| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

د. حسام آل زوين

 

 

الأثنين 2/1/ 2012

 

غريب الروح

د. حسـام آل زوين

لفت انتباهه لهجة بائع السيجاير الذي اتخذ من ركن الشارع المكتظ بالمارة مكان له ، وطريقة عرضه للسيجاير مصفوفة مبنية كزقورة سـومرية ، وكجدران مباني بابلية مطعمة بالنقوش ، حيث الوان اغلفة العلب المتنوعة . والتي لم تكن معهودة له منذ ما يزيد على اربعة عقود ، منذ بداية السبعينيات ، حيث كان الباعة المتجولون يحملون بضاعتهم في قطعة مربعة من الخشب مربوطة من جنبيها بحزام من الجلد معلقة بالرقبة ، تحمل ما أنتج من صناعة السيجاير الوطنية في فترة الجمهورية وما قبلها ، ويحمل البائع المتجول أهم الاخبار ، منها اخبار المدينة واخبار الصباح واخبار كرة القدم وللمعارف اخبار السياسة وأخبار متفرقة .

أراد ان يسئل البائع من اية جنسية ، وفي ذات الوقت تدارك الموقف واحس انه ليس من اللياقة ان يسئل هكذا سؤال ، وهو الذي تعلم من خلال معيشته وغربته في بلدان المهجر ان لا يسئل احداً عن قوميته وجنسـيته اوعن دينه ، لقد اعتاد ذلك ومنذ امد طويل ، وكل ذلك اصبح من جملة مفاهيم انسانية تعد ضمن حقوق الانسان .
والانكى من كل ذلك ، انه احس بنفسه هو الغريب في وطنه خلال هذه الاشهر من تواجده في هذه المدينة الفراتيـة ، وقد سئله الاخرون هذه الاسئلة انت من الخليج ؟ ، من الكويت ؟ ، ام انت من سوريا ؟ ، أم انت فلسطيني ؟ ، حسب لهجته التي طغى عليها بعض الشيئ من العربية الفصحى ، لقد تأثر من ذلك وهو العراقي اب عن جد والقادم من اعماق الريف .

اراد ان يترك الموضوع لوقت اخر ولاسيما بانه امسى يرتاد المكان لوجود المطاعم الشعبية ، وما الذي يقدم او يؤخرعلى سؤاله هذا بشيئ ، والبائع رجل بسيط يكسب رزقه من هذه البسطة في النهار . بادره اخيرا بسؤال عن كيفية الاحوال في المنصورة ، وقاطع جواب البائع احد المشترين بالسؤال ؛ كيفك ابو ( كاسم ) ، رد السلام والتحية ابو جاسم بلهجة مصرية مطلية بلهجة عراقية ، احس صاحبنا بنشوة ... هي الفراسة بعينها ... في تحديد الشخصية والجنسية المقابلة له ، وهذه بفضل معيشته في بلدان المهجر وغربته فيها والاختلاط مع الطلبة العرب والاجانب . اجابه البائع ؛ الاوضاع سيئة ، حيث الهوة الكبيرة في المجتمع بين الفقـراء وبين الاغنياء ، ولكن بعد التغيير سـتكون الاوضاع في المنصورة وفي مصر احسن ، ولكن سـتمر في مراحل مشابهة بعض الشيئ وكما مرت هنا في العراق ، يستمر المخاض وتهـدأ الاوضاع ، وتختلف في مصر بان الجيش والشرطة لم تحل كما حلت في العراق . وبعد أشهر سـاشد الرحال وأعود وأعمل في موطني ، وهو الاحـسن ! .

سرح صاحبنا بعض الشيئ وقاده التفكير لسنين مضت عند مجيئ العمالة المصرية الى العراق والنقاشات التي كانت تجري حول توريد العمالة العربية وتأثيرها على الاقتصاد العراقي ، التأييد والتضامن معها ام الوقوف ضدها ، وهي بنهاية المطاف عمالة تبيع قوة عملها لكي تعيش ، وفي الوقت ذاته ذهبت العمالة العراقية الى جبهات القتال مع ايران . وقفت معها ام ضدها ، لم تعمل ولم تغير شـيئا ، ما الذي جنيته من موقفك هذا ياصاحبنا ؟. فكنت حينها انت الغريب والمطارد في الوطن ولم تجن الا الرعب والخوف وطبقات من البيض ، ولم تستطع تسديد فاتورة الكهرباء في مواعيدها في المهجر والغربة . وامسى ابو كاسم هو المواطن في العيش والعمل خلال كل هذه السنين ولحد اللحظة ... ، وامسيت غريبا وحيداً في رجوعك مرة اخرى للوطن ، لاحول لك ولا قوة ، ولا زلت تحوم بين حبك لوطنك وعائلتك في مهجرك ، لا عش لك ، لا ركن لك ، الرب لك.

بمناقشته البائع ( ابو كاسم ) حول مجمل الاوضاع ، قفزت من ذاكرته وقفة عند زيارته الاردن في منتصف التسعينيات للقاء والدته التي لا يحسن تصور هيئتها وكيف امست خلال كل هذه السنين ، وبها اول مرة يرى نساء عراقيات يبعن السيجاير عند الارصفة ، جره الشوق والحنين لمكالمة احداهن ، تألم كثيرا لاوضاعهن واوضاع العراقيين في الوطن والمنفى ، قدم لها النقود لشراء علبة لا على التعيين ، هـدر الدمع ، لوى برقبته وادار بوجهه الى جهة اخرى كي لا ترى دمعته ، ترك البائعة والسيجاير وشـرع بعبور الجهة الاخرى من الشارع بامل اللقاء بامه .

اكمل تدخين سـيجارته مودعا ( ابو كاسم ) متمنيا له الموفقية ولعودته الى وطنه وبلدته المنصورة ، عبر الجهة الاخرى من الشارع يسائل نفسه ؛ ما الذي حل به خلال هذه الفترة ، وما يعانيه من الغربة والوحدة ، واكثر ما يؤلمه وضع الناس ، هل ان قرار رجوعه للوطن خطأ اخرانزلق به كأنزلاقاته الوطنية الاخرى التي تنكر الذات دائما ، لماذا لم يطلب اللجوء الانساني في بلدان اللجوء ، لماذا قرر العودة مرة اخرى ، مالذي جناه من تلبيته العودة للوطن ، ماذا نفعت به كفائته العلمية السائبة ، الم يستطع هو الاخر ان يعمل بسطة لبيع السيجاير؟، ألم .. ألم .. وحسرات لا قيمة لها الا لتزيد من القساوة الحمقاء .

لقد كان ابو(كاسم) يزور وطنه كل عام كالبقية من يعمل خارج الاوطـان ، وان قرار رجوعه للوطن هو الحـل ، مدروس بشكل محكم . لقد وصل حنينه لوطنه الى ذروته فاتخذ القرار يحدوه الامل بتغير الاوضاع في بلده . ولكن انت لم تستطع كل هذه الاعوام وان تاتي لامك بقطعة قماش ! .

لا يتذكر بماذا قالها النواب ؛ لي امنية ان يسقط القمع .. والمنفييون يعودون الى اوطانهم ثم رجوع ...
اخذ يدندن اغنية لحسين نعمة ؛ غريب الروح .. غريب الروح .. لا طيفك يمر بيها ... ولا ديرة تلفيها .. وغدت وي ليل هجرانك .. ترد وتروح.. وعذبها الجفا وتاهت حمامة دوح .. غريب الروح .. غريب الروح .

 


 

 

free web counter