| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عماد خليل بله
ekbelah@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الثلاثاء 30 / 7 / 2013

 

يوم مسكنا الطنطل *

عماد خليل بِله

وقفت عند مدخل الزقاق المنتهي بالشارع العام ، الزقاق الذي عليَّ اجتياز معظمه للوصول الى بيتنا. ترددت بالمرور، فليس من الحكمة السير في ظلام كثيف. "عصفور البلدية" في الطرف البعيد من الزقاق يرسل ضوءا خافتا مخروطيا يغطي دائرة قطرها لا يزيد عن متر ونصف من الارض تحته، وفوق رأسي تتدلى الصحيفة المعدنية فارغة ، اذ سقط عصفور البلدية الذي كان معلقا فيها ضحية أحد اولاد الطرف. كان القمر في يومه الخامس يتلصص فوق الحيطان العالية وتمتد اشعته ضئيلة الكم كاشفة بعض الزوايا العلوية لحيطان الزقاق. هناك توقفت رحلتها وحطت بصماتها منورة. للمرة الاولى اعود وحيدا بعد الغروب من محل الوالد، فقد أصررت أن يسمح لي أبي بعودتي الى البيت منفردا، فانا سبع ولا أخاف - هذا ما ادعيت -

قُبيل غروب ذلك اليوم وصلت سيارة السيد نوري من بغداد متأخرة. وصلت محملة بسلال جبن الاكراد اللذيذ والمصّنع على شكل اقراص مدورة، مما تطلب بقاء أبي في السوق لاستلام البضاعة، وتوزيع قسم منها على باعة المفرق، وحفظ الباقي في زيران مزججة خاصة قد جهزها مسبقا بالماء المالح. كان الجميع منشغلا ذلك اليوم حتى العم ناصر الحمال الذي طالما أوصلني للبيت وهو يحملني على ظهره "حمال باشي" حين كنت صغيرا لم يجد فرصة لاصطحابي . كبشي الذي يرافقني طوال ايام السنة أخذوه قبل يومين دون أن أُبلغ سببا، فلم يكن عيد الاضحى قد حل، وابي لم يجد الوقت للنزول الى الوقفة لشراء خروف بديل.

تعوّد الوالد أن يشتري لي خروفا كل سنة، اُصاحب ذاك الخروف ، ألهو معه حتى حلول صبيحة عيد الاضحى اذ يُذبح. لم أعد أعترض وابكي فقد أُفهمت مع الايضاح المتكرر أن لا مهرب من هذه الخاتمة. أنه اضحية واوانه سيحل. كم بكيت وتمردت قبلها احتجاجا دون جدوى، حتى استسلمت وأعلنت تفهمي، وما عدت أعترض على مصير صديقي السنوي خوفا من تنفيذ الاهل تهديدهم بعدم شراء خروفا بديلا يصاحبني.

من دون كل الكباش التي ربيتُ معها كان هناك واحدا لن أنسه. يستقر في ذهني انه عاش معي سنوات. كبش ابيض صوفه، ضخم البنيان، مليء العضلات، قرناه معقوفان بدائرتين ويزيد. تعودت أيام صحبتنا أن اسرع اليه ضحى كل يوم بعد ان أستيقظ من نومي وأغسل وجهي . أتوجه الى حيث مربطه قرب التنور، تكون حينها امي او عمتي تلقم التنور حطبا. أمتطيه بعد ان افك رباطه فينطلق مغادرا الدار وسط صيحات من في البيت من النساء "ولك لا توكع". أضحك وارد: هذه ليست أول مرة أذهب به للسوق. ونسرع بدربنا.

يقطع الزقاق الذي اقف عند مدخله الان، ويندفع الى الشارع العام مراوغا بين السيارات وعربات النقل اليدوية، منسابا خلال الازدحام ، يحملني قاطعا الشارع والجسر غير مبال بنظرات المارة، ولا مستمعا لتعليقاتهم. ويحدث ان نظهر فجأة الكبش وانا خلف امرأة تسير على رصيف الجسر حاملة سلة خضار على راسها. تفزع المرأة فتقفز اذ تلتفت نحونا، وقد تسقط سلة الخضار او تميل فوق رأسها، فيتناثر ما في السلة من حبات مختلفة الالوان على رصيف او ممر الجسر الاسفلتي ، لتهرس اقدام العابرون بعضها، عندها تنطلق ألسنة المارة برشات من سباب ، وكأن الكبش تعمد ذلك! وتزداد الشتائم صراخا ان حدث ووقع شيء من الخضار في حضن مياه النهر. نكمل عبور الجسر لنمر بمركز الشرطة، فتتسمر عيناي باتجاه بوابته الكبيرة المفتوحة دائما، وثمة اربعة من الشرطة يقف أثنان منهما في كل جانب من جانبي البوابة بكسل وتراخي، ممسكا ببندقية. رأيتهم احيانا يتسمرون فجأة منتصبين كاعمدة الكهرباء، وقد رفعوا بنادقهم بحالة تنكب، فاعرف ان مدير الشرطة او معاونا له قد مر.

