| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

د. حسام آل زوين

 

 

الخميس 30/12/ 2010

 

تلك هي كريطعــــة !

د. حسـام آل زوين

بأختصار محلة ( فاضلة ) ، أرتوت واغتسلت بماء فراتي عذب ، بهـدوءٍ وطمأنينية لبست حلة البساطة وتزينت بالطيبة الريفية واريجهـا ، ولدت خيرا وبراءة وطيبة وخلقـاً ، ارتبطت بوشـائجها الفراتية بما يتليـها من القرى والارياف بمجـرى النهـرالمتدفـق ، ومنها واليها دربا رابطا لسـوق الحلة في الصوبين ؛ الكبير والصغير للنهـر الرائع . تحسـها عائلـة واحـدة ، ابنائها معجـونين بالطيبة الفـراتية واريحها ، ولها من الاعـراف اناس من ذوي الشيمة والنخـوة والاقـدام والكرم والجـود والعرف ، يتقاسمون الخبز والملح .
صيفها ، شـتائهـا جميـل مغنى ، بشـروق وغروب الاصيل ، فجرها الشتوي هادئ فضي ، عند المسـاء سمائي رمادي ، من الفجر تدب الحركة في الازقة بتصاعد السـلم الموسيقي لصياح الديكة بدون توقف ، العالي والمتوسط والواطئ منها ، وتتبعه رنة الاجراس لحفلة مرورالغنم والماعز والبقر والدواب والقطيع متوجهة ببهجة الى المـزارع والبساتين ممزوجا بصدى الاذان لمسجد الحارة وبصوت القارئ عبد الزهرة (الشعيشع )الجميل ، والصوت القادم العابر بسهولة من مساجد محلة الجامعين التي لا يفصلها عن كريطعة الا الشـط والبلم (سفينة نوح) الراسي عند مقهى علي الكريم (الجامعة) حيث الطلب لكـلٍ حسب حاجته ورغبته ، الدفع بالثقة مؤجلا ً، وحيث اخبار الخطبة والزفة والزواج والوفاة ، واخرالاخبار واللقاءات والاسرار، البلم مربوط بحبل من ضفتي النهـر بقـوة ، لا يستطيع جرفه التيار ، لا يهدأ من الحركة بين الصوبين ، خفيرا من الفجر الى الفجر الا في فترات المطر بعض الشيئ ، وقبل الفجربقليل يودعه ثامر دليل المنطقة وحامي حماها. لقد حمل الناس كلها ، نساءا ورجالا وكبارا واطفالا ، حمل اسـرارهم ، همومهم ومتاعبهم ، السياسة بعهـودها وفصولها : حديث ونقاش وانتقاد يطول لسـاعات متأخرة من الليل ، شـارك هـم َالعاشـق الولهـان ضوء القمـر ، هو مفتاح المحلـة وبوابتها وحارسـها الامين وواسـطتها النهـرية النهارية والليلية الى الضفـة الاخرى ، عبر الازقـة صعـودا الى حديقة الجبل ، يبـدد الملل والضجر لمن ينتظر قدوم شخص ما من الجهة الاخرى ومن على البعـد يستطيع معرفة القادم ببسـاطة ، وما اروع منظره حينما يتوسـط النهـر شـامخا في الليل ، وعلى سطح النهر تتراقص الامواج وتسبح النجوم ويضيئها فتنة وبهاءا ضوء القمر .
الفجر ليس هادئاً ، شروق الشمس صيفاً ذهبي حتى غروبها برتقالي برنزي ، تسـوده الحركة وقليلا من الضوضاء وذرات التراب القادم من أعماق قرى العـتايج والدولاب والسادة ، تجلبه عجلات ومحركات العربات المحملة بالناس والخضرة والفاكهة وما جنته من الخير والمحصول الى سـوق المدينة .
الغروب فيها عجـبٌ ، على طول الطريق ، على ضفة النهر ، من المقهى الى ما بعد مرقد ( النبيــيوب ) في الضفة الاخرى ، حيث النسيم العليل الممزوج برائحة الخضرة والريحان والطماطم والشـمام ، وقبل الغروب بقليل يحين وقت خروج الجاموس لعملية الحلب بعد ان امضى طيلة النهار باركا في الجرف هربا من حرارة الصيف ، (ياجاموسـة عينج حمرة مثل الجمرة شيشي) ، لا يبالي من هذا الاستفزازالصبياني فهو يعده من البراءة والطفولة .
بعـودة القطيع ، اجراس وموسيقى …بمشيه يتمايل ذات اليمين وذات اليسارمتثاقلا بعد ان ارتعى وشبع واستراح واسترخى … يناطح ، يركل ، يلاعب بعضه البعض في منتصف الطريق ، تتراقص الاجراس يتعاظم السلم الموسيقي … نغم يتعالى سـمفونية ، واذ طابت النفوس غنت ، ورجوع الممشوقات الناهدات لبيوتهن ، قصيدة عشق عـذرية الهـوى ، تتراقص الابيات والاشـعار، قصيدة غـزل ، تطرب أغنية تتردد على الاشـفاه ، تعلوها الابتسامة مفعمة بالامل والعمل والحب القريب ، بعفة خجلى بالطرف يسـرقن بالنظـر ، حليمات حالمات بالقران والافراح والبنين وكلعـبهن لعـبة العـروس في الصغر ، وحلم بالحبيب المنتظر ، عيـون اجتمعت بها الالوان الربانية واطيافها السماوية والسمائية والعسلية والسوداء والزرقاء والخضراء ، تاركة ما يختبئ في بساتينها الجمال ، حلاوة ولوعة العشق وعشـق كامل العفيف الجميل ، وفي الصباح الـقادم لقـاء ات ٍ ، لوحة ، ملحمة ، اسطورة رسـمها الخالق .
ويسود ليلها الهـدوء ، ويلف دفئ مناقل الفحم البيوت ويلتف من حولها الاهل والخطار ، يتقاطر رواد المقهى بعد العشاء ، لقضاء دورة الليل والمساء ، في اللعب وشرب الشـاي او للقـاء ، ومن يتكتر من الاعراف جانبا لتناول اطراف الحديث وما حل بنهار واخبار المدينة المختلفة .. والسياسية منها الى ساعة متأخرة .
لازال كامل كعادته جالسا مع اولاد عمومته في المقهى ، عند النهر يتابع التيار والاخبار، وتجول الانظار، تترقب لمن يأتي من صوب المدينة ، لقـد رحل العم المهاتمـا روؤف الخياط قارئ الشعر والنجم ، وبعد رحيله اغلق الدكان ، خر النجم وتاهت الاشعار ، رحل سـمك النهر بألم ، وغـادر مع التيـار.. كان يتراقص بفرح لرفقته من بداية الجسرالعتيق حتى اخرالزقـاق ، ليتحسـس الهم ، ومايخفيه في قلبه من هموم الدنيا ومعاناة الانسان ، عند النهر ، يكلم نفسه ، يخاطب الجادرجي على ماحل في العراق من ضيم وظلم وظلام وطغيان ، هوالقادم الذي كان يأتي عند الهزيع الاخيرمن الليل .
كم من السنين مرت ولازال كامل ينفث دخان سيجارته تارة ويطرق باحجار الدمينو تارة اخرى ويده كالصقرالمنقض من العلالي على فريسته .
كريطعة الفاضلة ؛ افراحها واحدة ... احزانها واحدة .. تغيرت الـدنيا .. وكريطعـة لم تتغير! ، كحلتها القديمـة ، انتي في القلب عزيزة ... فيحـاء تبقى ... تلك هي كريطعـة ! .


 

 

free web counter