| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حميد الخاقاني

 

 

 

الأثنين 7/2/ 2011

 

أجيال الغضب الفتي

الروح التي تضيئ وتكشف الظلمـة

حميد الخاقاني

العالم كله، شرقه وغربه، شماله وجنوبه، يتابع بدهشة وإعجاب، وبقلق كذلك، ما حدث، ويحدث في تونس، في مصر، في اليمن، في الجزائر، ويترقب ما سيحدث في بلدان مشرق هـذه الأرض العربية ومغربها، فيما بعدُ، حتى وإن تأخر هـذا، في بعضها، سنين أخرى. قد تبدو ظروف هـذه البلدان مختلفة، في الظاهر، عن بعضها البعض، وكذلك دوافع حركة الاحتجاجات فيها. هـذا الاختلاف الظاهري أخـذ، منذ يقظة التونسيين على أحوالهم، العديد من الحكام العرب وأتباعهم إلى التشبث بوهم أن الأحوال عندهم غير تلك التي في تونس، وأنهم مطمئنون لشعوبهم ولصواب سياساتهم وأساليب حكمهم لبلدانهم!. ما يحدث الآن في أكثر من بلد عربي يشير إلى خطل هذا الاعتقاد، ويؤكد أن غالبية أولي الأمر في هذه "الأمة" صناعُ أوهام بامتياز، يوهمون شعوبهم بما يقولون ويعِدون، ويكذبون عليها، حتى صاروا، بمرور الأزمان وهم يرتعون في جنان السلطة، يصدقون الأوهام والأكاذيب التي يشيعونها، دونما وعي بها، حاسبين، ضلالاً، أن أيام سلطتهم هي الدهر كله.
وإذا الناس في هـذه "الأمة" إزاء حكام يعانون من مرض نفسي وعقلي مُركّب يجمع، إلى الاغتراب عن الحياة الحقيقية، عُصابَ السلطة. مكان مثل هؤلاء المرضى، في المجتمعات المُعافاة عقول أهلها، مصحات الأمراض النفسية والعصبية، وليس عرش السلطان!.
اختلاف الأحوال في بلداننا، ظاهريا، لا يغطي على حقيقة أن صورة النظام الحاكم في منطقتنا لم تتغير، جوهريا، عما كانت عليه في الماضي البعيد والقريب معاً. التبدلات التي طرأت عليها شكلية لا غير. نوع من مساحيق تحاول إيهامَنا بأن الوجوه الهرمةَ والأفكار الهرمة ما تزال صالحة لعصرنا، مع أن الملامحَ الأساسية لصورة هذا النظام، على اختلاف أزيائه، عتيقة، تحددها عقلية بطرياركية، أبويةـ ذكورية، تقليدية، كانت، وما تزال تتغذى على مجموعة من العصبيات القبلية والقومية والدينية، المغلقة والمعادية للتجديد. عقلية مشدودة بحبال متينة للماضي، لا تعرف قراءة الحاضر والمستقبل بشكل صحيح. تنظر إلى فوق ولا ترى ما هو تحت. لا ترى حقائق الأرض وناسها. وقد بلغت سطوتها حدَّ أن الكثير ممن سعوا، وما يزالون، للتمرد عليها وتجاوزها، من قوى وتيارات وشخصيات سياسية واجتماعية وثقافية معاصرة، لم يسلموا من تأثيراتها إلا نادرا، بحيث أصبحت وكأنها سمة في بنية ما يُطلَق عليه "الفكر العربي!".
وفي الوقت الذي ضعُفت فيه هذه العقلية في أغلب الثقافات والمجتمعات الأخرى إلى حدود بعيدة، ولم يعد لها، منذ عهد طويل، أثر يُـذكر في إعاقة انطلاق تلك المجتمعات في بناء حياة متطورة، على الدوام، فإنها ظلت، عندنا، تعيد انتاج "الآباء" و"الطواطم" إلى يومنا هـذا، مرة تحت رايات القومية والوطنية، وأخرى تحت رايات الدين، وتأتي لنا معها بنظم الاستبداد والاستلاب والفقر والجهل والتهميش، بواجهات ديمقراطية شكلية أو بدونها.
الفتى التونسي الذي أوقد شرارة ما أخذ، حتى الإعلام الغربي، يُطلق عليه اسم "الثورة"، لم يكن سوى أحد ضحايا هذا الاستلاب والفقر والتهميش. كان ممن أطلق عليهم فرانز فانون(1925ـ1961)، وهو ينخرط، حينها، مقاتلا أمميا في صفوف الثوار الجزائريين نهايةَ خمسينات القرن الماضي، قادما من جزر المارتينيك البعيدة، تسمية معذبي الأرض وأشقيائها. أكمل الفتى بوعزيزي تعليمه يحدوه أمل في أن يجد عملا يخفف، من خلاله، بعض أعباء الفقرعن عائلته. ربما لم يكن يحسب أن هذه الأرض ليست أرضه، وأن الوطن لم يعد وطنه. في الماضي كانت الأوطان ملكَ الكولونياليين الغرباء، وهي اليوم مزارع لكولنياليين "وطنيين!". الأرض والوطن والدولة، اليومَ، ملكُ الحاكم وبطانته وحزبه ومن والاه وتواطأ معه، وليس للناس، بعدهم، سوى سقط المتاع!.
هل أدرك الفتى هذه الحقيقة المرعبة، وهو يرى شرطة الحاكم تصادر عربة الخضار التي كان يُقيت بواسطتها جوع أهله، بعد أن أنهكه البحث عن عمل في ميدان تأهيله، دون جدوى، وأذلَّه دفعُ (الرشوات) لحراس القانون كي يدعوه وفقرَه في حالهما؟!
في لحظة الوعي العصيبة تلك لم يفكر بوعزيزي، كما يبدو، في شدّ الرحال إلى الغرب، فردوس أشقياء الأرض الموعود، مثلما يفعل الكثيرمن فتية بلاده وبلدان سواها كثيرة، بل آثرأن يستعيد أرضه ووطنه من اللصوص، ويهزم حكامها بطريقة لم تكن في حسبان أحد : أن يحرق روحه قربانا لآلهة الفقر، علّ البلاد تعود لأهلها.
وما أن بدأت روحه تضيئ حتى عمّ اللهب بلاده وبلدانا غيرها، واستيقظ الناس من سباتهم الطويل، ولاذ لصوص بالفرار، وأخذ آخرون يجاهدون في البحث عن مخرج، بعد أن أصبحت الدنيا أضيق عليهم مما كانوا يعتقدون.