نبتعد عن المركز لندخل سوق الخضار المزدحم بكتلة هائلة من الاجساد المتحركة وتتصاعد أصوات بشرية متعددة النغمات متداخلة مع أصوات الموازين وهي تعلو وتهبط، يخترقها بين حين واخر صوت دجاجة تقيق محاولة التملص من يد حاملتها... كلمات.. معظمها ذات الكلمات تندفع الى الفضاء من افواه الموجودين في السوق متكررة ربما في كل دكاكين وبسطات السوق محدثة صخبا، ومُنهية للناس تعاملاتهم. يستمر الحال كل يوم منذ الصباح الباكر لحين الظهيرة على هذا المنوال.

يلتحم الكبش وحمولته بكتلة المتسوقين وتأخذنا الخطوات الى محل ابي. وغالبا ما كنت سيء الحظ ، اذ أجد المرأة التي سقط منها الخضار تضع في سلتها عوضا عنه، وعينا ابي الواسعتين تلتفت لتحدق بي متوعدة بعقوبة.أما اذا كان الوضع آمنا فاذهب الى الجدار الخلفي للدكان، هناك اترك الكبش بعد ان اضع امامه ما توفر من طعام يحبه. قد أنط هنا وهناك بين السلال المصفوفة بانتظام بمحتوياتها المتنوعة، وقد اقعد هادئا عند طاولة صغيرة في الزاوية اليمنى للدكان قريبا من "الدخل" ، حتى يصل صحن الهريسة ساخنا وقد زين وجهه بعلامتي ضرب متعاكستين، واحدة من سكر، والاخرى من دارسين مطحون، ومعه رغيف صمون حار. هو الفطور معظم الايام، وفي الايام الاخرى قد يكون باقلاء ودهن وبيض مقلي، او كباب من مطعم ضايع الكببجي.

كان ضايع الكببجي ببطنه الضخم تعبيرا مثاليا عن دسامة ولذة الكباب الذي يبيع، والعم ضايع مميزا ايضا بحزامه العريض، والذي لم ارَ اخا له، حتى حزام ابي العريض يبدو رفيعا امامه. يشد الكببجي حزامه حول وسطه دائما بوضع مائل. لم يكن موضع عربة الباقلاء والدهن في مدخل سوق التجار المتفرع من سوق الدهديوة يبعد اكثر من مترين عن مطعم الكباب، ومع ذلك، كانت العلاقة بين ضايع الكببجي وسالم بائع الباقلاء علاقة احترام وتعاون، ما كان احدهما ينظر للاخر كمنافس ، فالعمل للجميع والرزق على الله.

الهريسة اكلتي المفضلة صباحا، اتناول الصحن حتى اخره، وامسح ما علق به ببقايا الصمون، ثم اشرب استكان الشاي. عندها اكون شبعت، فاطبطب على كرشي الصغير شاكرا حامدا. وعندها يكون الكبش قد شبع، فنبدأ اللعب داخل المحل، وكثيرا ماعرقل ذلك حركة العمل، فاتعرض لشكوى الشغيلة او لشتيمة من ابي، وقد احصل على ضربة على قفاي، وقد يقذفني ابي بما في يده من خضار، فاهرب واضيع بين المتسوقين، يتبعني خروفي. انما اللعب الجد يكون بعد الظهر، بعد فراغ السوق من رواده، وحين لن يبقَ غير ذوو الحال الصعبة ليشتروا ما بقي من سلعة برخص، او يحصلوا عليها مجانا، فالخضار لا يبيت، وقد يكون تلك الساعة بدأ بالتلف، لاسيما ايام الصيف.

