| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عماد خليل بله
ekbelah@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الجمعة 7 / 6 / 2013

 

اوراق متناثرة من الحلة (4)

الطريق الى الشرقية الابتدائية

عماد خليل بِله

وقفنا بأنتظام في مواضعنا مع بقية شُعب الصف الاول ، ومع الصف الثاني ، حيث أمر الاستاذ حسن بريسم ، وكنا في المنتصف بين تلاميذ الصفين الاول أ والاول ج. وفي لحظة انسحب المعلمون من امام صفوفهم ، وذهبوا ليشكلوا صفا بدورهم مكونا الضلع الرابع للمستطيل. رجال باعمار مختلفة معلمونا، بينهم من هو أكبر من والدي، ومنهم الشاب الذي لم يبلغ الثلاثين سنة، والغالبية بعمر الوالد. كما هم الناس عادة يختلفون، فان معلمي المدرسة الشرقية الابتدائية لذاك اليوم اختلفوا في احجامهم ، واطوالهم، ولون بشرتهم، ودرجة السمنة، اثنان فقط منهم ارتديا نظارة طبية، غير ان الجميع يشتركون بان كل واحد منهم قد ارتدى بدلة ( طقم) كاملة وربطة عنق. التلاميذ يقفون داخل صندوق الصمت حيث وضعهم فيه المعلمون،ولاصوت يعلو غير صوت التنفس، بينما تتسلل الى اذان الصندوق نغمات همس ، وضحكات خافتة ، ووشوشة يرسلها الضلع الرابع. بان عمو عبد الفراش وهو يهم الخطى نحو الجمع من الممر الممتد امام باب الدخول، يتبعه رجلان لايسيران بعجالة مثل الفراش، وقد انشغلا بحديث. الاول أسمر البشرة به سمنة متوسطة، وشعر رأسه محتفظا بسواده، مربوع القامة والثاني كان ابيض البشرة، اشيب الشعر خفيفه من الامام ، نحيف قصير. توجه عمو عبد الفراش ليقف خلف صف المعلمين بينما اخترق الرجلان ذاك الصف وتقدما لواجهته مقابل التلاميذ. اذن كان كل من الاستاذ مدير المدرسة ومعاونه. السيد المدير الاستاذ سيد محسن الموسوي طاف بعينيه بين صفوف التلاميذ وتبسم، فاشرق وجهه ولمع بهالة حنية ابوية، وطفحت عليه طيبة ازاحت التوتر الذي أطبقه الصمت فوق أجساد التلاميذ، ربما الجدد فقط اذ هم أصحاب التجربة الاولى. واحتفظ وجه المعاون بخطوط الصرامة التي رُسمت عليه. شكل المعلمون صفهم ايضا بالوقوف على جانبي المدير والمعاون. وقف الرجال الذين يزرعون العلم والمعرفة في تلافيف ادمغة التلاميذ ليحيلوها من ارض بور الى بساتين نخيل مثمرة بين غابات او نخلات معدودة كل وما تسعه تلك التلافيف. وهم بهجت منصور الدرزي، عبد الامير ، عباس الاعرجي ، عبد الحسين شويلية، حسن عذاب ، حسن بريسم، ياسين، رشيد محمد علي ، عدي صاحب عبيد، ابراهيم ، محمد علي شاكر، ووديع.

نفذت خيوط الصبر ، ودمعت بعض العيون وهي تحدق في صف الرجال، عندها ارتفع صوت هاديء ، رقيق حين بدأ المدير كلامه. لم يشعر التلاميذ برعب من اسلوب مخاطبته، وصوته الهاديء اشعرهم بالأبوة، فتلاشت رهبة الخوف وتبدلت باحترام واجلال تجسد في سلوكهم حين يرونه يدور في الساحة احيانا ، او حين يقف عند جدار غرفته يراقب الطلاب يأتون الى المدرسة صباحا، وحين يغادرونها بعد انتهاء الدوام، وكان التلاميذ يسارعون بالابتعاد عن بوابة المدرسة ، مع القاء تحية الصباح، اودونها، وهم يسعون الى غرف الصفوف. عُرف السيد محسن الموسوي بندرة استعماله للعصا، وان اقترف تلميذ خطأً فان حساب المدير يجول في ساحة العتب واللوم والتوجيه. كان السيد محسن يُنادى بابي سعد. وهذا السعد ابنه البكر يكبرتلاميذ صفنا بسنوات، فتى ذا سمرة داكنة ، رقيق التعامل ، مدلل، بنيته الجسمية ذات نحافة بالغة ، وشعر رأسه أسود كث ، وان وصفه أحد قال: كان شبيها بقلم رصاص وضعت في رأسه مقطاطة. سمعنا ان السيد المدير أرسله الى فرنسا للدراسة العليا بعد أن أكمل الدراسة الثانوية.