لقد فاجأنا الفتى التونسي جميعا : حكاما ومعارضين. نحن تقليديون أنتجتنا ثقافة تقليدية، أما هو فقد خرج على التقليد. فقره الوحشي ذهب به هـذا المذهب، فكان مفاجأة لنا ولسوانا. حتى الغرب، أمريكا وأوربا وغيرهما، الذي ظل يراهن على هؤلاء "الطواطم" اللصوص،فوجئ هو الآخر، ولم تسعفه مخابراته وبصاصوه المنتشرون في بقاع هذه الأرض العربية وزواياها على توقع الزلزال الذي أطلقته من عقاله
روح فتى مجهول تحترق لتكشف لنا مدى الظلمة والظلم اللذين نقبع فيهما منذ عهود طويلة.

مفاجأة الغرب مردّها عمى المصالح. بالأمس كانت الخشية من الشيوعيين واليساردافعه لاحتضان طغاة عتاة، والمشاركة في جرائمهم. ودافعه اليومَ الخوفُ من المتطرفين الاسلامويين وارهابهم. مفاجأة الحكام "الآباء العاقين" تُعزى، بدورها، إلى العمى الذي يصيب أهل السلطة من كثرة إبصارهم إليها، وشغفهم بها، حتى أنهم يعجزون عن رؤية عماهم هـذا. أما أحزاب المعارضة، دينية كانت أو غير دينية، فعماها عماءٌ آخر، هو، في الغالب، عمى السكَن في الأيديولوجيا وشعاراتها. وهو عمى يُغرّب أصحابه عن الحياة الواقعية، اليومية للناس، ويحول دون طرحهم لسؤال أساسي على أنفسهم، ينبغي العودة إليه باستمرار، مفاده : هل نحن أحزاب برامج عملية، تصدُر عن الحياة، وتسعى لتقديم أجوبة عن أسئلة الناس وحاجاتهم في زمانهم هـذا، وفي بلدانهم هـذه، وفي ثقافتهم هـذه، أم أحزاب عقائد وأيديولوجيات ترى إلى الحرية والعدالة والديمقراطية من زوايا عقائدها الضيقة، وتنظر للناس من خارجهم، وتقرأ الحياة وظواهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية انطلاقا من أحكام العقائد والأيديولوجيات المسبقة، ووعودها الطوباوية بالسعادة الأبدية؟

