| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم العايف

 

 

 

                                                                                    الخميس 22/3/ 2012



 قيق .. قيق.. موزمـبيـق!
عن قمة الحكام الـ(عرب) في بغداد 

جاسم العايف *

اذكر إنني وفي منتصف السبعينيات، شاهدتُ مئات البراعم ومعهم آلاف الطلاب ، من البصريين والبصريات، في الدراسة الابتدائية، ومثلهم طلبة في الدراسة المتوسطة ،وبينهم أخي الصغير، وهم يشكلون سياجاً من جهتين متقابلتين يمتد من ساحة سعد في البصرة إلى مطار البصرة الدولي، السابق، والذي يقع قربه فندق شط العرب الدولي كذلك، بفخامته وعمارته البهية المعروفة ، وهو فندق شيده بعض المعماريين المهرة من التابعين والعاملين مع قوات "الاستعمار البريطاني" وكذلك مطار البصرة الدولي أيضاً، و الذي كان يربط البصرة بالعالم عبر رحلات جوية منظمة كل نصف ساعة أو أقل وهي تتوجه بمنتهى الدقة والأمان، وتخترق سماء البصرة ليلاً ونهاراً إلى كلِ مكان في هذه الدنيا. دُهشت جداً لهذا المنظر وللبراعم والأطفال والطلاب من الجنسين، وهم يرتدون الملابس الموزعة عليهم وهي ملابس منظمة (الطلائع البعثية) وكانت زرقاء، فاتحة، اللون ومعها ملابس (منظمة شبيبة البعث) وهي خضراء اللون وكلها، الزرقاء والخضراء، مصنعة في معامل خياطة كورية شمالية، وعليها خارطة تمتد من" المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي" وموشاة بشعار "الأمة العربية المجيدة" و المعروف بـ" وحدة حرية اشتراكية". كان منظراً وبحق أدهشني جداً لأول وهلة ، لأنني لم أكن أملك حينها جهاز ( تلفزيون) ومع انه بالأسود والأبيض ولكنه كان نادراً جداً لمستخدمٍ بسيط كالوضع الذي كنت عليه فمن أين ليَ العلم بذلك!؟ .

في السيارة التي تقلني إلى عملي مع بعض الموظفين والموظفات، علمتُ أن هذه التظاهرة والاحتفالية والتي يحمل فيها الأولاد كلهم بمن فيهم البنات صوراً ملونة للأب القائد ولنائبه الأوحد، لم يصل وقتها (للضرورة)، ومعها أعلاماً للثورة العربية، و بعض الصور لثائر موزمبيقي، تسلم عبر حروب العصابات الضارية ، والتي كانت سمة عامة لأحاديث وأمنيات وأحلام جيلنا السبعيني ، كان ذلك الحاكم الموزمبيقي الثائر ، اسمه "سامورا ميتشل" وقد تهشمت جثته بعد ذلك عند سقوط طائرته في غابات موزمبيق، ربما كالعادة لتصفية الحسابات بين الثوار بعد تسلمهم السلطة ورغباتهم الجامحة في التحكم والإنفراد بسلطة القرار و سعة وشراهة النفوذ ، بمؤامرة سرية محكمة جداً من بعض أقرب رفاقه. كان ذلك القائد الموزمبيقي الشاب الأسمر والملتحي ، في زيارة للعراق ،وهي بالتأكيد زيارة (استجداء لمعونة ما) بالنظر للفقر المريع الذي عليه موزمبيق، فقررت القيادة العراقية البعثية أن يقوم  ، ضيفها ،بزيارة البصرة للاطلاع على ما سمي وقتها بـ"الخطة الخمسية الانفجارية" ومشاريعها البصرية بالذات.

