| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

حسام آل زوين

 

 

الأربعاء 1/7/ 2009



اطفـأتُ ناراً .. اشـعـلتُ نارا !
(6)

حســام آل زوين

الحـلــة الفيحـاء
لا يعـرف لحـد الان سـر حـبه العـميق للحـلـة الفيحـاء ايـن يكمـن ، ومـدى حـبه يتعـاظم طـرديا كلما طال الزمن ، اهي الذكـريات العـزيزة للمكان ؟ ، وللجميع قد تكـون لهم نفـس الذكـريات ! ، قـد يكـون هـو الحـب الجنـون ؟ ! ، الم يحـب قـيـس ليــلاه ! ؟ ، اهـذا حـب وذلك حـب ! .

بدايـة تلك الـذكـريات متعاقبـة متقطعـة ، بدقائقهـا محفـوظـة بلفـاليف ذاكـرته الامينة الصادقـة ، منذ ان كان صبيـاً ، دخـل مع جـده المعمم بناية مخفـرالشـرطة اول مـرة من بـابه الكـبير كدخوله قلعة من القـلاع ، جلـس تحت شـجرة يتأمـل الغـرف المحيطة بالسـاحة الـداخـلية ، كان ذلك قبيـل ثــورة 14 تمــوز بايـام . لقـضيـة فحـوهـا ؛ بان جــده اهـدى قطعـة ارضـه الـزراعـيـة الصغيـرة لصـديقـه ســيد كـطوف ، والتي ادخـلتـه مع الشـيخ والسـركال في المشاكل وتـداخلها مـع هـجائـه لاحـد الاعيان بقصيـدة ، كلها اجتمـعت على حـين غرة . الارض واقعـة عند نهــرالنيـل المتفـرع من نهر الـفـرات قبل اثار بابـل وبعـد نهـرالمحاويـل ، بالقـرب من ماكـنة الطحـين للشــيخ عـبـود القـرغـولي . قال جـده عـن جـده أميـرالمـؤمنين عـلي ابـن ابي طالــب(ع ) عـندما حـل في ارض الكـوفـة ؛ ان الارض لمن يـزرعها ، وانا لا ازرع ولا احصـد فيهـا فخـير لي ان اهـديها لصـديق يـرعـاهـا ويزرعهـا ويعـم الخـيرالجمـيع ، حفـظ المقـولـة منذ ذلك الحـين ، تعاقـبت القـوانـين تلو القـوانين ، في الاصلاح الـزراعي وتوزيـع الاراضي على الفـلاحـين ، قـرأ البعـض منها ، وعلم صـدق جـده واحـترامه للشـريعـة والحـق والعـدل والـديـن والقـوانين ، كانت اولهـا ارض الانبياء والاوصياء والائمـة الطاهـريـن من سـيدنا ادم ونـوح وابـراهـيم ، والحضارات سـومـر وبابـل ، ولائحـة حمـورابي ، وارض العـراق . اخـرجـوهم هـو وجـده بعد الظهـر في اليوم الثاني ، فـرح كـفـرح طفــل للتـو يحبـو اراد ان ينفـرد بانطـلاقته الاولى باي اتجـاه ليكـتشـف عـالـم جـديــد .