أجيال الشباب التي خرجت غاضبة لتؤسس، سواء في تونس أو مصر، سلطة "الأبناء المتنورين" في الشارع في مواجهة سلطة "الآباءـ الأوصياء المتحجرين" في القصور، وتقيمَ ديمقراطية القاع ، ديمقراطية المهمَّشين إزاء "ديمقراطية الطواطم" الخادعة، هـذه الأجيال مغتربة عن السلطة وساستها الفاسدين، المفسدين، وعن المعارضة وأحزابها، خاصة في مصر. فهل نحن إزاء قوة مؤثرة ثالثة تظهر لتشير إلى غفلتنا؟
لا جدل، كما أرى، أن جيلا جديدا يبرز في السياسة، هو، بهذا القدرأو ذاك، ابن عصره، عصر العولمة.
يتواصل أفراده فيما بينهم، ومع أقرانهم في العالم، عبرالأنترنت ومواقع "الفيس بوك" و"تويتر" و"اليوتيوب" وغيرها، ويؤسسون لهم، من خلالها، أماكن يتنشقون فيها هواء آخر غير هواء العقل التقليدي الخانق، ويكشفون، عبرها، عريَ السلطة وتهافتَ هـذا العقل على السواء، وقد أجادوا توظيفها في ثورتهم هذه، وفي التمهيد لها، وضمان مواصلتها أيضاً. جيل متحضر، ينظم ثورة سلمية متحضرة، ويسخّر لها وسائل وأدوات حضارية، بينما لم يجد برابرة السلطة غير السوَقَة و"البلطجية"، يطلقون العنان لهم ولـ"بعرانهم" كي يسحقوا المتظاهرين ويكسروا شوكتهم. يُمكن، بالطبع، للحكام أن يسحقوا حركات الاحتجاج والمعارضين بأسلحة "الحضارة الحديثة": دبابات، مدرعات، بنادق رشاشة، مسدسات بكواتم صوت أو بدونها، إلا أن هذا كله لا يُغير من طبيعة البربري فيهم. ولكن مشهد اقتحام خيول رعاع السلطة وبعرانهم لميدان التحرير يتميز بدلالته الرمزية العميقة : التحضر عقلاً وأدوات في مواجهة بربرية الماضي عقلاً وأدوات.

أجيال الغضب هذه، في تونس ومصر، متعلمة. بعضها على حظ كبير من التعليم، تختزن طاقات كبيرة على العطاء والتطور، وتمتلك، مثلما أثبتت الأحداث، قدرات تنظيمية وتعبوية مدهشة، لكنها تحيا بين جدران منظومة ثقافية واجتماعية متخلفة، لا صلة لها بالعصرالذي يعيشه شباب هـذه الأجيال ويعرفونه. فقد فرضت عليهم هذه المنظومة حصارا فكرياـ ثقافيا بدعاوى الحفاظ على "الهوية"، وكأن "الهويات" سجون. كما عملت على تهميشهم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، حتى لم تعد لهم أدوار، أو كلمة، لا في تشكيل صورة حياتهم هم، ولا في بناء بلدانهم ومستقبلها. "الطواطم" هي من تسأل وتجيب عنهم. وهي من تقرر لهم حاجاتهم، ومشاغلهم وعالمَهم الذي يحيون فيه.
هذا التجاهل، وهذا التشدد الجاهل، المتخلف، المزهوّ بنفسه، وهذه الوصاية على الناس، وامتلاك الحاكم للعصمة في يده وهو يعقد زواجه على الحكم والسلطة، هذه الظواهر التي تسم مجتمعاتنا ونظمها الفكرية والسياسية هي التي خلّفت شقوقاً عميقة في أرواح هؤلاء الشباب، وراكمت الخراب الذي يحيق بنا وبهم. ولما طفح الكيل، ولم يعودوا قادرين على الصمت، لم يجدوا مناصاً غير الثورة عليها.
وبمعزل عن خطابها الذي تزعم فيه تفهمَها للشباب، وعدالة مطاليبهم، فإن من غيرالمتوقع، للأحزاب التقليدية حاكمةً كانت أو مشاركة في الحكم، أو معارضةً أن تفهم هذا الجيل ورغباته، وتطلعاته، على نحو صحيح، ما دامت أسيرة منظومتها الفكرية تلك، وطالما ظلت تُسقِط على الحياة أيديولوجيتها، وتسعى لإكراه الحياة والناس على التطابق معها، والرقص على إيقاعاتها التي ليست سوى صدى ميت لقرون غابرة، وإن بدا هذا الصدى عالياً، في وقت ما، وطال عهدُه.

