| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عماد خليل بله
ekbelah@yahoo.com

 

 

 

الجمعة 21/1/ 2011

 

رحلة السرطان البحري

عماد خليل بِله

المقدمة:

تتشكل بدايات الوعي عبر المشاهدات المؤثرة في المراحل الاولى من العمر لتؤسس مدخلا نحو الفكر الاجتماعي والسياسي الذي يتبناه الانسان لاحقا وذلك عبر التراكم اللامحكوم واللامحتسب لفعل الاحداث ثم القراءات الاولى في عمق الوعي للشخص، وهكذا كان الاثر الاول الكبير للحدث القاسي الذي تم في 8 شباط 1963 ، ففي تلك الجمعة من رمضان لشتائي البارد كانت مجاميع من المتظاهرين تجوب سوق العمار في الجانب الصغير وهي تهتف شاتمة الزعيم المحبوب عبد الكريم قاسم، اصابني ذلك الحقد الذي يصرخون به ضد الزعيم بحقد معاكس عليهم اذ لم افهم وانا ابن العشر سنوات لماذا يكرهونه لهذه الدرجة وهو الذي يتغني به الناس مرددين \ عبد الكريم كل القلوب تهواك عبد الكريم رب العباد يرعاك\ بينما هؤلاء ومنهم من محلتنا يقولون قتل. لم اسمع غير كل جميل عنه وكانت صورته جالسا وخلفه يقف مرافقه وصفي طاهر مؤطرة على جدران غرفتنا في منزل جدي، وتساءلت : لم قتلوه وقد قدم لنا الفرح، فقد بنا النافورة الرائعة من الموزائيك الازرق المزجج الصغير وحديقة في مركز المدينة امام مركز الشرطة ليجمل المكان وتصبح لنا ساحة ندور لنلعب حولها، وكان يمتعنا باحتفالات 14 تموز حيث نرتدي الطرابيش الورقية الملونة ونتفرج على المسيرات، منذ ذلك اليوم تأسس في قلبي عدم محبة للبعث والحركة القومية العربية وليس للشعوب العربية وتعزز ذلك نتيجة للخوف الذي حل في بيوت الناس التي امست مستباحة لاقتحام الحرس القومي ، واعماله الاجرامية بحق ابناء المحلة وبناتها المحبوبين، ومن حكايات الرعب المليئة بالدم والاغتصاب المتكاثرة بين ناس ذاك الزمان عما يجري في قصر انور الجوهر الذي صار مقرا لهذا الحرس. وكبرنا وبدأنا نقرأ ونطلع وبدأ مدرسوا المرحلة الدراسية المتوسطة يؤثرون بسلوكهم، لم يكن هناك مدرس بعثي او قومي جيد بل كان عدة مدرسين شيوعيين يكسبون محبة الطلاب، بينما رجل الدين بملابسه النظيفة ولحيته البيضاء الكثة الممشطة بعناية اخذ يبتعد عن القلب ولم نعد نركض عندما نراه قادما لنقبل يده فهو يعيش في غنىً ولم نره يمد يده لمساعدة من يحتاج. وكانت مذكرات فيدل كاسترو ومذكرات جيفارا تباع على الرصيف. ازداد الوعي وتوسعت المعرفة لنجد انا دخلنا ساحة اليسار السياسية واصبحنا نحسب من الشيوعيين. ورأيت الحلم الشيوعي هو حلم البشرية، اذ العدالة والمساواة كانت دائما هدف الناس وكمسلم شيعي ظننت ذاك ما سعي له الائمة الم يؤكد ذلك الدكتور الصالح في كتابه (اليمين واليسار في الاسلام). لقد قاد ذاك الالتزام السياسي والفكري الى التضحية بعديد من فرص تحقيق المكاسب الشخصية فما اهمية شخص امام المجتمع. ولما بلغ ضغط السلطة مدى يقلق غادرنا