دخلا وجـده السـوق المسقف الكـبير، ابهرته ثقـوب السقـف تنفذ منها اشـعة الشمس، تبدو للناظر في عمـق السـوق كانها انجـم الصباح الـزاهية ، وكطفـل ابهـرته انواع الـدكاكـين ، منها ما يفـوح بانواع البهـارات والعـنبرومنها يفـوح برائحـة الحنطة والـدبـس والطحـين ، ومنها مايبيع مفخـور الطـين ، ومانسجته الايادي في الريف من بواري وحصران ومهاف الصيف ايضا ، ابهره سـوق الدجاج ذلك السـوق الذي سـكـن فيه خاله وبيت الخـالة وجاء ذكـره باكثرمن روايـة ، ولما يحتويه من كـثرة الاشـياء للبيت والمسواق ومأكـولات ما تشـتيه الانفـس من مـذاق ، حـركة حـرة هـادئة للناس وللـدواب . ابهـره ما ابهـره وهـو يمـرعلى الجســرالحـديدي المشـبك ، ينظـريتابـع مجـرى مـاء النهـرالمتدفق بتياره السـريع وتمايـل موجـه وانعكاس الضـوء البـديع ، يتعالى الى الاسـماع صـوت المطـربـين الريفـيين داخـل حسن وحضيري ابو عزيزمن المقاهي تحت الجسـر ، عـرف الاسـماء كلها عندمـا كبـر، وعندما اخبره والـده بحادثة سـيارة ووفاة المطربة زهـور حسـين عند الطـريق في نهاية الحـلـة . عند طـرف الجسـر، وبصافـرة واشـارة من شـرطي المـرور بخـوذتـه السـنـفـوزية تعبـرباتجاه واحـد العـربات والسـيارات ، ياله بذلك الوقـت من نظام . مقابل الجسـر مدخل السـوق المسـقف الاخر المكتظ بالمـارة والمتسوقين القادمين من الارياف ، الممـلوء بتحفـه من الملابـس وعباءات مطرزة بلـون الـذهـب والبريسـم وفيه صناعة العقـل بانـواعهـا ، من هـذا السـوق تجمـع لسـيارات الخشب القـديمة تاخـذهم من منطقـة الـورديـة الى مناطـق النيــل، ويالهـا من متعـة حـقيقـية حينما يجلس بالـقـرب من النـافـذة التي يملئ رئتيـه برائحة البسـاتيـن وماتحمله من رائحة الجني والمحصول ممزوجة بالرطب والخياروالشمام والطماطم ورائحة تراب الطريق الحـري والعـاقـول وقـت العصـروقبـل الـغـروب ، ظلـت في ذاكـرته لــوحـة طـبيعـيـة مجـسـمـة كاللوحات المجسمة لمعـركة الـروس مع الفرنسيين بقيادة نابليون في متحف البانوراما في موسكو تروي قصـص وملاحم وبطولات تلك المعارك. نعـم ؛ لازالـت في ذاكرته وقـت الغـروب الدخان المتصاعـد وقـد التمت الشابات القـرويات حـول التنانير ، وتحت لسـانه طعم ومذاق رغـيف خـبز الشـعير، نبـح الكـلاب ولعبهـا والقمـرالمـنير ، وغفـوة الصـباح على الوسـادات النـدية بالرغم من صياح الـديكـة وحركـة الـدواب . بكـبره بغـربتـه حينما يشـاهـد اويحضر معـرضا للـرسم ، تشـده وتـريحه اللـوحـت التي تجسـد الـريف العـراقي لنهـراو مشـحـوف او صـريفـة سـعـف او خـوص يشـم بعـمق منها رائحة النخيـل اوالصفصاف ، يسـكـن فيهـا الفقـراء وعـامة الناس ، يلفـه الهـدوء ويحـذوه الامل بان النخـوة لازالت باقيـة .