لقد أفلتت النواة الواعية لهؤلاء الشباب من أسر الوصاية، ومحاولات دمجها بالحشود السكرى بالأوهام، وجعلها ديكورا في حفلات الأيديولوجيا الصاخبة. هذه النواة الواعية تدرك أن بعض ضحايا الحكام من قوى الاسلام السياسي، خاصة في تونس ومصر والجزائر، توائم لجلاديهم، يُعيدون سيرتهم، ويتبادلون الأدوار معهم، رغم اختلاف الخطاب واختلاف الأجوبة. فهم وجلادوهم، جلادونا في الوقت نفسه، نتاج تلك المنظومة الفكرية وحراسها كذلك. وفي هذا يكمن العامل الأساس، كما أرى، في عدم استطاعة منطقتنا هذه الافلاتَ من شباك دورات الانحطاط والتخلف والاستبداد، بوجوهه وهوياته المختلفة، إلى يومنا هذا.

ولعل في رؤية فقيهَين كبيرَين، من فقهاء هذه الثقافة، لثورة الفتية الغاضبين، ما يشير، حقا، إلى تهافت العقل الذي ابتلتنا به هذه المنظومة الفكرية وعبثيته. الفقيهان هما "مرشد" الجمهورية الاسلامية الايرانية،
ومفتي "الديار" السعودية. الأول يرى في حركات الاحتجاج الشبابية "يقظة اسلامية!" نشأت بتأثير من الثورة الاسلامية في بلاده!. "المرشد" أغفل، على سبيل المثال، مُتعمدا كما أظن، التشابهَ الجوهري، في الدوافع والوسائل والروح والمُجايلة، بين ثورة هؤلاء الفتية وثورة شباب إيران، قبل أكثر من عام، عندما ثاروا احتجاجا على ما رأوه تزويراً لانتخابات ظنوا أنهم قادرين، عبرها وباسلوب ديمقراطي، على إزاحة رئيس وإدارة لا يرونها جديرة بحكمهم والتحكم فيهم. ما نزال نحن و"المرشد" ، والعالم معنا، نتذكر مشاهد الشباب الايراني تسحقهم جحافل الحراس ودراجاتهم البخارية، متهمةً إياهم بـ"محاربة الله ورسوله!".
أما الفقيه الثاني فقد دسَّ يدَه في "خُرْج" هذه الثقافة ليأتيَ لنا بحكم قاطع، لا يُردُّ، يقول فيه أن هذه الثورة ليست سوى مؤامرة أجنبية، لولا الغرباء لما كانت!. الفقيه الذي يرى أنه، وأولي الأمر معه، رعاة والناس رعية وقطعان، لا يمكنه أن يرى إلى الناس إلا بوصفهم دُمىً، إذا لم يُحركها هو حركها الأجنبي!. أما أن يكون الناس ذوات حرة تصدح بكلمة الحق في حضرة سلطان جائر، فهو من الكبائر، كما يبدو، لا يرتكبها فتياننا دون إشارة من "غرباء"!.
"المفتي" و"المرشد"، رغم اختلافهما الظاهري في رؤية ثورة الشباب، متشابهان في تجسيدهما لطبيعة العقل التقليدي وأزمته البنيوية، وتقديمهما دليلاً آخر على لا جدواه. صحيح أنهما، وهما أهل دين واحد، لا يُطيقان بعضهما البعضَ، وإذا لم يُكفّر أحدهما الآخرفإنه يرى فيه، على أقل تقدير، مسلماً غير مٌستوف لشروط الإيمان. ولعل كلاً منهما يبتهل إلى خالقه أن يَمُنّ عليه، يومَ الحساب، في أن يرى غريمَه في الدرك الأسفل من النار، كفانا الله وإياهم، وبني البشر أجمعين، مثل هذا المصير. أقول أن الفقهين، رغم هذا كله، متشابهان في عجزهما عن رؤية ظاهرة الثورة هذه رؤية صحيحة متكاملة. كلاهما يرى الأمر مثلما يرغب هو أن يراه، وتلك إحدى طبائع هذه الثقافة. لم ينشغل الإثنان في تأمل الظاهرة من وجوهها المختلفة، واستقراء أسبابها، جذورها، أبعادها، سياقاتها التاريخية وآثارها، وتلك من شروط الاجتهاد الصحيح والاستنتاج الصحيح، أو القريب للصحيح. مثل هذا التأمل والانشغال بأسئلته يتجنبه هذا العقل، فهو متعب له، لأنه يشترط فلسفة أخرى للحياة ونظرة مختلفة لها. التأمل الواعي للحياة وظواهرها، المتحرر من الأحكام المسبقة، يشير إلى يقظة حقيقية، هذه المرة، ويعبّر عن وعي مختلف، يؤسس لوعي أعمق. وكلاهما، اليقظة الحقيقية والوعي المختلف، لا يتناسبان وروح الاطمئنان للأحكام الجاهزة لهذا العقل واستطابته لها. ولهذا لم يكن ممكنا للصورة التي قدماها لنا عن الشباب وثورتهم غير ما رغبا لها أن تكون. هذا سارع إلى حكم جاهز، وشماعة حاضرة دائما، لها جذورها العميقة في العقل العربي ـ الاسلامي، هي نظرية المؤامرة. وذاك نسب ثورة شباب تونس ومصر له، ولثورته، التي أزاحت استبدادا شاهنشاهياً لتحل محله استبدادا آخر، أكثر شمولية ربما، حتى صار تلامذة (الامام الخميني) ، وغير قليل من رفاق دربه، ضحاياه!.
الفتية الغاضبون ،في تونس ومصر وسواهما، يعرفون هذا، ويدركون أن قوى الاسلام السياسي جميعها، بمعزل عن طوائفها وصراعاتها على الدين نفسه، تنطلق من شعارات أن "الاسلام هو الحل" أو "الشريعة هي الحل"، وهم يعرفون أن في هذا اتكاء على الدين من أجل الدنيا، مثلما كان الحال في الأديان جميعها، وأنها لم تعد مقنعة للواعين بينهم، ولن تأتيهم بالحرية، وبما خرجوا لانتزاعة من براثن الحكام. ثم أنهم يرون أحوال الحريات والحقوق والعدالة والديمقراطية في النماذج القائمة حولهم للسلطات الحاكمة باسم "الدين" و"الشريعة" في إيران والسعودية، وما كان في السودان وينوي البشير الرجوع إليه، وفي غزة حماس. كلها تجارب تُبطل سحر الساحر!.

