من التكفيرين و البعثيين ، وفي زمن عشناه وعاشه غيرنا ولازال ممتدا حتى آلآن منذ 8 شباط 1963 التي حلت ذكرى فاجعتها واعصارها الدموي , فأنهم قاموا ويقومون بذات الأفعال أو بالأدق تجاوزوها كثيراً جدا، وهم الورثة بلا منازع لكل ما هو دنيء وخسيس ومهين في التاريخ ، وإذا كانت ( جوستافو تشيكلوفا ) زوجة ( فوتشيك ) ظلت تبحث طويلاً عن جثة زوجها ، بلا جدوى ، فإن مئات الآلاف من العراقيات والعراقيين ، وبعد اندحار نظام القتل القومي- البعثي ولا زالوا حتى الحظة يسعون للبحث وبكل الوسائل المتاحة وحتى بأيديهم في كل مدن وارض العراق التي تطفو على المقابر الجماعية ، والتي استبدلت بغرف الطب العدلي راهنا والتي سيظل سجلها مفتوحاً ولم ولن يغلق قطعا ، ولم يجدوا غير بقايا عظام بشرية مفتة ، وجماجم إنسانية لاطفال رضع وصبيان وشباب وشابات وعجائز وشيوخ, ثقبها رصاص الموت القومي وحل بدلا عنه رصاص القتل الديني- الطائفي على الاسم او منطقة السكن ، والقليل من اولئك العراقيين المنقبين والمنقبات مَن حالفه الحظ حينما فاز او سيفوز ، بعلامة باقية ـ صدفة ـ من عزيز أو حبيب ، ابن أو اخ ، زوج أو اب ، صديق أورفيق . بعد كل هذه السنوات وفي ظل هذه الايام السوداء ، أعود لهذا الكتاب ، لأستعيد ذكرى مترجمه الفقيد الراحل ( مصطفى عبود ) ـ أبو النور ـ والذي ثوى جثمانهُ في أرض مؤلف الكتاب ، يا لغرابة وتراجيديا المصير الانساني !! حيث ارتحل قسراً في أواخر السبعينيات عن الوطن والاسرة الصغيرة والمكتبة الخاصة ، والصحف والمجلات الراقية التي كان يعمل فيها ويشرف عليها أو يدير تحريرها ، وبقي هناك ، بقنوط واسى ، يمارس الكتابة والترجمة من بعيد ، والراحل مصطفى عبود ـ أبو النور ـ مجموعة كفاءات متعددة فهو مترجم ـ ترجم لأليوت وفوكنر ، وجويس وهمنغواي ، واخرين و ترجم في ميادين شتى عن اللغة الانكليزية التي لم يتخصص بها من الناحية الاكاديمية ـ وهو صحفي بارز ومثقف لامع واقتصادي متمكن ، وقبل كل شيء مناضل قضى ردحاً طويلاً في سجن نقرة السلمان وكذلك هو قاص وناقد وعد بالكثير .
في شوارع براغ عام1943 ، يسرع رئيس تحرير صحيفتي ( رودي برافو ) و ( تفوريا ) الصحفي الشاب ( يوليوس فوتشيك ) متخفياً بهيئة ، عجوز اعرج ، ليدخل منزل صديقه الحميم ( جيلينيك ) حيث الأصدقاء والرفيقات والرفاق ، ولينغمر في بهجة الصداقة ، وألق الوفاء ، والعمل السري والتحدي ، وقبل مغادرة المنزل تصرُّ السيدة ربة المنزل على ان يشرب الشاي النادر في ذلك الوقت ، ليطرد عن جسده النحيل برودة وصقيع شوارع ( براغ ) عندها يقتحم الفاشست منزل الالفة ، كان بإمكانه المقاومة وإطلاق النار من مسدسه ، الا انه نظر لأطفال العائلة ، والذين سيقتلون عند أي بادرة منه للمقاومة ، وازاء صراخ ورعب الأطفال والنساء ، قرر الاستسلام ، لم يكشف عن هويته الحقيقية . وهو المطارد والمتخفي بهوية منتحلة ، قاموا بتعذيبه ، فلم يتمكنوا منه واستمروا طويلا في ذلك ، وبكل الوسائل((هل انتشر النور أم ما زالت الظلمة جاثمة ..؟ لم تجب النوافذ ، والموت يأبى القدوم حتى الآن)) ثم ملّوا (( فالضربات تسقط الآن متقطعة ، ما بين فترات طويلة ، وما عاد الأمر سوى روتين)) وبعد أيام متصلة بالليالي ، مغلفة بالوحشة والالام والتعذيب(( لقد استغرقت طويلاً أيها الموت حتى تأتي ..)) وفي لحظات الصفاء الإنساني والتقاط الأنفاس المغلف بالكبرياء والتحدي ، وبصدق المصير الشخصي الفاجع يتوجه ( فوتشيك ) إلى والدته ووالده ، وزوجته وابنته ، وكل معارفه بأن لا يرتبط الحزن لديه بمصيره وبإسمه ((إذا كنتم تعتقدون ان بوسع الدموع ان تغسل تراب الأسى ، فلتبكوا إذن ، ولكن لبرهة لا غير ، ولسوف تسيئون لي لو وضعتم ملاك الحزن والاسف على قبري)).مع تواصل التعذيب ، يعتقدون انه انتهى ( فتكرموا ) عليه بشهادة الوفاة ـ لم يفعل ورثتهم البعثيين ذلك للمغدورين منذ 8 /شباط / 1963 حتى 9نيسان 2003 مستكثرين على ضحاياهم الذين لايمكن عدهم حتى ورقة الوفاة ـ وحينما فحصه طبيبهم ، مزّق الشهادة مؤكدا لفرق التعذيب-: ((ان له روح حصان)) . بعد أسابيع ، غدا هيكلاً عظمياً ناتئاً وحين قدموا له حساء يوم الأحد لم يستطع تناوله(( ذلك ان لثتي التي سحقت تماماً ، لا تمكنني من مضغه ، وبلعومي يرفض ابتلاع أية لقمة مهما كانت لينة)).