في تللك الساعة ينشغل اصحاب المحلات والبسطات في حساب الوارد لذلك اليوم، وتنظيف المحال، ثم يحمل كل واحد حصته من لوازم البيت ويتجه الى داره. عندها يحين الوقت لينطلق الكبش بصحبتي نركض بمرح. أمسك بيدي قبضة جت او قشر رقي وأنادي، وانا اركض "ترووووه.. تروووووووووووووه" ، فيقترب، فاركض مبتعدا، يلاحقني، أتعب، فأتوقف،وأعطيه قضمة... ونعاود الكرّة. نجري ونتوقف حتى نمل وتنفذ قواي ، فافترش الارض ليهجم عليَ وبقرنيه المعقوفين يطرحني ممددا. ادس الجت في فمه، فينشغل عني، وانا امشط صوف رقبته باصابعي.

في الصيف كانت لنا رقية ، كحصة يومية نتشارك بها. ما ان انتهي من أكل لب الرقية حتى اقطع قشورها الى قطع صغيرة ، اضعها في قفة واقدمها له، ليمضي وقت استراحته يلوك بها. ينتهي لعبنا قبيل الغروب، فأمتطيه ليحملني الى البيت. دارت بنا الايام وحل عيد الاضحى. عادة كبقية الاطفال استيقظ باكرا صباح العيد، ارتدي ملابس العيد الجديدة فرحا، وأطوف على سكان الدار الكبار لجمع العيدية. هذه المرة كان للعيد طعما اخرا! قضيت الصباح حزينا ، لم تفرحني بدلة الضابط ذات النياشين التي اشتراها لي أبي قبل ايام، وما ذهبت لجمع العيدية من جدي واعمامي مما اثار استغراب بعضهم الذي جاء بنفسه لينقدني عيديتي. جلست مقرفصا على عتبة الدرج الداخلي، اذ كان لبيتنا ثلاث سلالم درجات عليك ان تتجاوزها نزولا بعد تجاوزك باب الدار الى ارضيته. أنه مطب للغريب كي يتعثر ويسقط اذا ما دخل بمفرده. كان الحزن بادٍ عليَ، فعيناي حمراوتان لكثرة وشدة البكاء ،وأنا اتوسل ان لا يذبحوا كبشي الابيض. لا فائدة ترجى... فحين حلت ساعته تقدم ابو حمزة القصاب وبخفة المحترف حمل الكبش الثقيل وطرحه ارضا، جثى فوقه، سمى بالرحمن ، وحز رقبته، فتدفق دم احمر قاني. لم توصل رفسات الكبش لنتيجة مغايرة، فكلما ازدادت كمية الدم الجاري على الارض ، كلما خفت حركة الضحية ، وشيئا فشيئا تلاشت. تقدمت نحوه. كانت نظرة عينيه ، نظرة وداع رمقني بها وهو في نفسه الاخير... هي ذاتها نظرة الالم حين طرحه القصاب ارضا منكسرة غير ان الحزن والذبول والاستسلام قد زاد فيها. قبيل ساعة من الذبح داعبته في محاولة للتخفيف عنه، لكنه لم يرد بمرحه المعتاد. فهل ادرك الامر؟! الحركة غير الطبيعية بالبيت، فك رباطه من قبل عمي وسحبه الى باب السرداب حيث عُلق وسُلخ، الوقت المبكر لفك رباطه، طقطقة عدة القصاب أم لمعان سكينه! ربما رائحة القصاب اثارته. هل وجهي الحزين وأناملي المرتبكة أشعرته بخوف النهاية؟ في أقل من ساعة حولَ ابو حمزة القصاب ذلك المخلوق المحبب اليَّ الى قطع لحم وعظام. حمل قطعة ورماها نحوي قائلا بفكاهة : خذ هذه "مبوليته" اعمل منها طبلا رنانا. حملت مشاعري الملتهبة وصعدت الى السطح الثاني من الدار دون ان اجيب، وهناك بعيدا عمن يراني ، قرفصت في زاوية السطح، وارسلت عيناي دمعها الجاري.

