| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

د. حسام آل زوين

 

 

الجمعة  23 / 4 / 2014

 

 زيـارة ... جزيرة روبن

د. حسـام آل زوين

بهبوطها بدأت نثات مطر خفيفة تطرق الجناح . التصق بالنافذة كالطفل الصغير يراقب مايدور من حوله من جديد ، وبعادته المكتسبة أخذ يستطلع المكان ؛ جماليته ، بتدرج الالوان لاوراق الشجر، ومن بعدٍ قوس قزح المطر ، لم يستطع تحديد الالوان ؛ أهي لفصل الربيع ام للخريف ، أخضر فاتح ، أخضر، مصفر ، وردي ، محمر ، غامق ، جوزي ، بني .

دقائق وتوقف الرذاذ ، اصبحت ساحة المطار كالمرآة كأنما البحر امتد اليها ، لامسته قرصة نسـمة باردة خفيفة أطلسية ام هندية ، احس بنشـوة ، هبتْ به وارجعتــه الى أكثر من ثلاثة عـقود ، لاول زيارة له خارج الحدود .

عند مراقبته جمال الطبيعة والمناظر الجميلة التى يزهـو بها هذا المكان كغابات موسـكو ، لازالت تلك الصور مخزونة في اعماق الذاكرة لما فيها من مفاجئـات وذكـريات جميلة غنية عزيزة بحبها وطعمها ...هناك .

هنا وهناك ؛ السماء ناصعة زرقاء ، شـذرية نقيـة ، " غيمات " هنا وهناك ؛ بيضاء ناصعة كانها القطن المنفـوش المنثــور . أهي الجنة في الحياة الدنيا !؟ .

من خلال النافذة المطلة على المحيط ؛ ظل يتطلع يميناً الى اطراف المدينة التي ترقد تحت السفح الطويل وحي الفقراء الذي توقف عنده عصـرا ، الحي الزاهي بتلوين الجدران الخارجية للبيوت ، كانه لوحة فنية مرسـومة للتو من كل الالوان ؛ البنفسجية ، الحمراء ، الخضراء والصفراء ، فاي اهتمام ، اية رعاية ونظافة ، اي ذوق رفيع ، ببسـاطة .

أطال بتطلعه يساراً الى بصيص أضواء متناثرة تلوح من وسـط المحـيط ، ولســاعة متأخرة من الليل الى ان اخذه النعاس ، بأفكار تؤرجحه مابين الامس المفعم بالامال ، أنصع النوايا الحسنة والاماني الخيرية في العـدل الاجتماعي للناس وحب الوطن ، وما بين اليوم المبهم الذي تبخرت منه وسـرقت الاحلام ، وما حل من ظلام دامس في بلده . ولم يخطر بباله يوماً ان يزور بلداً بهذا البعد ورحلة أستغرقت اثنتي عشرة سـاعة مستمرة بدون توقف على امتداد سـواحل أسـيا وافريقيا ، ماهي الا صدفة .

بزيارته الاولى لموسكو في منتصف السبعينات جلب نظره أرتداء الطلبة الافارقة قمصان وجلاليب وأزياء بألوان بيضاء ، صفراء منقوشة كانها جلد نمــر، وعلى الصدور رسمت عليها صور رجل افريقي ؛ سـئل عنه من يكون ؟، علم بانه نيلسـون مانديلا ، المناضل الافريقي الثوري المناهض لنظام الفصل العنصري (الابارثيـد) المسجون في جزيرة في جنوب افريقيا، والذي اصبح رمزاً للكفاح ، تذكر ما قرأه وما نشر عن ذلك في الصحف ايام المدرسة والجامعة في السبعينيات ببغـداد. تلك هي جزيرة " روبن أيلانـد " فيها السجون والمنفى للمناضلين من افريقيا .

منذ الصباح سـاقته قـدماه تلهفاً الى المرافأ لحجز تـذكرة للرحلـة البحـرية الى الجزيرة كان له قريب او صديق سـجين هناك ، واذا بقــاعة المرافأ تعـج تفـوج بالناس بمختلف الاعمار ... من كل فج عميق ، في قاعــة الحجز جــدارية متدلية باللون الاحـمر خـط عليها شـعر ثـوري بمـفـرادته الانكلــــيزية في (التحرر، الشجاعة ، النضال ، المساواة والعدالة الاجتماعية) ، تعود أبيات الشعر لكاتبه المناضل أحمد كـثرادا المسلم الهندي من أصدقاء مانديلا الذي رافقه أيام النضال والسجن . تبحر بك العبارة في الاطلسي وتبتعد عن مدينة كيب تاون بحدود الثلاثين دقيقة ، تدنو من بوابة الجزيرة ، وهنالك يفطات ونشريات جدارية فيها صور تأريخية عن السجن والسجناء المناضلين المنفيين الى هذه الجزيرة وتلوح صور نيلسون مانديلا ، دخل القاعات ، الساحات ، غرف الاعتقال والزنازين الانفرادية وتهجى بعض الاسماء التي سكنت السجن ، أوليفر تامبو ، والتر سيسولو ، واخرين من المناضلين الافارقة ، توقف عند زنزانة مانديلا الانفرادية ، واسـتمعوا الى شـرح مفصل من قبل الدليـل السياحي ماسـيبو سـيبا ، والذي كان ايضا من السـجناء المناضلين الشباب ، ولازال عضوا في الحزب . بعدها طافوا بجولة اركان الجزيرة مرورا بالمقلع الحجري .. بقايا أجزاء حطام مركب أو سـفينة شـراعية هوت بها ريح عاصف ، حملتها امواج ملتقى المحيطين الى الجزيرة منذ قــرون . أصبحت الجزيرة مزارا لالاف السياح في العالم .