الوطن. في بداية سنوات المنفى في العاصمة عدن بين ناسها الطيبين ورجالات حكومة جمهوريتها الديمقراطية الشعبية المتواضعين كشفت التجربة بفعل موقع العمل والاحتكاك باناس من بلدان مختلفة ومن ابناء عراقنا بأن حلمي لم يكن الا حكاية على الورق ، وانها هكذا دائما كتب كل الايدلوجيات تبني مجتمعاتها الخيالية كما حلمت وتحلم البشرية ، لكن حقيقة علاقات الدول ببعضها اذا لم تكن متكافئة فانها علاقات استعمارية مهما كانت اغلفة روابطها. لم تجعلني التجربة اتخلى عن قناعتي بان يوماً جميلاً سيطل على العالم ينتهي فيه الفقر وكل ما يتبعه من ظلم. كنت اقضي ساعات على ساحل البحر العربي ذلك الجزء المسمى ساحل أبين وبمرور الوقت اخذت امضي جزء كبير من هذه الساعات اتابع تلك المخلوقات الصغيرة وهي تتقدم نحو البحر عند انحسار الموجة لتحفر بيوتها التي سرعان ما تنهار حين تهاجمها موجة ثانية ، لكن هذه السرطانات البحرية لن تتراجع عن اصرارها في بناء تلك البيوت. لقد اوحت لي تلك الظاهرة بكتابة قصتي التي سأكتبها لكم ادناه.
كتبت القصة عام 1984 قبيل قطع علاقتي الحزبية. لم انشرها. في منطقة ركن الدين في دمشق محطة المنفى الثالثة وفي عام 1994 في مكتب مؤسسة دار المدى بعد ان تعرفت على الاستاذ المؤرخ والكاتب والباحث الكبير الانسان المتواضع المرحوم ميخائيل عيد بفترة، بخجل وتردد طلبت منه قراءتها وتوجيهي. حين ذهبت لاستمع الى نقده وانا مستعد للكف عن محاولات تطاولي على الادب قال لي ابو عياد " حرام ياعماد ان تبقى قصة مثل هذه حبيسة الدرج لعشرة سنوات، اذا تريد انشرها غدا في العدد القادم من "الاسبوع الادبي" جريدة اتحاد الكتاب والادباء العرب التي يشارك في تحريرها. اعتذرت لعدم رغبتي المحصورة بالنشر في المطبوعات العربية فقط. بعد ان اكملت دورة كتابة السيناريو اعدت صياغة القصة على شكل سيناريو من 119 صفحة. تصلح ان تكون فلم كارتون طويل او مسلسل كارتون من خمسة حلقات. واخذت ابحث عمن يوصلني لشركة تنتجها. ذات يوم اتصلت بالكاتب المبدع والمؤرخ النشط الاستاذ عامر بدر حسون ابو نوٌار وشهرزاد وكانت بيننا معرفة بسيطة وطلبت منه الاطلاع على السيناريو وزرته في شقته في مساكن برزة بدمشق واعطيته السيناريو و نص القصة وبكل روح التضامن والدعم الاخوي العراقي بعد ان استفسر عن علاقتي بسرطان البحر وانا ابن الحلة واعتقدت لربما ورد بذهنه ان النص ليس لي اوضحت له سكني عند ساحل البحر لسنوات. بعد فترة اخبرني الاستاذ عامر بانه اجرى اتصالاته وان شركة انتاج ممكن ان تتبنى الموضوع لكنهم يريدون ان اطوره الى 600 صفحة كي يصبح مربحا تجاريا، فاعتذرت بان الاطالة تفقد النص هدفه، وهكذا بقي معي دون نشر للان. حتى قررت ان من الكفاية نسيان القصة بين اوراقي مع امل ان يطلع عليه من له اهتمام بهذه المواضيع وخاصة المخرج والمؤلف الخبير الاستاذ فيصل الياسري ليعطي رأيه فيه.