أُخرج الفتيان والأولاد والطلاب ومعهم البنات من روضاتهم ومدارسهم ،ورصفوا في ذلك الشارع باستقامة منذ الساعة السابعة صباحاً وهم يهتفون
" قائد موزمبيق.. أهلاً بيك.. شعب البصرة البعثي .. يحييك" ظل الجميع يصرخ ويصرخ بلا هوادة بناءً على أوامر صارمة، حاسمة، من "الرفاق والأنصار المتقدمين والمؤيدين". لفحت الشمس البصرية بحدتها وقساوتها، الأولاد والبنات والفتيان والطلاب وبحت الأصوات وتحشرجت الحناجر الفتية ، وتجاوزت الساعة الحادية عشرة صباحاً ، ولم يصل الثائر الموزمبيقي ، وبدأ الجوع والعطش والإنهاك على الجميع ، واصفرت الوجوه، و كما روى لي أخي الصغير، بعد ذلك، وكان احد طلاب الدراسة المتوسطة ومع المستقبلين قائلاً: " من ساحة سعد - التي اشتعل فيها بعد عقدين ونيف فتيل انتفاضة 2 آذار عام 1991  المغدورة - بدأت همهمات وتمردات عفوية صغيرة سرية أولاً، ثم سريعاً ما اتسعت وبصوت عالٍ جداً، أدهش وأثار الرعب والخوف والذل والانكسار في نفوس الرفاق والأنصار، وخذل الصراخ المتواصل من المستقبلين ، كل المشرفين على الاستقبال والاحتفاء الشعبي و الرسمي بالثائر الموزمبيقي، كان ذلك الصراخ قد امتد من ساحة سعد ،التي تبعد حوالي عشرة كيلو مترات عن مطار البصرة وفندقها الدولي، كما يلي نصاً :" قـيـق.. قـيـق.. حاكم موزمـبيـق.. لا أهلاً بيك.. ولا احنه نحييك " وظل الصراخ بصوت عالٍ يتواصل بحدة وبلا هوادة أو تراجع ، دون أن يعبأ احد البراعم والفتيان والطلاب والذين هدهم الجوع وفتك بهم العطش مع الوقوف الطويل والمتواصل تحت شمس البصرة الحارقة لساعات ، بزجر الرفاق إطلاقاً ، مما أربكهم و دعاهم لسحبهم سريعاً، كالقطعان نحو مدارسهم وروضاتهم وهرب جميعهم بعد معاناتهم الجوع والعطش والتعب والإنهاك ، نحو بيوتهم ، في بلد كان الاحتياطي الثابت المودع رسمياً لدى البنك الدولي باسمه (30 مليار دولار أمريكي) عدا ما موجود في خزائن البنك المركزي العراقي، المعلن منه، والسري والذي لا أحد  يعلم به نهائياً ، كان حينها الدينار العراقي الواحد يتجاوز في الغالب الثلاث دولارات و18  سنتاً، لم يجد مَنَ كان حاكماً للعراق ضرورة ما تقتضي منحَ وجبة فطور دائم مدرسي صباحي لبراعم وأطفال وطلاب بلده، والذين حولوا ذلك الاستقبال إلى مهزلة وكارثة عبر صراخهم المتواصل (قيق.. قيق.. الخ) دون أن يوجههم احد، أو يدعوهم له، إذ لم تكن هناك معارضة علنية لذلك النظام، بل كان الكل في سلة واحدة ، عملت وجاهدت محلياً ودولياً، قوى معروفة عبر (الجبهة الوطنية والتقدمية) ، سيئة الصيت، لتبيض وجوه سوداء وماضٍ دموي ،وصفحات مريبة وفاضحة ومفضوحة، لقادة النظام، بحجة أنهم من (الديمقراطيين الثوريين) وان سياستهم الخارجية موالية لدولة كبرى تمزقت و باتت من الماضي غير المأسوف عليه حالياً.

استذكرت هذا الموقف وهذه الحادثة وأنا أرى عبر (فضائية - الحرة - عراق) وفي برنامجها اليومي العراق والعالم - قبل أيام ومساءً بالذات - ما جاء على لسان الناطق الرسمي المدني باسم عمليات "قيادة قوات بغداد"، وتبعه بعد ذلك، مباشرة، احد ضباط شرطة النجدة وبرتبة عقيد، وخلفه سيارة النجدة الحكومية والحماية تحيطهما وهما يعلنان، بالتعاقب:" انه سيتم بصرامة وجدية ودون تهاون أو هوادة إطلاقاً، العمل على إبعاد كل المتسولين العراقيين والمتسولات العراقيات من الساحات  العامة والشوارع الرئيسية التي تمر عبرها مواكب القادة العرب الكرام، لحضور مؤتمر قمة بغداد، وذلك تفادياً لمنظر يخدش سمعة العراق، بالنظر لكثرة المتسولين فيها".

