| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حميد الخاقاني

 

 

 

الأربعاء 12/1/ 2011

     

في أربعينية الفنان الراحل منـذر حلمي

حمـيد الخاقاني

أُلقيت هـذه الكلمة في ختام ملتقئ تأبيني أقامه أصدقاء الراحل في أربعينيته في برلين في الثامن من هـذا الشهر، تحدث فيه الفنانان علي فوزي وعلي رفيق، صديقاه ورفيقا دربه في البداية. تناول الأول مسيرته الفنية الطويلة ودوره في الحركة المسرحية. وعرض الثاني لمحطات هامة في هـذه المسيرة بتوثيق سينمائي، من خلال شريط فلمي مؤثر، بدأ العمل فيه قبل أن يغادرنا الراحل، وتعهد بإكماله وفاء لذكراه ولحركة المسرح العراقي.

كما استمع الحضور الكثيف إلى مقطوعات موسيقية أبدعها الفنان طه حسين رهك لتكون وقفة أخرى عند منذر حلمي ومعه، وقفة فن يظل من أرقى الفنون التي أبدعها العقل والروح الانسانيين.

وتُليت في الملتقى التأبيني، وبحضور زوجة الراحل (أم سلام) رسائل وبرقيات استذكار له ولتاريخه، بعثها فنانون مسرحيون كثيرون من داخل العراق وخارجه.
 

كوكبٌ آخـر يهوي . . . فتتسـع العـتمة

يكسرني ويهـدّني رحيل الأحبة من رفقة درب وأهل وأصدقاء، ويصعبُ عليَّ أن أعتاد رحيلَـهم، فالأحبة يرحلون، دائما، قبل الأوان، حتى لو بدا، في معايير العمر وعلل الجسد، أن رحيلهم قد حان أوانه.

هل يمكن للروح، وقد ذبُلت أوراقها وصاح عويلُها، وعقدتْ غصص الفقدان أنفاسَها، هل يُمكن لها أن تنصبَ إيقاعها مثل ساعة بليدة، باردة، على مثل هـذا الرحيل الـذي قد حان أوانه؟

أنا روحي لا تعرف أواناً لرحيل أحبتها. وإذا ما رحلوا يتوقف زمانها عند أزمنتي معهم، فهم يصاحبونها، بعد الرحيل، دوما، ويصاحبونني معها حيثما مضينا، ويحلون معنا حيث حللنا. وها أنا وأنتم نعود اليومَ إلى أبي سلام، نجتمع عنده، ونخاله معنا، متخـذا له مكانا في صفوفنا، مثلما كان الحال بالأمس، وقبل الأمس، وقبل سنين وسنين.

لم يكن يعنّ لي يوماً أننا سنلتقي دونه لنتحدث عنه وهو في الغياب. نستحضره إلينا ونتأمله ملامحَ وأصواتا، حركات وإشارات، على المسرح وخارجه، نستذكر مواقف ربما اختلفنا فيها معه، أوتطابقنا بشأنها وإياه، ونستغرق في استعادة أيامنا معه، وأيامه معنا.

أهو غائب عنا، حقا، وبعيد؟

آه كم يشَـقّ عليّ وعلينا أن نلوّحَ بالوداع له وقد اعتدنا صحبته عقودا طويلة. كنا نراه فيها بيننا، ومعنا، حتى لو كانت الأمكنة تأخـذنا بعيدا عن بعضنا، في هـذا الحين أو ذاك. وقد عرفنا معه أن لحياتنا، ولما اخترناه فيها، أحوالَُها التي لا تستقر على حال، ولا تعرف هدأةً غير هدأة الروح لخياراتها، ولعله كان الأكثرَ، ممن عرفت، استئناسا بمثل هـذه الهدأة واطمئنانا لها، أعني هدأة الروح لخياراتها.