شعر السرطان البحري بالملل والضجر من ايجاد تفسير للظاهرة، التي جلس طويلا ، لايام عديدة يبحث في اسبابها. يُقلب رؤياه، محاولا معرفة السبب الذي يجعل موجات البحر بين حين واخر ترتفع، تغزو الشاطيء، تحطم البيوت الصغيرة اللاتي تشكلها سرطانات البحر المقيمة عند ذلك الشاطيء ، قبل ان تتحطم الموجات الغازية ، وتتلاشى منسحبة الى داخل البحر.
لماذا يهجم البحر على البيوت كلما أنجزت السرطانات حفرها وظنت انها ستستقر فيها وترتاح؟ سؤال شغله كثيرا!
عندها قرر سرطان البحر ان يشد رحاله باحثا عن تفسير للظاهرة. قال في نفسه: سأبذل جهدي لمعرفة السبب حتى لو دُرت العالم. أمل نفسه ان يجد في طريقه شاطيء حيث لا مياه تعتدي على بيوت السرطانات الصغيرة. ودون ان يُخبر احدا من جيرانه بدأ رحلته.
تسلق كثيب الرمل امامه. رسم خطا طويلا على الرمل حتى وصل اسفلت الشارع. رغم ان اضواء السيارات الساطعة والمفاجئة له بين حين وآخر قد شلت حركته، الا انه كان محظوظا. رغم الوقت الطويل الذي قضى ، عبر الاسفلت، سائرا في طريق ترابي على الجانب الاخر للشارع ، والمؤدي الى غابة.
لم يكن على عجلة من اَمره.
أِنه ينظر في كل اتجاه. يبحث عمن يهديه الى حل. بعد مشوار من سير متعرج بين فسحات الطريق الملتوية، المحاطة باحراش منوعة، توقف ! اذ وجد أَمامه جدارا من نملات اصطفت بتناسق، منتظرة حركة منه لتدافع عن نفسها. توقف ، عرفَ انه وصل قرية النمل. لم يمر وقت طويل. تقدم قائد المجموعة وسأل عن سبب تواجد ابن البحر في أرضهم.
تحدث السرطان البحري شارحا أسباب رحلته ، والنمل منصت باهتمام. حين أكمل كلامه، رد قائد النمل: ان اساليب حياتنا تختلف عن اساليب حياتكم. نحن ان سقطنا في الماء غرقنا. لحياتنا طابع خاص من نظام دقيق. النمل يحب النظام. حياته اليومية الامنة. تواصل اجياله يقوم على التعاون، ووضوح المهام. عدم التذمر والتكاسل. نحن ياسيدي نقر بأن البقاء بحاجة الى ثمن. لذا يرانا الاخرون نعمل ونجد، نصبر، نتجلد كي نحافظ على استمرار حياتنا.
قاطعه السرطان البحري وقال بعد ان زفر متحسرا: اما نحن فنقضي ايامنا باللهو كل يركض في اتجاه يبحث عن صيده وبناء بيته ، لا نعرف حياة المجموعة التي تساند بعضها.
اطرق قائد النمل محاولا استيعاب تصور ما قاله السرطان . عبس ولم يعلق . وواصل كلامه: ان طبيعة حياتنا لا تدع مجالا للفرد كي يحيا لوحده، فترانا متكاتفين كوحدة واحدة. في العمل كتائب لكل منها واجب. داخل الجحر هناك متاهة من الانفاق والحجرات، قرية كاملة، مساكن للنمل. مخازن طعام. مواضع للمخازن. لكل فرد في مؤسستنا دور واضح. وللام الملكة القيادة العليا.
تابع قائد النمل حديثه بعد ان تلفت يمينا ويسارا ، ليتأكد من تواجد صف النمل بالحالة الجاهزية. واكمل القول: ان ما ذكرته في حكايتك ايها السرطان البحري معلومة جديدة لم اطلع في كتبنا عن كتاب يذكرها. وان اردت الرأي والنصيحة، اقترح ان ترجع الى البحر وتعرف سره.
لم ترق الفكرة للسرطان البحري بعد ان ضيّع اياما كثيرة يراقب البحر دون نتيجة، وبعد الجهد والتهديد بالموت من السيارات التي كادت تسحقه وهو يعبر الشارع. فتركهم ، وواصل سيره. لايام يسير على غير هدىً ، حتى التقى جندبا جلس يستريح عند مفرق دروب. صاح الجندب المسترخي حين رأه: هيه... يا ابن البحر ماذا تفعل في ارض الغابة؟!
توقف السرطان عن السير، وحدق صوب مصدر الصوت، فوقعت عيناه على الجندب متمددا بين الاحراش. تفحصه، وتقدم لقربه ليعرف من ناداه. وبعد تردد وامام السؤال المرسوم على وجه الجندب وهو يمضغ عشبة ، بكل جد قص عليه حكايته.