وحيدا ... وافق أبي ان اعود بعد ان ازعجته بتوسلاتي ، مُلحا، مُتابعا ، مُتنقلا بين رجليه معيقا حركته، وهو يتنقل هنا وهناك موجها العمل . نظر اليَّ شزرا وقال : "روح خلصني" ، ووضع بيدي عانتين. توجهت الى دكان العم "حيوان" . لا أعرف سبب تسميته تلك، رغم ان ابنه الذي يصغرني بسنتين أسمه عبد الله. كان عبد الله وابيه لديهما ثقل كبير بالكلام ، لذا يعجزان عن الاجابة الواضحة السريعة، وربما ضعف نسبي بالادراك، والناس لا ترحم. لكن العم ابو عبد الله كان يصنع ويبيع أطيب "شكرلمة"، وكيك محشى بالحلقوم. وانا زبون مدمن أكل بضاعته. أخذ مني عانة واحدة وأعطاني قطعة شكرلمة بعد ان لفها بورقة من كتاب مدرسي ممزق. تسليت باكلها وأنا اعبر الجسر العتيق. عند رأس الجسر في الجانب الصغير للمدينة كانت عربة أبي فيصل بائع "اللبلبي" يتصاعد منها بخار يحمل رائحة زكية تثير شهية المارة وتجرك من انفك مرغما لحيث قدر اللبلبي ، ويزداد الاغراء برؤية كتلتي لحم الدجاجتين المسلوقتين وهما يتموضعان فوق تلة من الحمص. بوجودهما يثبت ابو فيصل ان اللبلبي الذي يصنعه مطبوخ بدجاج. وقفت عند العربة فرحا بترحيبه، دفعت له العانة المتبقية عندي، ليضع امامي كأس صغير استقرت بقعرها حبات حمص. رش ابو فيصل فوقها قليلا من الملح والفلفل المطحون، وأضاف قطرات من حامض يحفظه في قنينة عرق مستعملة ، يضع ابهامه على فتحة القنينة ويترك نافذة صغيرة تقطر الحامض في الكاسة، واكرمني بقطعة لحم زادت فرحي، ورغبتي بدوام الشراء منه كلما توفرت لدي نقود. بعد ان كبرنا وشاركنا فيصل وأخوته المدرسة، عرف صبيان المحلة أن كتلتي اللحم اللتان تزينان قدر اللبلبي ما كانتا غير لحم حمامتي دار ذُبحتا. توقفت عن الشراء من ابي فيصل. لم تؤلمني الخديعة بقدر ما آلمني ذبح الحمامات. فعله حرام، اقترف ابو فيصل زلة بذبحه الحمام، وكسب زعل الحسين (ع)، فهذه الحمامات كما أخبرنا الاهل ، هي حمامات الحسين. في بيتنا ذو الطابقين تعشعش بترحاب مجاميع من الحمام بين جذوع السقف الاخير والطارمة، وزوايا درج السطح العالي. كنت احمل لها فضلات الطعام من التمن بناء لطلب جدتي العلوية.

في الصباح والمساء حين يتصاعد هديل الحمام، تقول جدتي : أسمعوا الحمام يبكي دم الحسين. الحمامات تتذكر مقتل أبي عبد الله وصحبه عطاشى فتبكي، وتبكي جدتي ، ترافقها أمي وعمتيَّ، واشارك ان كنت موجودا، فمن يقدر على مواجهة العلوية، وعدم الانصات الى محاضرتها اليومية حول آل البيت. تواصل جدتي قولها : الحمام أحن على إبن بنت رسول الله من قتلتِه، وتصب لعناتها عليهم. جدتي المغرمة بمجالس العزاء، عصر كل يوم ، وقبل ان يعود أبناءها الرجال من عملهم الى البيت كان لها جلسة مع بعض نسوة المحلة للحديث عن أجدادها الأئمة. ولشهر محرم في بيتنا برنامج خاص، اذ يتم تحضير الملابس السوداء قبل قدوم الشهر بفترة كما يفعل غالبية سكان المدينة . يؤخذ من كل ساكن في الدار قطعة او اكثر من الملابس ويتم صبغها بالاسود، ولتلك العملية طقوس خاصة . يستعمل قدر خاص وعصي طويلة وطشت. تبتاع الاصباغ من العطار، وكان أشهر ثلاثة عطارين يبيعون الاصباغ بسوق العمار هم يحيى بربن ابو جعفر ، ولطيف بربن ابو ياسين ، وسيد عودة ابو حكيم. ويوم الصبغ يوم حافل تنشغل فيه النساء بإجراء عملية الصباغة، فواحدة تحرك الملابس داخل القدر، وثانية تجلس عند حنفية الماء تشطفها، واخرى حاملة للملابس للنشر على سطح الدار. في ذلك اليوم يكون الغداء من النوع سريع التحضير، خفيفا، فانشغال النساء لا يمنحهن الوقت لاعداد الطعام المعتاد، وعادة ما يقتصر على التشريباية. ما ان يحل شهر محرم الحرام حتى ترى النساء تتنقل من دار لدار ويصبح البيت والعقد والمحلة والمدينة وقد تلونت بالسواد. كان يحق للاولاد الصغار الذكور حضور مجالس النساء، واحب أيام الموسم للاطفال هو اليوم السابع ، يوم احياء عرس القاسم، حيث نطوف حاملين الشموع وسط الزفة ، وتعبأ جيوبنا بانواع السكاكر من نوكة وملبس وحامض حلو وقلم الملة واصابع العروس والحلقوم، فنقضي اليوم فرحين دون أهتمام بالخلاف المتكرر سنويا في هذا اليوم بين ملة وزيرة وملة أميرة حول ايهما تلعب دور العروسة.