معاون المديرالاستاذ احمد ملا مصطفى البياتي، هو من لعب الدور الصارم في ادارة المدرسة فتحاشاه التلاميذ. الاستاذ احمد من ابناء محلة الكلج، وان دخلت سوق العمار من مدخله عند قهوة ابراهيم العكري وانعطفت يمينا تجد ان مستودع السِيف المواجه تقريبا لعلوة عائلة ناجي السالم يفصل بين دكانين الاول للسيد نور شبر، وفي المساحة الصغيرة للدكان الثاني يتحرك بهدوء شيخ وقور يلفه البياض، بياض بشرته ، بياض لحية طويلة معتنى بها تضيف الى وجهه السمح نورا، وحتى ملابسه بيضاء ثوبه ( دشداشته) وغطاء رأسه ( الغترة) التي تكسو رأسه دون عقال. أما دار الشيخ فتقع في عقد الاصفر من محلة الكلج. قيل انه البيت الذي قضى فيه ليلة يوسف سلمان يوسف ( فهد) القائد التاريخي للحزب الشيوعي العراقي حين زار الحلة. وأكتسب عقد الاصفر تسميته من لقب عائلة سكنت فيه، كما سكن في بعض دوره عوائل من العميدية، وهذا العقد ليس بعيدا عن عقد البوس، الذي سُميَ بناءا لحدث وقع فيه. يحكى ان مشكلة حدثت بين زوجة وزوجها، فغادر الزوجة الى بيت اهلها غاضبة. طال الهجر فتدخل اولاد الحلال لاعادة المياه الى مجاريها. وافق الطرفان ، وتمت الموافقة على اشترط الزوج بان تعود أم بيته حين يكون خارج الدار. جاءت المرأة بصحبة جاراتها مبكرة، ولربما تأخر الزوج بالخروج الى عمله، ففي تلك الايام من اربعينيات القرن العشرين لم يكن استعما الساعة اليدوية ، وحتى الجدارية شائعا. ولماذا لايكون تعمد التاخر؟ أدى سوء التوقيت الى ألتقائهما في زقاق العقد، فوقفت المرأة وصاحباتها دون حراك ، ووقف الزوج على بعد امتار منهن، عندها أخذ الرجال المارون يتجمعون حوله. وتصاعدت اقوال الترضية والاصلاح تتعالى وسط الجمعين، ولشيء ما ، ولمبادرة من الكتلتين قادت النساء الزوجة باتجاه الزوج ، فقاد الرجال الزوج نحو زوجته و: يلا ... يلا اتصالحوا.. يامعودين ماتسوه.. ياخوية خوش مرة.. يارجال عيب المرة جاية بنفسها.. شو بوس راسها .. لك دبوس راسها وفضها. . وهكذا وقعت عليه وباس رأسها. وحين طشت الحكاية بين الناس صار عقد البوس.