ضحك الجندب حين انهى السرطان البحري الحكاية وقال وهو يقفز: هذا غريب... لم اسمع به من قبل. واصل ضحكه: انا لست سوى جندب ضل الطريق. كنت طائرا مع سرب الجراد. مجاميع كبيرة من اخواتي واخوتي، نقطع المسافات بحثا عن الغذاء. اذا فرغ المكان من قوتِنا سافرنا الى اخر.
سكت الجندب ، وترقرقت دموع في عينيه. نظر بحزن نحو السرطان البحري الذي فغر فاه ليفهم ما جرى. اكمل الجندب حديثه بصوت مُحشرج: منذ ايام هاجمتنا تلك الطائرات الحمقاء واطلقت علينا دخانها المسموم الفتاك، فتساقط الكثير منا في الحال...يا للبشاعة ، (وهو يمسح دموعه).. تساقط الكثير... نعم الكثير... منا في لحظات. لا أعلم من عاش ؟... من مات؟.. فقد لبستْ الارض وشاحا من اجسادنا.
يتنهد الجندب. يكفكف دموعه، ويواصل : حالفني الحظ، ووجدت جسدي يتدحرج لاصل الى هذه الغابة. بقيت ثلاثة ايام لا استطيع المشي ولا الطيران، تغذيت خلالها على الاعشاب المحيطة بي، والان انا مستمتع ، شبعٌ. اتنقل على ارض الغابة حيث الاكل وفير هنا ولا نية ان اغادرها.
احقا لا تريد العودة الى اهلك؟... دهشا تساءل السرطان البحري . رد الجندب: اين هم اهلي؟ سأبقى متنقلا، ربما جمعتني الايام ببعضهم. فمن غير المعقول ان اكون الناجي الوحيد ، (وبصوت كله تضرع وجزع) اكمل : .. ارجو ان يكون الكثير منهم قد نجا، وان لم أَلقَهم.
نظر الجندب الى السرطان البحري نظرة ملؤها الحزن ، وقفز مبتعدا دون وداع.
لبث السرطان مكانه دون حراك في حيرة ينظر الى الجندب القافز، وحجمه يتضاءل حتى قفز ولم يحط على الارض، فصاح السرطان البحري : يا للدنيا... يا للدنيا... وسار.
كان يسير ببطء، قد اثقلته الافكار. الى اين يتجه؟ يفكر في وقائع رحلته. يعيد تصور ما جرى للان، ويعيد تركيب وتشكيل فروع لافكاره. واذ طنين يقترب من سمعه، ويختفي. . ثم يعود ثانية يلاحقه. رفع السرطان البحري مقصه ملوحا في الهواء، فأبتعد مصدر الطنين هنيهة ليعود محلقا امامه.
سمع السرطان البحري صوتا ناعما ينادي: مرحبا.. مرحبا.. ايها الغريب... من انت؟ ماذا تفعل في غابتنا؟ هل انت تائه؟ اسئلة متلاحقة تكررت ، فرفع السرطان رأسه لينظر صوب مصدر الصوت، فوجد امامه كائنا صغيرا يرف جناحيه محلقا. سأله بصوت ينم عن انزعاج: من انت؟.. ماذا تريد؟ فاجاب الكائن الصغير ببساطة: الم تعرفني؟... انا دعسوقة. وهذه الغابة حيث اعيش. فمن تكون انت؟ انها اول مرة اراك فيها وانا التي تدور كثيرا في اطراف الغابة.
تكوم السرطان البحري على نفسه. زفر طويلا وقال لها: انا سرطان بحري ، اعيش عند شاطيء البحر. جئت باحثا عن السبب الذي يجعل البحر يرسل امواجه لتهديم بيوتنا الصغيرة. وقص عليها حكاية رحلته، وما صادفه حتى التقاها. والدعسوقة تصغي كتلميذة مجتهدة في صف مدرسي. علقت: الموضوع غريب.
هي لا علم لها بما قاله عن البحر وعن مساكن السرطانات، فهي لم تر البحر في حياتها. لا اعرف شيئا عن الامر... ردت الدعسوقة ، وما الذي يأخذني للبحر.
اذن هكذا اضعتي وقتي بالحديث وانت لا تعرفين عن البحر شيئا، عاتبها السرطان، فتبسمت وطمأنته: لكني اعرف من يمكنه المساعدة. نط السرطان قدر مستطاعه في الهواء، واعلن عن شكره ، وطلب ان تسرع وتدله.
حين دلفا داخل النفق المحفور بين صخور متراكمة في المنطقة التي وصلا اليها بعد مسيرة نصف يوم، شعر السرطان بشيء من الخوف والتردد يعتريانه. اراد ان يعتذر لصاحبته وينسحب. بادر بالكلام، وسكت دون قول كلمة. جمع فتات شجاعته، وواصل الولوج في النفق الذي انتهى بحفرة كبيرة تملؤها اوراق شجر موظبة كلفائف فوق بعضها.