منـذر حلمي من بين الأحبة الأثيرين لدى روحي، فهو رفيق درب وصديق وأهل بمعنىً ما، خاصة وقد تزامنت لي، أيام عرفته، أو قبلها بقليل ربما، صلةٌ ببعض أهله : أبي زياد وأم زياد. وهي صلة فيها غير القليل من صلة الأهل بالأهل. ثم حدث أنْ جمعتنا، هو وأنا، جيرة ومعرفة تمتد طويلا، في ظروف وأحوال عمقت، بمرور الأزمان، من آصرة القرب بيننا، وأرتني معدن أبي سلام الحقيقي: روحا رائعة، أبيةً، آسرة لا تنكسر، ولا تغادرها سماتها هـذه حتى في أحوال الضيق والجور، وهي كثيرة، وكأن هـذه الروح تقول لنا بأنها لا يمكن أن تكون مثلما يريد لها الآخرون، من أهل السلطان خاصة، أن تكون.
وهي روح تزخر بالحب لمن تحب، وتفيض ثباتا في الحفاظ على من تحب وما تحب، ولا تبخل بالتضحية لمن تحب ولما تحب : أشخاصا وفنونا، أفكارا ومشاريع، أحلاما قريبةَ المنال أو عصيّتَه.

ولقد جعلت هـذه الروح منه انسانا يقتفي في فنه وحياته آثار من يحب وما يحب، ويرسم، في الوقت نفسه، لخطوه هو آثارا عميقة في مسالك المحبة تلك، يقتفيها كثيرون بعده، فيصبحَ هو نفسه أثرا يُقتَفى.

لمنـذر حلمي، مثلما عرفته، غيرَ بيت العائلة وقد اضطُرَ لفراقه طويلا، بيتان : بيت روحي وفني هو المسرح ظلا يسكننان بعضهما البعضَ منذ أواسط خمسينات القرن الماضي وحتى رحيله. ولم يُغير من علاقة السكنى المتبادلة هذه، أن ظروف المنافي لم تُسعفه على تجسيدها، دائما، من على خشبة المسرح، مكانه السحري.
عشقه العميق لهـذا البيت أخذه، في ظروف الضغوط والملاحقة، إلى أن يذهب برفقة صاحبه علي فوزي، قبل مغادرتهما العراق مطلع 1979 ، ليلقي، كما كتب مرة، نظرة وداع على بناية مسرح وطني لم يُفتتح بعدُ.، وليدرك، بمرارة، فيما بعد، أنه لن يراه أبدا. وفي مشوار وداعه ذاك لما يحب ظلت تستغرقه لحظات صمت موجعة وهو يلقي نظرة أخيرة على غرف وصالات فرقته، فرقة (مسرح اليوم)، أو عندما عرج، في المشوار نفسه، على مسرح بغداد ليرى تمارين كانت تقوم بها فرقة (المسرح الشعبي)، على مسرحية (رقصة الأقنعة) لشاعرنا (شاكر السماوي)، وباشراف المخرج وأستاذ المسرح الراحل (جعفر السعدي). كان غيرُ القليل من فناني الفرقة والفرق الأخرى قد شرعوا، آنذاك، بالاختفاء أو مغادرة البلاد. وقد أخذه أستاذه السعدي، جانبا، ليهمس له مُشيراً إلى طاغية الأمس : "إنه يحرق العراقَ، والمؤلم يا منذر أننا لا نستطيع إطفاء الحرائق".
هل نستطيع نحن أن نطفئ حرائقنا، وما قد يأتي بعدها من حرائقَ ، ربما؟.

هذا البيت الروحي ـ الفني، المسرح، الذي يظل فيه لمنذر حلمي، ممثلا، أثرٌ ومكانة، ثابر الراحل على حمله معه في المنافي المختلفة، يجد فيه سكينتَه وسكنَه.

هل كانت تتراءى له، وهو يشدّ على روحه، صورةُ ذلك الحمال النحيل الذي شاهده في سوق (الشورجة)، وهو طفل، ينوء تحت أعباء ما يحمل، ويكاد ينكسر تحتها؟. مشهد الحمال ذاك كان أول دور يرتجله الطفل حالَ عودته إلى منزل العائلة.

قلت في تكريم (منذر حلمي) قبل أكثر من عامين، في برلين، أنه ممثل يمتلئ بدوره ويمتلئ دوره به. وهو امتلاء يصعُب تحققُه دون اشتغال الفنان، مثلما ذكرهو مرة، على الشخصية التي يجسدها لاكتشاف دلالاتها، تناقضاتها ومستوياتها المتعددة، نفسيا وثقافيا واجتماعيا، مستدرجا إياها كي تغادر النص وتذهب معه إلى الحياة. كان منذر ، فيما شاهدته له من أدوار، يأخذ شخصياته، ويأخذنا معها، إلى الحياة حقا، الحياة الواقعية، حتى لو كانت تلك الشخصيات من عوالم وثقافات وأزمنة أخرى.

