| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم العايف

 

 

 

 

السبت 17 /2/ 2007

 



قتل واضح علنيّ *


جاسم العايف

" - لماذا تقتلني ؟
  - لأنك من الضفة الأخرى.
"
                                  ستندال

اكتب عن اخي ... لا لكونه اخي فقط... اكتب عنه لأنه نموذج جيل كامل، أعقبته أجيال أخرى، غُيِّب وغُيبّت في حروب عبثية تافهة لا معنى لها، حروب فعلتها النزعة (البونابارتية) المتجسدة بثقافة التخلف وقيمها الدونية، المستهينة بالحياة الإنسانية، المتشحة بالنظرة القومية الكاذبة والعنصرية وبضيق الأفق السياسي، متوهمة القوة ومنطقها كحل وحيد لازمات ومشاكل البلدان والشعوب المتجاورة منذ آلاف السنوات.. وبالقوة وحدها حكم على مئات الآلاف من الشباب العراقي لان يتحولوا وقودا لحرب سحقتهم وسرقت أمالهم وحيدت قدراتهم في البناء والأحلام، وأحدثت خللا واضحا في الحياة الاجتماعية وقيمها المدنية السلمية بالنزوع الفعلي لتكريس قيم العسكرتاريا وعنف جنرالاتها الفاشلين والمهزومين والذين لا يجيدون غير حوار البنادق والمدافع والراجمات والدبابات والصواريخ وهندسة الخراب والفناء راهنين الوطن وتاريخه المضيء، والانسان وكل ما له علاقة بالحياة والوجود الانساني تحت سطوة وقساوة وبشاعة ووحشية آلة الحروب القاهرة الجبارة البربرية المدمرة.
اخي هذا الذي حقق حلم امي، الامية النواحة البكاءة ،التي كانت إلى جانبي وسألتني ما هذا؟ مؤشرة اتجاه مجمع كليات باب الزبير العائد الى جامعة البصرة، وبعد ان أوضحتُ لها ذلك ردت قائلة: "أتمنى دخول ابني من هنا" وهي تؤشر على باب مجمع الكليات الواسع حيث دخل اخي منه وكان بإنتظاره انشوطة القرار 200 وتعديلاته والذي يحرم على العراقي وفي اوائل السبعينيات الانتماء الى أي حزب اخر الا حزب البعث ومنظماته فقط، والذي وضعوه حول رقابنا جميعا بالقوة والقسوة والوحشية في حدودها القصوى لان نبصم عليه..دخل اخي الكلية وبعد كد وكدح خرج متخصصا بإدارة الاعمال والمخازن، وسيق من بدء تخرجه إلى الخدمة العسكرية وجحيمها المقصود... كان يأتي معفر الجبهة محترق الوجنة من لفح شمس الجنوب ورمال صحراء الزبير، متورم القدمين، ممزق الملابس، مسلوب الإرادة قائلا بأسى وانكسار: " الا توجد طريقة أخرى لخدمة الوطن وعلمه سوى هذه الطريقة المهينة..؟!" .وبعد ان انجز ما عليه، عينته دائرة الخريجين في (دائرة ..... البصرة) الا ان مديرها، عضو فرع حزب القتلة في ذلك الوقت، رفضه ورفض شهادته العلمية الموثقة المصدقة، ورفض معه خدمة العلم والوطن وجنسيته وشهادته العراقية لكونه ليس بعثيا ولا من عائلة بعثية كذلك, ولان دائرته والتي ورثها عن سلفه (عفلق) مغلقة تجاه غير البعثيين ... لأشهر بقي اخي منتظرا حتى حصل على عمل في دائرة حديثة التكوين وعمل أمين مخازن بكل جد وتفان واخلاص.. وكانت نزاهته وعفته وسلوكه وخلو يده مما يعيب، فخرنا جميعا، و كان حرصه على المال العام ونظرته المشوبة بالإجلال له ولعائديته الوطنية - الاجتماعية تسبب لاخي النكد والأذى والجور خاصة مع من أؤتمن عليه بسبب (البعثية) فقط ، وانحاز مديره ذو الشهادة العالية بهندسة البناء إليه لان الرجل- هرب ناجيا بجلده وعائلته خارج العراق ومات بعد ذلك كمدا هناك ودفن في مقابرالعراقيين الغرباء - كان عفيفا وذا قيم نادرة ، في زمن بدأ فيه انهيار القيم واضحا ومؤشرا على الانحدار إلى الهاوية والتردي.. وخاطبه ذات يوم بكتاب رسمي موثق لدي حتى الآن قائلا:"إلى السيد هاشم .../ أمين المخزن المركزي/ الأمين".
لم يتركه صدام ولم يعبأ بأمانته وعفته، وساقه إلى خدمة الاحتياط للمرة الثانية قبل حرب عام 1980 بشهرين، وظل اخي ينتقل من مكان ومن موضع ومن حفرة طوال سنوات الحرب، يخبئ حياته وأحلامه وآماله وأسرته، والتي كونها حديثا، متحاشيا الموت الذي يهم به في كل لحظة.. حتى مزقت جسده قذيفة حرب، ولم تسأله تلك القذيفة ان كان بعثيا أم لا.. ؟.
حينما أمسكت به، ووضعته في حفرة ، بلا ساق ولا يد، مهشم القفص الصدري، مدمى الوجه،استذكرت بكاءه المتواصل يوم أجلسته في رحلة الصف الاول ، في نهاية الخمسينيات ، ترى أكان كذلك باكيا حيث اهلت عليه التراب في صحراء النجف...؟؟و خلفته وحيدا الا من صلاة الوحشة، والتي دفعت ثمن قراءتها لقارئ مجهول و بعد أن سجل اسمه واسم أمي في ورقة محتشدة بالأسماء والهوامش.. اختفى بين غابة التوابيت العراقيةالقادمة صباحا من الجبهات.
هل تحدثت عن أخي فقط.. ؟؟ أم عن أخوة ملايين العراقيين الذين سد النظام ألبعثي الفاشي أفقهم من جميع الجوانب وفرض عليهم التعاسة والشقاء مكرسا وجودهم اليومي ودفق حياتهم وشبابهم القادم لمحارق الفناء في حروبه المتواصلة... قتلى بمنتهى الوضوح والعلنية والمجانية..وإذ يرقدون الآن في مقابرهم فإن رقادهم الأبدي هذا لم يكن إلا الشهادة القاسية والحقيقية على زمن تميّز بالتواطؤات الإقليمية والدولية، غيرعابئ بنا-حتىاللحظة- وبقتلانا الذين امتلأت بهم المقابر وابتلعت الارض الحرام والسواتر الترابية ما تناثر من بقايا أجسادهم.


* من اجل أخي الصغير( هاشم ) الذي قتل بتاريخ 16-17 /2/1987خلال حرب النظامين العراقي والايراني