في ركم من الحفرة، وامام كومة اوراق كان حلزون هرم منكبا على الاوراق يتصفحها ، يكتب شيئا على بعضها ثم يلفها ويوضبها. حين لمحت الدعسوقة الحلزون الهرم التفتت الى السرطان الماشي خلفها وقالت له وهي تشير ناحية الحلزون: انظر هناك، انه حكيم الاحراش يجد في عمله. تقدمت من الحكيم وسلمت عليه بصوت عالٍ. رفع الحلزون الهرم نظره ببطء، وحين التقطت عيناه وجه الدعسوقة ، اشرق وجهه بابتسامة محيية، ورحب بالقادمة: ها قد جئت ثانية!.. ايتها الشاطرة. هل جئت لطلب كتاب جديد؟ ردت الدعسوقة نافية، وقد احمرت وجنتاها وهي تقول له: جئتك بضيف ياسيدي. ضيف يود الاستفسار عن امر حيّره.
تململ الحكيم مستغربا: ضيف... من؟ اين ضيفك ليتفضل. انه هنا.. انه هنا.. اسرعت الدعسوقة بالرد، ونادت على السرطان البحري المختبيء بين الاوراق خجلا.
تقدم السرطان البحري وسلم على حكيم الاحراش، بينما الاستغراب يرتسم على وجهيهما. بعد لحظات صمت مرت ثقيلة على السرطان ، رد الحكيم السلام ، وعلائم الدهشة قد ابرزت تجاعيد وجهه، وقال: سرطان بحري... سرطان بحري في الغابة. هل حدث تطور جديد؟ تُرى ما حل بالبحر؟! ... يبدو اني انشغلت كثيرا بنظرياتي وبعدتُ عما يجري في الكون... اهِ.. يا لهذه الاوراق المتزايدة، المليئة بالمعلومات، ظننتها تحوي كل علم. ركز نظره على السرطان البحري وهو صامت للحظات ، وواصل الكلام: يبدو اني تحدثت كثيرا!!! على الرحب والسعة... على الرحب والسعة. حدثني يا بني عما حدث من امور عندكم، عما دفعك لترك وطنك والقدوم الينا؟
غير ان الدعسوقة لم تترك للضيف البحري فرصة للحديث ، اذ اسرعت وبكل حيوية تشرح للحكيم الاسباب التي جعلت السرطان البحري يترك وطنه، وحكت له عن رحلة السرطان كما سمعتها منه حين التقيا. عندها استرخى الشيخ الهرم وردد داخله... لم يحدث شيئا للبحر...
صمت الضيفان ناظران اليه ، ينتظران جوابا، اما هو فتحرك نحو مجموعة اوراق موضبة ، وراح يطالع محتويات بعضها ويعيدها الى مواضعها. انتقل الحكيم الى مجموعة اخرى من الاوراق، اعاد التقليب والمطالعة، ثم انتقل الى اكوام اخرى وكرر الامر ، دون ان يلتفت اليهما، غير انه كان يردد متذمرا بصوت خافت "لم يمر عليَ مثل هذا السؤال" . حين شعر حكيم الاحراش انه انتهى من البحث ، وان لا امل لديه للعثور على جواب يقنعه وضيفيه، عاد الى ركنه، واخبرهما وكله اسف انه لم يجد جوابا، ولا ما يؤشر على جواب. اقترب من السرطان البحري، وضع يده فوق رأسه مواسيا وقال: يا بني هنا مملكة الاحراش، اترى كل هذه الاوراق، يفترض انها تضم كل معلومة عن سكان المملكة، كل ما يخطر ببالك عن الانواع ، والاجناس... طبيعة الحياة.. اسماء السلالات... اشجار العائلات، اهم احداث الفترة الماضية، وكثير ... الكثير المنوع من المعلومات، لكنها وللاسف لا تضم شيئا عن الممالك الاخرى ، الكائنات الاخرى، الا معلومات طفيفة. اكتشفت اليوم خلال البحث عن جواب لسؤالك ، بانها ليست كافية وان علينا الاتصال بالاخرين من سكنة هذا الكون. نتبادل معهم المعرفة ، خبرات الحياة، فقد نجد مما لديهم ما ينفع حياتنا ويجعلها اكثر امنا وسلاسة. قطع حكيم الاحراش استرساله بالكلام، والضيفان كما هما منذ البداية ينظران اليه بلا حراك.
بدا وكأن الغم قد مر بعرباته الثقيلة فوق ذهن السرطان البحري، الذي بات متشائما.