جدتي العلوية كانت قاسية في تطبيق ما تراه التزام بالشريعة. فاذا بال احد الصغار في فراشه ، او ملابسه،او وصل اليه نجس من احد، ما كانت تمنعها حالة الطقس بردا او حرا، فبتعجل وحدة تصدر اوامرها الى أُم الصغير، فتهرع المسكينة مسرعة وتمسك صغيرها من شعر رأسه بعد خلع ملابسه، لتضعه تحت حنفية الماء المكشوفة وسط الدار فوق فتحة حول البئر المغطاة بحوض من الاسمنت. ويستمر الماء بالانصباب والجدة تتلو ما تحفظه لهذه المناسبة من كلام الطهارة، الى ان تعلن كفاية الشطف. في الصيف لا ضير من الامر فصيفنا من شدة حره اقرب بدرجة حرارته الى حرارة الفحم في منقلة بائع اللحم المشوي ، غير ان الشتاء يجعلها عقوبة قاسية، فنصرخ ونحتج ونحن نرتجف ولا من محيص. يوم توفيت جدتي وأظن في شهر محرم كانت تتربع على الحصيرة عصر ذاك اليوم كعادتها، وأختي الصغيرة بحجرها، وثلاث جارات ينصتن لحديثها عن السيدة زينب، وأنا بحيوية أُطارد الدجاجات اللاتي اختبأن بين سيقان شجرة الدفلى هربا... فجأة صاحت النسوة يبوووووووووووووووووووووو... ماتت ام جواد.

لم تكن العلاقة بين جدتي وأمي جيدة على الدوام ، هي نموذج لعلاقة زوجة الابن والحماة.، وأسوأ أمورها ان امي البغدادية كانت بأول زواجها تكتفي بلبس "الشيلة السوداء" تحت العباءة اذا ما خرجت من الدار، بينما جدتي وعمتيَّ يلبسن "الجرغد والشيلة" السوداوين تحت العباءة، مما احدث الخلاف. ترى جدتي بموجب عرف مدينتنا ان الشيلة غير كافية للستر، وإن لبست المرأة معها "البوشية" ، رغم أنه في كلتا الحالتين يكون شعر المرأة مغطى بالكامل. مرت الايام ولبست امي "الجرغد" لفترة، ثم عادت مكتفية بالشيلة حين كبرنا أخوتي وانا.

مضى وقت وأنا أقف عند مدخل الزقاق، وقد حل الغروب حين كنت عند عربة اللبلبي. الان اصبحت الظلمة تحيط بالدروب. لم يمر احد لأرافقه. فكرت بالعودة الى المحل، وما قدرت ، فعيب على "سبع" مثلي إتيان ذلك العمل. لابد من الوصول الى البيت، وقبل قدوم الوالد... تقدمت هادئا على اطراف أصابعي، مستعينا بالحائط مشيت، تكاد أنفاسي تتوقف... مشيت... مشيت.. لفني الظلام. تلفت لا شيء منظور ورائي. واصلت تقدمي حتى قربت من المزبلة، وهي خصر في جدار احد بيوت العقد، طوله متران وعرضه يقل عن متر، تجمع فيه زبالة البيوت اثناء النهار. كان ضوء القمر يرشح على الجزء العلوي من المزبلة تاركا بقيتها في ظلام دامس. رأيت خيال شخصين، وسمعتُ همهمة. لاحت لي ظلال ايدي تتشابك، ورأس يهتز. إنه رأس فتاة، فظل شعرها يتلوى. تسارع قلبي يخفق. حولني الرعب الى كتلة اسمنتية. أخذت ازفر بشدة، وذابت رجلاي ولم اعد أشعر بهما. وصفيت أنتظر الطنطل ليلتهمني بعد ان يفرغ من الضحية التي بين يديه. أحسست إنه وجه حديثه اليَّ بما لم أفهمه فزاد رعبي. حين أيقنت ان دوري أقترب. أستغليت انشغاله بالتهام الفتاة المسكينة التي اخذت تئن بين يديه ، وحين وضع فاه على رقبتها، وراح يعض، انحنيت، وضعت ذيل "دشداشتي" بين اسناني، خلعت نعلي، وصحت "يا علي"، وأطلقت ساقيَّ، فسحباني بنفس واحد حتى باب الدار، ألفيته مفتوحا، فدلفت وأغلقته ورائي. دخلت أولول. ما اهتم احد بأمري. فوجدت من في الدار غارقا في ضحك.