أستاذ احمد له خمسة اولاد أكبرهم قيس. وقيس شاب اسمر البشرة وسيم، حين اصبح معلما لصفنا الرابع الابتدائي رأيناه متأنقا دائما، ويمتاز بتسريحة جميلة تميزه حيث يسرح شعره الاسود الفاحم الى الوراء ويترك مقدمته على شكل كذلة صغيرة. الاستاذ قيس قليل الكلام وجاد ولايخلو درسه في الحساب من مرح، واهتمام كثيرا، كان التلاميذ تحبه وتحترمه فهو يمنح فرصة لأكبر عدد من الطلاب للمشاركة بحل الاسئلة على السبورة، وكانوا يتسائلون عما يخفيه خلف بريق عينيه، ولحظات تعلق نظراته بشباك الصف. سنة دراسية واحدة اختفى بعدها استاذ قيس، وأخبر الصف أحد تلاميذه، زميلنا مصطفى الابن الرابع من أبناء ألاستاذ احمد ، اذ قال: أن اخاه هاجر الى بريطانيا وأستقر في لندن، وعمل في محل تزيين السيدات، هوايته المفضلة، وجاء من لندن بعد ان اصبحنا في الصف السادس خبر زواج ـستاذ قيس من ابنة السفير الباكستاني في لندن. يبقى للاستاذ المعاون ولد أتسم بالصعلكة هو لؤي، ثم أياد "أبو هالة" الذي أخذه حماس المقاومة الفلسطينية في اواخر ستينيات القرن العشرين فالتحق بالعمل الفدائي لفترة ، وبعد الابن الرابع زميلنا لفترة مصطفى، يأتي الابن الاصغر.

وفي مقدمة صف المعلمين وقف الاستاذ بهجت منصور الدرزي، رجل ضخم البنيان، عريض الكتفين ، ووجهه عريض فيه صرامة وكبرياء. كان المعلم الاول للغة الانكليزية في المدرسة، وولده فؤاد وقف بجانبي في ضلع مستطيل الاصطفاف ذلك اليوم. لم تحظَ مجموعتنا من التلاميذ بكسب معرفة من الاستاذ بهجت، اذ حين نجحنا الى الصف الخامس ، وفيه يبدأ تعليم اللغة الانكليزية، تم نقل معلمها الاول ليكون مدرسا للغة الانكليزية في متوسطة بابل للبنين، وحين نُقلت المتوسطة لتكون ثانوية الفيحاء للبنين وهي مدرسة جديدة بقيَ ضمن ادارتها. ضخامة الاستاذ بهجت ووقفته المنتصبة، بجانب صوته الجهوري وجدية ملامحه فرضت على تلاميذه الهدوء والاصغاء خلال الدرس. لم يرد خبر انه يعاقب بشدة، ولم يخلو درسه من تعليقات ساخرة و مرحة احيانا. حين يكون دوره بمراقبة الساحة خلال الفرصة يقف عند نهاية الممر القادم من بوابة الدخول حيث المكان مرتفع، ويمد بصره على مساحة ساحة اللعب مراقبا متحفزا، وبيده اليسرى عصا طويلة، أما يمدها جامدة على طول رجله ، او يحركها بخفة ضاربا رجله، لم اره ينزل الى الساحة مرة. رغم شعور التلميذ الصغير بالخوف منه عند اول مواجهة ، الا ان المحبة والاحترام تنمو مع اكتشاف أنه أب يمتلك من الحنان الصارم الكثير، وتجسد ذلك بمنحه الدرس خصوصية عالية من المعرفة التي أختزنها، لذا كان مستوى تلاميذه متقدما في معرفة اللغة الانكليزية.

ولا يختلف عنه في الجدية والحسم الاستاذ عبد الامير مدرس اللغة العربية للصف الرابع أ ، وهو يجيد التصرف القيادي. أتسم بقلة الكلام خارج الدرس، وتقرأ الكلام في لمعة عينيه أكثر من الكلام في فيه. يكفيك ان تنظر الى وجهه لتفهم ما يريد. هو كالاخرين متمكنا من دوره، ودرسه هاديء جاد، لم يعرف عنه كثرة ضرب للتلاميذ، وكنا تلاميذ الصف الرابع ب نجله وهو ليس معلمنا. حين تأسست مدرسة الاستقلال الابتدائية للبنين، وتقع بنايتها في محلة كَريطعة بجانب بناية ثانوية الفيحاء، أصبح أول مديرا لها. وفي هذه المدرسة بدأ وأنهى اخي علي دراسته الابتدائية.

يتبع


حزيران 2013


 


 

free web counter