بعد دقائق الصمت الساكنة المؤلمة للجميع تحدث الحكيم مرة اخرى : اسمع يا ضيفنا العزيز، اعترف باني لم اقدم لك نفعا بمعلومة تساعدك، فانا مع كل ما تعلمناه مازلنا جاهلين. اسمح لي ان اقدم نصيحة علمتنيها سنون عمر طويل.
كمن افاق من اغماءة قال السرطان البجري مقاطعا، متوسلا : تفضل ياسيدي ... عسى ما في نصيحتك يرشدني ويهون عليَ.
تبسم الحكيم ليقول: يابني ان ماهية الشيء تكمن فيه، فمن اراد معرفة حقيقة شيء ما عليه ان يبحث عنها في الشيء نفسه، تكوينه، ظواهره، علاقاته مع محيطه... لذا ارى ان تعود الى البحر.
نعم.. نعم.. اجاب السرطان البحري ... نعم... صدقت ياسيدي.. فأنا خلال رحلتي الطويلة لم اُصادف من يعرف جوابا لسؤالي... شكرا ... شكرا لك ايها الحكيم.. استميحك عذرا ، اسمح لي بالانصراف.
ودعه ومشى نحو مدخل النفق، تاركا الدعسوقة حائرة صامتة مع الحلزون الهرم.
واصل السرطان البحري طريقه باتجاه العودة، استمر يمشي... ويمشي.. دون ان يلتفت الى جانبي الطريق، فما عاد يستمع لاصوات الكائنات اللاتي تمر بجانبه وتتساءل عن سبب وجود ابن البحر في هذا المكان، ولا لاصوات الكائنات التي تتبادل احاديث وهي تمر بجانبه، فلم يعد يهتم لتعليق من احد، واراد العودة باسرع وقت الى شاطئه. واصل المسير وهو متشنج عصبي المزاج، ولم يتوقف فقد اعتقد انه يسير في الطريق الصحيح خاصة وقد وصل الشارع الاسفلتي، ورأى خلفه موجات البحر تتجه نحو الشاطيء لتتلاشى بعد حين. شعر بثقل كبير يعيق خطاه اذ تضاعف غمه وانزعاجه. فقد اكتشف انه عاد الى موطنه خائبا. عبر شارع الاسفلت مسرعا مما اوصله سالما الى الشاطيء. حين اندفع بين كريات الرمل الغائصة بالماء احس ان المكان ليس موطنه، فلا النباتات كما يعرفها . البحر .. بحر .. غير ان المشاعر المتولدة عن لقاءه ليست كما تعوّد، حتى الرمال ، طريقة توزعها ، درجة حرارتها مختلفة.
تقدم خطوات فشاهد العديد من السرطانات البحرية تتراكض مبتعدة عن موج البحر القادم ليتكسر فوق بيوتها. بادله بعضها نظرة مستغربا وقوفه والموجة تقترب. لم يكلمه احد. لم يُشعِره احد انه غريب. جرته اقدامه دون هدف ليقف على صخرة تطل على مياه البحر مباشرة. اخذ يحدق في السطح الرحب اللامتناهي امامه. انقطع سكونه حين بللته رشقة ماء. نظر الى المياه التي اضطربت تحته فرأى مجموعة اسماك صغيرة تلهو. لوحت له، نادته: ايها السرطان البحري مالك حزينا؟! اقفز... تعال العب معنا. لم يُجب... بقي يحدق فيهن . تقدمت واحدة لاقرب مكان اليه، وسلمت ضاحكة. ودون ان تنتظر جوابا قالت له: اراك في حزن عميق، وكأن هم ثقيل يجثم على صدرك. ما بك يا صديقي؟ ..دع الحزن.. تعال شاركنا مرحنا.. قصيرة هي الحياة اذا أكل الهم جزءا منها.
شكرها السرطان البحري وعاد لصمته. لم تتركه، فقد الت على نفسها ان تخرجه من حالته الكئيبة وتعرف سر حزنه. واصلت الكلام حتى اخذ يلين، ويحاورها. حكى لها عن رحلته بتفاصيل كاملة. فظهرت على وجهها علامات الجدية التي اخذت تنمو وهي تستمع اليه كلما تحدث اكثر. حين فرغ من كلامه قالت له انها تظن ان الجواب موجود عند ابيها. حكيم هذا الجانب من البحر. هو يعرف الكثير من اسراره، واسرار الكون، واذا رغب فهي مستعدة لتصحبه لمقابلة الوالد وسؤاله.
ردد السرطان البحري عبارات الموافقة وهو في حالة هياج مفاجئة من رؤية نور في ظلمة فقدان الامل بمعرفة ما جاء يبحث عنه. قفز الى الماء وصاح: هيا بنا... هيا بنا.