كان ناظم الغزالي يصدح بمقام داخل علبة التلفاز. نادتني عمتي الصغيرة : تعال أسمع. كانت أم عبيد وزوجته، وهما ضيفتان من الريف تزوران البيت بين حين واخر بمفردهما او مع زوجيهما. في زاوية من ساحة الدار تغطيان رأسيهما بالعباءة. كانت هذه زيارتهما الاولى بعد ان اصبح التلفاز يحتل صدر ساحة البيت. حكت عمتي وهي تجلس عند باب غرفتها وقالت : أنه عندما أدارت مفتاح التلفاز، وظهر الغزالي ، وعيناه صوب الجالسين حول الجهاز، الضيفتان تفاجأتا. خجلتا، وغطتا راسيهما بالعباءة وهما تصيحان: "يا يمه.. رجل غريب يتفرج علينا". هذا سبب المرح والضحك في البيت.

بقيت جالسا عند مجاز البيت ولم اضحك. جاءت أمي اليَّ وصرخت حين نظرت عن قرب الى وجهي: "وجهك ازرق... ما جرى لك... أين أبوك". أجبت وأنا أسحب أنفاسي متقطعة : طنطل.. طنطل.. سمعت عمتي الكبرى كلامي وقالت لامي "سويله حرمل .. أكيد مخروع". ضحك عمي الصغير ، طالب المتوسطة الذي يهتم كثيرا بتسريحة شعره، ويصُفها على شكل تسريحة شعر الممثل الامريكي (جيمس دين)، الذي كان نموذج يحتذى لمجموعة من أصدقاء عمي، يقلدونه في لبسه وتسريحة شعره. ضحك فهو ابن مدارس ولا يؤمن بالطنطل وأمثاله من العفاريت. سألني مستهزئاً : لماذا لم تمسكه يا بطل؟ رددت عليه بانفعال : لو كنت أنت بطل، اذهب وامسكه بنفسك، بدل تركه يذبح المسكينة بالمزبلة. قفز من مكانه وأمسك ياقة دشداشتي ، وطلب مني اعادة ما قلت، ففعلت وانا أرتجف. نادى عمي الصغير لعمي الاخر، الذي خرج من غرفته مسرعا حاملا عقاله بيده. تجمع من في الدار حولي وطلبوا مني اعادة ماقلت عن الطنطل والفتاة. فأعدت قص الحادثة كما وقعت مرة اخرى.

ركض عماي نحو المزبلة، بينما وقفت النساء عند باب الدار، وأنا أحتميت بينهن وقد استرجعت بعضا من قوتي وهدوئي. اليوم يقضي عماي على الطنطل ويضعان حدا لوحشيته!! دخل عماي المزبلة، سمعنا صراخا هز أوصالنا، وصحت بفزع : أكلهما.. بكيت وكررت أكلهما الطنطل. بعد ثوان ,انا اشد المضطربين رعبا. ثوان طالت كدهور والنساء حولي يرددن اقوالا متناقضة. بعضهن يلومنني على توريطهما. أنتهى التساؤل حين خرج عماي وهما يسحبان شخصين، ويكيلان لهما السباب بحرقة. حين أقترب الاربعة منا ، تعالت اصوات النسوة مشاركة بالسباب.

ما كان طنطل في المزبلة . كان سمير أحد شباب المحلة مختبيء مع الست سامية المعلمة.
 


ملاحظة : سمير وسامية اسماء غير حقيقية
 

 * نشرتُ هذه القصة اول مرت في صفحة " القصة العراقية" بالاسم الذي استعملته قبل سقوط الدكتاتورية بالعراق عماد الحاج كاظم، أجريت تغيير بسيط قبل اعادة النشر
 

 

 

free web counter