الماء ، الخضراء ، صفاء زرقة السماء ، نقاء الهواء ، طيور البر والبحر بانواعها ترفرف ، تزقزق ، تغرد ؛ حمام ، طيور حب من كل الالوان ، البجع، القبج والبطريق تمشى الهوينا لم تنفـر من الزائرين ... على مايبدو لم يرُعها الفـزع بعـد ، كنيسة منذ عهد الاسـتكشافات البرتغالية والهولندية لرأس الرجاء الصالح ، هلال ونجمة لقبة خضراء تقبع على هضبة يرقد فيها الامام عبدالله بن سمعان. اين هذه بمقارنتها بسـجون ومنافي ومعتقلات الامن العامة ، قصر النهاية ، سجن ابو غريب ، الكوت ، نكرة السلمان التي أعـدت للمناضلين ، قـوافل وكواكب اسـدل عليهم التهميش والانكار والنسيان ؛ اليس هذا هو الحرام والطغيان .

كم هي منظمة الرحلة ، الوقت ، التهيئة والاعداد (شـغل انكليز) ، باخرة أو عبارة تغادر وتعـود من والى المرفأ بوقت محـدد لثلاث ساعات ، زيارة تشحنك بحافز ثوري يرتاح فيها الضمير، وبان هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم وشبابهم لم ينسهم الناس والتاريخ ، وان شمس الحرية حتمية بشروقها وباصرار صانعيها .

لقد شارك مانديلا بالاحتجاجات الطلابية على سياسة التميز العنصري مع اوليفر تامبو عام 1940 ، بالتعاون مع الحزب الشيوعي في جنوب افريقيا شارك في تأسيس منظمة "رمح الامة" ، وفي عام 1961 القي القبض عليهم وادين بالتآمر على النظام وحكم عليه بالسجن مدى الحياة ، مكث في السجون 27 عاماً . من خلال تصديه وما بذله من تضحيات في سبيل تحرر ابناء جلدته في جنوب افريقيا من نظام الفصل العنصري جعلت منه رمزا ً للكفاح ، حقاً لقد فدى شعبه بحريته ، خرج من السجن تحت تأثير وضغط المطالبة العالمية في 1990عهد دي كليرك ، واصبح أول رئيس أسـود لعام 1994- 1999 أنتخب في أول انتخابات متعددة وممثلة لكل الاعراق حيث هنالك اكثر من 11 لغة وعدة أديان سماوية وارضية ، وقد ركزت حكومته على تفكيك أرث النظام السابق من خلال تصديه للعنصرية ، وعدم المساواة ومكافحة الفقر ، تعزيز المصالحة الوطنية السياسية وتشكيل حكومة وحدة وطنية لنزع التوترات العرقية ، تأسيس دستوراً جديداً ولجنة للتحقيق في انتهاك حقوق الانسان ، اتخاذ تدابير لتشجيع الاصلاح الزراعي وتوسيع الخدمات والرعاية الصحية ، امتنع عن ترشيح نفسه لولاية ثانية ، اليس هذا بكرسي ؟ . اين نحن من ذلك ؟ .

عندما تختلط بالناس فالكل يستقبلك بتحية الصباح والمساء ، رجالا ونساء ، بابتسامة لا تفارق الثغرالجميل ، اسـودا ام ابيضاً او ما بينهما . عندما يأكل الابيض في المطعم فعليه ان يتذكر بان هنالك اسـودا فقيرا جائع ينتظر ، يعيد النادل ما تبقى من الطعام وكأنه للتو قد عد طهيه مغلفا بالورق . أن سر الوصول الى هذا المستوى العالي الرفيع من العلاقات الاجتماعية ؛ هو من جراء انتهاج وسلوك وتطبيق سياسة التسامح التى زرعها مانديلا ووصاياه في هذه الاطر ، ... نتذكر وصيته الموجهة للربيع العربي : أوصيكم بوصية نبيكم (ص) أذهبوا فانتم الطلقــاء .

يقول مانديلا اثناء المحاكمة ؛ دخل بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النـمر ، وقد اختار الزي لابراز المعنى الرمزي لكونه رجلا افريقياً يحاكم في محكمة الرجل الابيض ، يقول وكنت احمل على كتفي تاريخ قومي وثقافتهم ، وكنت على يقين ان ظهوري بذلك الزي سيخيف السلطة من ثقافة افريقيا وحضارتها .

قال مانديلا ؛ في اليوم الاخير من حياتي اريد ان أتأكد من أن من عاشوا بعدي سـيقولون : هذا الرجل الذي يرقد هنا ، قام بواجبه من اجل بلـده وشـعبه .

وري جثمانه الثرى في مسقط رأسه ، زاروه من كل البلـدان .

انتهت الانتخابات ، ولازال عامة الناس في جنوب افـريقيا ينتخبــوه ، وفي العراق لازال الزعيم عبد الكريم قاسم سـاكنا في القلـوب والقـمر... .







 

free web counter