صحيح أن امتداد قوى الاسلام السياسي في مصر وتونس، وفي الأردن والجزائر ربما، سوف يقفزممثلوه، شأن أحزاب المعارضة الأخرى، إلى قطار الثورة التي فوجئت بها، وتقطف ثمارها. وقد تحول أيضا، لفترة تقصُر أو تطول، دون صنع بداية جديدة لتطور ديمقراطي جذري، ذي روح وتوجه انسانيين، يرى لأهل البلاد بوصفهم مواطنين أحرار في عقائدهم وأفكارهم، وفلسفاتهم وخياراتهم السياسية، وأساليب حياتهم، متساوين أمام القانون في كل شيئ، لا وصاية لأحد عليهم، ويرى لسكان المعمورة بوصفهم بشرا، يتم التعامل والتفاعل معهم في ضوء المصالح المتبادلة، طبقا لمعايير العدالة، وبروح المسؤولية المشتركة عن بيتنا الأرضِ، وحياة سكانه ومستقبلهم، وليس عبر "فزاعات" الغزو الفكري، وصراع الثقافات وتهديد الهوية. أقول قد يعطّل هؤلاء وغيرهم من أهل ثقافة الاتباع والتقليد مثل هذه الانطلاقة التي انتفضت لأجلها أجيال الغضب الفتي، لكنني أرى أن الزمن الذي بدأ مع هذه الثورة لن يكون هو الزمن الأجرب الذي كان قبلها.

أفكر، وأنا أكتب هذه السطور، بمن عرفت ومن لم أعرف من أدباء مصر وفنانيه ومثقفيها، أفكر بابراهيم أصلان وأحمد عبد المعطي حجازي، أفكر بجمال الغيطاني وأحمد الشهاوي، أفكر بمريد البرغوثي، الفلسطيني النازل بأرض الكنانة منذ شبابه، أفكر برفيقة دربه رضوى عاشور، وبفتاهما الشاعر هو الآخر، الذي عزّ على النظام القومي العربي أن يمنحه الجنسية المصرية، رغم مصرية أمه!. أفكر بهؤلاء الأحبة ممن عرفت، وبالآخرين ممن لم أعرف، عارفا أنهم لفتوة العقل والروح واللغة فيهم، قد وجدوا أماكنهم بين أجيال الغضب، في ميدان التحرير، حتى وإن لم يكونوا هناك، فالكتابة والإبداع حرية، ولا يمكن لأهلهما إلا أن يكونوا في الأماكن التي تصدح فيها أصواتها.




 

 

free web counter