تحركت السمكة امامه، بينما مشت زميلاتها خلفهما. اختفى الجميع تحت الماء الداكن. بعد رحلة ليست طويلة ، دخلوا مدينة الاسماك.
يآآآآآآه. عبر السرطان البحري عن دهشته. كم مفرح هذا الجمال، الالوان السابحة امامه في عالم متناسق. حشائش متراقصة لم يسبق ان شاهد العديد منها. ادار عينيه لتفحص جانبي الطريق. أبطأ سيره أحيانا. محدقا باشكال الجحور المحببة: أسرع حين عرف ان صديقته ابتعدت.
قال في نفسه: هاهو العالم الآمن، لا موج فيه يحطم البيوت ، ولا مسكن تُدمر.
ها قد وصلنا قالت السمكة، وهي تفتح بارزا في صخرة. واذ دخلوا لقوا التجويف مليئا باسماك مختلفة الاحجام، متعددة الالوان، متباينة الاشكال. سرت همهمة تساءل فيها السمك عن سبب وجود هذا السرطان البحري في الاعماق. ولماذا هو في بيت حكيم البحر بعيدا عن بيته على الشاطيء. أخذت السمكة الصغيرة ترد على التساؤل: انه قادم لزيارة أبيها. وتتقدم نحو الامام ساحبة السرطان البحري من ذراعه خلفها. بينما توقفت مرافقاتها عند بوابة التجويف. وصلا قاعة فسيحة، فوجدا السمكة الاب منشغل بعمق في حوار مع جماعة من السمك. لم يلتفت الحكيم الى ابنته حين نادته، في حين انشغل بعض المحاورين بالغريب وهم يتطلعون اليه والى بعضهم بعضا، فخفت الجدل. ادرك الحكيم ان شيئا يجري فألتفت ليرى. ظهرت علائم الدهشة والتساؤل على وجهه، اذ رأى الزائر الغريب.
اسرعت السمكة الصغيرة تقدم الضيف، وقرفصت بجانب والدها تقص عليه رحلة السرطان البحري وما دفعه للقيام بها، وما مر به من احداث حتى التقته. اشار الحكيم على ابنته بالتوقف عن الكلام، وتقدم نحو الضيف وسلم عليه، ثم اجلسه قبالته يتفحصه.
أطال السمكة الاب النظر الى الزائر، وابتسامة تزين شفتيه فيها علامة ترحيب مخلوطة باستغراب. أطرق الحكيم مفكرا، ثم عاد ينظر الى الضيف، واطرق ثانية. كرر تلك الحركة ثلاث مرات، وبعد الاخيرة رفع رأسه وغرق في الضحك، تاركا السرطان والاخرين يتساءلون.
قال حكيم البحر للسرطان : يا بني اتعبت نفسك كثيرا . كيف حدث هذا؟! قالها بقليل من الانفعال وبصوت مرتفع.. وأكمل ، تذهب بعيدا عن البحر لتعرف سرا من اسراره. كيف؟... انت تعرف الكثير من الاشياء... لا أظنك الا قد قرأت كتبا واطلعت على عديد من المعلومات ، لتفكر بهذا الامر.. صمت الحكيم للحظات ثم تابع بحدة زائدة : ألم تعلمك القراءة شيئا؟ صمت الحكيم ونظر الى ابنته وبقية الاسماك، ثم حدق في السرطان البحري وبصوت هاديء قال: يابني ان سر الشيء فيه.
اطرق السرطان البحري خجلا، وبصوت خافت اجاب: أدركت ذلك حين التقيت حكيم الاحراش.
ربت الحكيم على رأس السرطان وتكلم مرة اخرى وقال: يا بني... ان معرفة اسرار شيء ما ، كائنا متحركا أم جزءا جامدا من الطبيعة ... هذه المعرفة تمكننا من مواجهة الاخطار الناجمة عن ذلك الشيء. اذ تكيف نفسك للحياة معه ، تطويعه لخدمتك والافادة منه. وان اسرار الكائن توجد في طبيعة الكائن ذاته، متعلقة بما يحيطه، فكل الموجودات اللاتي تعرفها وتلك اللاتي لا تعرفها مترابطة بطريقة ما. هذا الكون الكبير، هذا العالم الذي نحن جزء منه، مترابطة مكوناته. انه اشبه بعالم الذرة الصغير، فكما للذرة كهارب تدور حول نواتها، فان كل مجموعة وجنس في العالم لها نواة تدور حولها ايضا. الكون كله يدور حول نواة خاصة به.
قاطعت السمكة الابنة وسألت اباها: ابي .. ابي هل يمكننا معرفة هذه النواة. عاد الاب للحديث: قد تصل بعض المخلوقات لمعرفة هذه النواة، وقد لا يمكن لاحد معرفتها. تختلف طبيعة نواة المجموعة الواحدة حسب سيرة تكوينها ، وحسب حركتها.