في ليل المعتقل ، وفي وحشة الزنزانة الانفرادية وبردها ، وازاء محاولتهم تدمير جسدك .. ودحرك بضعفه ورهافته ، مَنْ تُرى سيناجيك..؟؟ ليغدوَ نديمك.. قوة الروح .. نداء الحرية العذب.. وبوحها العلني والخفي.. ، مَن غيرهما ومَنْ سيقدُم إليك ويناديك..؟؟ سجان فاشستي((ببدلةS - S )) ؟؟ ام ملثم جديد طائفي..؟ أم ذئاب الحرس القومي وعلاماتهم((ح ـ ق)) وغداراتهم (( استرلنك وبور سعيد )).. ؟ او اسلحتهم المهربة من دول الجوار..؟ أو ((الرفيق الحزبي)) ببدلته الزيتونية ومسدسه (( طارق )).. ؟ او حملة الفتوى الدينية مدفوعة الثمن مقدما .. ام محاكم تفتيش آلآذان واستراق السمع عليها عبر الممنوعات وما اكثرها آلآن..!؟ أم الموت الذي لا بدلة له .. ؟ بعد يأسهم منه تماماً ، حُمل على نقالة إلى مكان أسوأ ، نحو قصر ( بينسيك ) ـ صنوه قصر النهاية .. الذي تناسلت منه اماكن عدة وبات باهتا آلآن..- مطوقاً- ، بالحرس والبنادق ، والمسدسات ، والملثمين.. في أوراقه التي هرّبها من السجن ، والتي غدت مادة الكتاب ، يخاطب ( فوتشيك ) الذين سيجتازون المحنة ، ويطالبهم بعدم النسيان وجمع بيانات الضحايا ، لأن الحاضر سيكون ذكرى ، وان كل الضحايا بشر لهم أسماء وقسمات وآمال وتطلعات ، وقبل النهاية يكتب وصيته (( لم املك غير مكتبتي ، وهذه دمرها الفاشيست )) ويتحدث عما كتب في السياسة وعن دراساته في الأدب والفن والمسرح وقصصه ومخطوطاتها التي صودرت ثم يتوجه بحب كبير للشاعر التشيكي ( جان نيرودا ) ويرجو المؤرخ الأدبي والذي سيأتي في المستقبل (( أوصي بمحبتي لـ ( جان نيرودا ) انه اعظم شعرائنا ممن ظلوا يستشرفون المستقبل أبعد منا.. )) ويكتب بحس إنساني وفني متألق عن تفاصيل كبيرة وصغيرة ، عن حياة السجن والسجناء ، والرفيقات ، والرفاق ، وعن السامري ، الشمام ، كوكلار ، وروسلر ، و ( هذا ) وعن ( أنجيليكا ) والتي كانت تعمل خادمة في يوم ما ، وظلت تتمتع بالاناقة والبهاء والألق والصفاء حتى وهي تسيرُ فجر يوم ربيعي إلى الشنق حتى الموت ، ومدير السجن الوحش ونقيظه ، الأب ( سكوبا ) التقي الطاهر الورع- لااثرله آلآن في ارض الفراتين- الذي مرت من بين يديه وعبر رداءه الكهنوتي مئات الرسائل السرية ، التي لم تُكتشف والذي (( يعرف كيف ومتى وأين يبث )) العزيمة والصلابة وتستطيع نظراته الابوية المخلصة ، الصادقة ، العميقة ، الحانية ، ان تمنح القوة والعناد ، انسانا يوشك ان ينهار من اليأس ، والذي يدرك ذلك ويعرفه برهافة حسّه وخبرته .
عندما يوقن ( فوتشيك ) انهم غداً ، ومع الفجر سيعدمونه ، يكتب ...
-:أقترب دوري من نهايته ، هذه النهاية ، لم اكتبها بعد وهو أمر لا اعرفه تماماً ، لم يعد دوراً ، بل الحياة ، وفي الحياة ليس هناك متفرجون ... الستارة تنسدل ... أيها الناس .. لقد أحببتكم .. كونوا يقظين ... !!


* في ذكرى صديقي الراحل (عبد المحسن براك) الذي زاملته في معتقلات الحرس القومي بعد 8 شباط عام 1963
** تحت اعواد المشنقة- ترجمة مصطفى عبود - تقديم فخري كريم
دار الرواد- 1978