بيته الآخر فكري ـ سياسي ، وقد ذهب أبو سلام إليه منذ منتصف الخمسينات أيضا، ولم يجده في غير اليسار، والحزب الشيوعي تحديدا. لم تأخذه الأيديولوجيا إليه وإنما رأى فيه ما لم يره في غيره من اقتراب لحلم الفنان فيه ولمشروعه الثقافي ـ الاجتماعي، والحضاري. لقد رأى في وقوفه مع الحزب، حتى دون انتماء له، وقوفاً مع النفس وحلمها هذا. وهكذا صاحبه، وهو ما يزال فتىً، وظل وفيا لصحبته معه، حتى وهو يختلف معه في أمر هنا وشيئ هناك، أو يتعرض لحيف، مرة، من هذا أو ذاك. ولم يُغير عنده من هـذه الصحبة أن الأحوال قد تغيرت طوال سني اغترابه التي زادت على الثلاثين : أحوال البلاد وأهلها، وأحوال الحزب الذي اختار، بوعي، صحبته، وأحوال الكثيرين ممن صاحبهم، ومضى معهم إلى المنافي، وكذلك أحواله هو. فللمحيطات الثقافية ـ الاجتماعية التي يجد المرء نفسه فيها، وللتجارب، تجاربه هو وتجارب سواه التي يتأملها معايشةً وقراءةً، أو تصل إليه حكايات منقولة، هذه جميعها تُخلف فيه، مثلما في سواه، آثارها : وعيا وسلوكا وتناولا للظواهر والأحداث، ما مضى منها، وما يُعاش.
تغيرنا نحن وتغير هو أيضا، لكن البيتين ظلا، مع بيت العائلة، بيتيه. لم تأخذه غفلة عنهما، ولم تذهب به السبُل بعيدا عن مواصلة الحلم بهما ومعهما.

أتراه استعاد، في أيامه الأخيرة، رحلته الطويلة في هـذه البيوت ومعها؟ هل تلمس في استعادته هـذه شقاء الغربة وندوبَها التي لم تندمل في روحه بعدُ؟
هل كان يصغي لأنين روحه المكتوم وهو يدرك أن الرحيل قد آن أوانه؟
هل اهتزت روحه من الغيظ لأن هـذا الزمان البغيض الأغبر، المكشوف العورة، لم يمنحه سنوات أخرى يتعرف فيها، ثانية، على (سلام وسوزان) ولديه، بعد أن شرده القهر عنهما طفلين، وعن أمهما كلَ هـذا الوقت الطويل، وينعمُ وإياهم بعيش آخر، يتمتعون فيه مع بعضهم البعض ويفرحون حينا أطول؟
هل تأمل في وطن يزداد عنه، وعنا بعدا كل يوم، وطن يذهب بأبنائه إلى الجحيم، ويمضون به هم إلى الهاوية؟
هل كان (منـذر حلمي) ممتلئا، كعادته، بدوره الأخير، دور الراحل عنا، ممتلئا به لنفسه هـذه المرة، فهو صاحب الدور ومشاهده،في الوقت نفسه؟.
لم يرغب (أبو سلام) لأحد من الأصدقاء أن يراه في دوره هـذا غير صاحبه الآخر، الفنان طه حسين رهك، وقد صاحبه طويلا.
هل أراد صاحب الدور، عبر هذه اللعبة، أن يرى في عيني الصديق دقة أدائه لدوره، أن يكون الصديق مرآتَه؟
أليس الموت، كما الحياة، لعبةً، كما المسرح لعبة هو الآخر؟
ولكن أيجوز لنا الحديث عن دور للمبدع، أخير، يؤديه وهو على مشارف يوم تتوقف فيه الأعمال، وتنقطع الآمال، مثلما كان يقول أسلافنا عن يوم الرحيل؟
أليس سيَرُ المبدعين وآثارهم أدواراً تبقى بعدهم، تُعيد الأجيال قرائتها بلغات زمانها وعقولها؟. وهكذا تتواصل تلك الأدوار بمعان ودلالات مختلفة، هي معاني ودلالات أزمنة تأتي.

منـذر حلمي كوكب، آخر، ساطع من كواكبنا يهوي في زمن تنهمر فيه صخور الجهالة، دونما انقطاع، على عقول الناس وأرواحهم . . . . فتزداد العتمـة.
 

free web counter