اوقف الحكيم حديثه اذ شعر بالعطش، فعب كمية من المياه مررها في جوفه ثم أخرجها من خياشيمه دفعة واحدة فتطايرت كنوافير جانبية في حين بقي الجمع صامتا ينتظر ان يواصل الحكيم حديثه، فقال: هكذا يا بني.. ان سر البحر فيه. ما الذي تريد ان تعرفه أشجار الغابة التي تشرب ماءا عذبا عن بحر مالح ماءه؟ وما تعرف فراشة تقتات على رحيق الازهار عن موج البحر؟ نظر الحكيم السرطان بزاوية عينه وهو يواصل... ارجو ان تكون فهمت المقصود. هز السرطان البحري جسده معبرا عن الموافقة.
واصل السمكة الاب شروحه: سأوضح لك الان سر ما يحدث مسببا للبحر ذاك الموج الذي يحطم مساكنكم. يا بني ان ما يحدث يسمى ظاهرة المد والجزر. انها نتاج علاقة ترابط بين البحر والشمس والقمر، فهناك عنصر اتصال بين الثلاثة، و بين كل اثنين منها يُسمونه الجاذبية. والمد والجزر اهتزازات دورية تطرأ على سطح البحر محدثة ارتفاعا وانخفاضا لمياهه. هذا فعل الجاذبية، فعندما تكون الشمس او القمر فوق البحر ، فان الاخير تتقلص اطرافه فترتفع مياهه ، وهذا مدُ. مع دوران الارض يتغير موقع البحر من الشمس والقمر فيقل تأثير جاذبيتهما بالنسبة اليه فتهبط مياهه الى المستوى الطبيعي ، وذاك جزرُ. وحين تجتمع جاذبية الشمس وجاذبية القمر معا على البحر في آن واحد ، يهيج البحر وتصل حركة المد والجزر الى اقصاها.
اه... ييييييييييياه، صاح السرطان البحري واخذ يضرب مقصيه ببعضهما... يا له من ايضاح مفصل يا سيدي... واضح... بات كل شيء واضح... اهِ، لكم قضيت من ايام في البحث... هذا اذن سر البحر، وهو موجود فيه! وانا الغبي رحلت اجوب الافاق بعيدا ابحث عنه. قاطعته السمكة الصغيرة: لا بأس... لا بأس.. المهم انك عرفت الاسباب ، هناك مخلوقات تُضيع عمرها دون ان تعرف سر ما يحيط بها.
التفت السرطان البحري نحو السمكة الوالد وسأله ان كان هناك حل لهذه المشكلة. فأجاب الاب .. بأنها طبيعة الاشياء منذ الازل، تحرك ضمن ما مرسوم لها ، وبحجم حرية الحركة المعطاة لها، وستبقى حتى يأمر الخالق سبحانه أمرا. واضاف: نعم تستطيع بعض المخلوقات ان تغير شيئا ، ان تُحدث نقلة في طبيعة الواقع، الا ان هذا التغيير جزئي لا يمس الا هوامش الكون الفسيح ومحتوياته خلال فترة الزمن المنظور، أما الثوابت كحال البحر ، وما يمارسه من مد وجزر فلا طاقة لمخلوق به.
رد السرطان البحري: اذن فالامر لا يتعلق بنا ، نحن سرطانات البحر، ولربما كان اختيارنا لهذا النمط من الحياة جزءا من الثوابت الكونية. قد أكون الوحيد ، من تذمر مما يحدث. ولربما تجد غيري من السرطانات متعة بالكر والفر، وتكرار العمل ذاته. فتعالت اصوات موافقة على قولها وكررت كلمة ربما.
ألتفت السرطان البحري نحو صديقته السمكة الصغيرة. مسك زعنفتها معبرا عن شكره لمساعدتها ، ثم توجه نحو الاب وطلب الاذن بالعودة الى شاطيء البحر. ودعوه ، وخرج بصحبة صديقته في رحلة العودة.
عند الشاطيء حيث وصل شاهد مجاميع من سرطانات البحر الصغيرة تجري لتهرب من الموجة المندفعة أمامه، فتأكد ان كل شواطيء البحر تعاني الظاهرة المشكلة ذاتها. ألتفت الى صديقته السمكة وقال: ان أمامه رحلة العودة الى الوطن. فضحكت وقالت له: يا صديقي ان البحر واحد، وهؤلاء اهلك اذاً فعش معهم.
اعترض السرطان البحري على القول، واهتز جسده بالكامل ، لكن قبل ان يطرح رأيه كانت موجة آخذة بالاقتراب منه، فهرب أمامها مع الهاربين.

 

1984
 



 


 

free web counter