وأضافا:" كما سيتم أيضاً إبعاد كل الباعة المتجولين وما يحملونه من بضائع، على رؤوسهم وأكتافهم، من الأمكنة ذاتها لهذا الغرض"!؟.

السؤال الذي يؤرقني جداً  ولعله يؤرق كذلك ملايين العراقيين هو: كيف لبلد ميزانيته تعادل ميزانية ثلاث دول عربية مجتمعة،لا بل تتجاوزهم كثيراً، وفيه هذا العدد من المتسولين الذين "سيخدشون" وجهه وسمعته أمام قادة الدول العربية الذين سيحضرون مؤتمر القمة العربية العتيدة في بغداد عند نهاية هذا الشهر ولمدة (ثلاث ساعات فقط) هذا فيما إذا منوا علينا بالحضور (المبارك جميعهم) أو مَنْ سيمثلهم..!؟. أليس الأجدى أن توضع حلول جذرية إنسانية - عادلة ولائقة، حكومية وبرلمانية ، ملزمة قانونياً وتشريعياً ، لهذه المسألة التي تخدش، بالأساس وجوه وضمائر كل العراقيين والعراقيات ، في بلد لا حد لثرائه المادي الهائل الطائل ، وكلما زاد هذا الثراء تناهبته لصوص المال العام، في عراق ما بعد 7 نيسان 2003 ، كل بطريقته الفنية الخاصة وتحزبه وطائفته، بصفته (نعمة) هبطت عليهم من مراكزهم الراهنة و سماء دول مهاجرهم، الآمنة ، والتي لا زالت عوائلهم وامتيازاتها المتزايدة فيها ، مستمرة ومتواصلة وستبقى كذلك..!؟.

سيأتي القادة العرب ولا مانع من ذلك بل وأهلا وسهلاً ومرحباً بهم، فلا ولن سيخدش أبدا أبصارهم ومواكبهم الرسمية الفخمة ، منظر العراقيات والعراقيين من المتسولين والمتسولات، والبائعين والبائعات في الساحات العامة أبداً.

وما أن يعودوا بحفظ الله ورعايته وأمنه، إلى بلدانهم حتى يعود كل شيء لحاله، فلا ضرورة إطلاقاً في أولويات وتوجهات حكامنا ،السابقين والحاليين، وجلهم من الملتحين،(تديناً وتقوى) ولا يعلم بها وبحقيقتها وأسرارها ومراميها الخفية إلا الله سبحانه وتعالى، ومعهم مَنْ أوصلتهم أصابعنا وحبرها البنفسجي ، و القادمين علينا من السماء السابعة ، لما يخدش وجه العراقي في أن يرى صباحاً وظهراً ومساءً متسولاً أو متسولة ما ، أو بائعاً في أرذل العمر وهو ينادي بصوت متحشرجٍ متخشبٍ عن بضاعة بائرة ،لا مشترٍ لها !؟.

هكذا أذن و بعد  أكثر من أربعة عقود مرة قاسية دامية مهينة مذلة ، لا زال صوت أطفال البصرة وفتيانها الذين باتوا كهولاً الآن يتردد صداه في أذني (قـيـق..قـيـق ..ألخ). لربما سيجد الجيل العراقي  الجديد ما سيفي بصراخه، أو ربما صمته، وهو يراقب و يواجه عن بعدٍ وتهيب ووجل عبر حمايات قاسية فظة، لا أحد يعرف مَنْ توالي ، مواكب حكام قمة العرب في بغداد.. بغداد الثراء المادي الهائل الطائل ، المنهوب دائماً وأبداً.  


*
كاتب عراقي
 

 

free web counter