التصقت بذهنه كلمة السجناء السياسيين اول مرة حينما استأجرابـوه مقهى مع احد معارفهم لجده وجـدته من آلبو سـلطان وهم من الفلاحـين اصـدقاء كالاخـوة لابيـه ، لازال يحتفظ باسمائهم نعمة وطعمـة شـباده طشت عمل فيما بعـد في كهـرباء الحلـة ولم يسمح له الـوقـت بمتابعة اخبارهم بعد ان قطع عهـدا ان يبحث عنهم وضمن مشاريعه المؤجلـة . كانت المقهى مقابلة لباب سـجـن الحلـة المعـروف ، بهـذا اخـذ يناقـش نفســه بنفســه عن معنى كلمـة السـياسـيين وما الفـرق بينهم وبـيـن الاخـرين ، والاخيرة يعـرفها بكل الـوانها وهـو من تـربية الـديـن . يعجبه يـرش المكان والطريق المجاورة للمقهى وعيناه تترقب تتابع باب السـجـن والحراسـة عسى ان يخـرج ســجين ما يعلم ما كنه هذا المفهـوم ، يستمع لكلام الصناع ؛ بان السياسيين يلتقـون يجتمعون يقرأون خلف الاسوار، مـل الانتظار، افهموه الاقـرباء الفقـراء ذلك المفهـوم ! . بالكـبر، حين خطط السـجناء السياسيون لعمليـة الهـروب من سـجن الحلـة ، لم يعان من التفكـير لمعـرفة المكـان ، يعرف المكـان وبـوابـة السـجن والاشـجار وسـاحة الكـراج المجـاورة للسـجن وحتى وجـود الكـلاب السائبة ، كان فخورا متفاخـرا طيلة الوقت لمعرفته المفهـوم والمكان لملحمة بطولية سطرها السجناء السياسيون واقعـة وليست هي بالاوهـام . الشيئ الاخـرهو معـرفته بوجـود قصرللملك فيصل الثاني في داخل بستان في قلعـة الشـيـخ خلفـة الحسـن من شـيوخ البو سـلطان ، جدته زوجة جـده من هناك ، من الحمزة والمدحتية ، بمناسبة دخل القـلعة مع ابيه ودخل القصرخلسة ، ابهره ما راى ، تلمس كرسي الملك وهم بالجلـوس عليه ومن ورائه التـاج منقـوشـا بالذهب على الجـدار ومن حوله علمـان متقاطعان للمملكـة وصوروتحفيـات واباريـق في مكتبـة من الزجـاج ، وفي الـديـوان الكبير يجلـس الشـيوخ والرجال باجمـل الالـبسة والاطقمـة واحـذيتهم من لـونين ، تفـوح منهم العطـورالانكليزية جـربها فيما بعـد ، ملـتفين في حلقات يجادلـون امـورا اجتمعوا لاجلها . في مخيلتـه اذا قـدرالامر يلتمـس هـؤلاء عـن طريق ابيه ليتدخلـوا لنجـدتهم ولمسـاعدتهم لاخراجـهم من السـجن ولا سيما هم ليسوا بمجـرمـين . وعـقـودا من الـزمن التقى ببعض هـؤلاء المناضلـين الابطـال الاسـطورة الـذين مـر الكـثيرمنهم بهـذا المكان ، وقـرأ بعـض مـذكـراتهـم وبمـن كـتب هـذه المـذكـرات ، وللاســف كـل الاسـف في بـلاد الغـربـة والشـتات ، ومنهم من اسـدلـت عليه ســتائـرالاهمال والنسـيان ، يتطلب رسمها وتاريخها من جـديد وفي حلـة اخرى ، لانها ثورة ضد الظلم والطغيان .

صبيا ً ، بفـرح دخل السينما الصيفية على ضفاف النهـر، ابهجته الانواروالصوروالدعايات اول مرة واخرمرة حتى فترة دراسته الجامعية ، لفت انتباه دخـول الصبية والعـوائـل ، شــاهد فـلم ام الهنـد واذرف الـدموع ، عند انتهاء الفـلم عبـراول مـرة النهـربالقارب ( البـلم ) الى الجانب الاخر حيث منطقـة كــريطـعــة وهناك تجمع بيت الخالات والاقـرباء القادمين من قـرية السادة والعتايج والـدولاب ، ابناء واخـوات واطفـال ملـتمين فـرحـين لحفلة عـرس ووليمـة لاحـد ابنـاء خـالاته ، ومن هنا بدأت بدايات الوصل بالرحم والاهـل والاقـرباء والاصدقاء ومن ابسـط الناس والفـقراء . اصبح القارب المكان الذي قضى فيه امتـع الاوقـات لساعات الليـل المتأخرة وتحت ضوء القمـر، خصوصا عندما انهى مرحلة الثـانوية يقضي العطلة هـو واولاد ابناء الخالة واولاد عمـومتهم من البيـرماني ، كان احـد اولاد خالته الشــديد الطيبة يسـحب القـارب الى منتصف النهـروهـوالوحيـد الذي يعرف اسرارالقارب وفي اي وقت يحين استعماله ويعرف شـعاب المنطقة كلها، كان ثـامــر يساعدالجميع في جني المحصول في بستانهم او بساتين الاصدقاء والاقرباء حتى تصليح بيوتهم . اراد احد الايام ان يتعين في ايام البعـث ، سـئلوه مالذي سـوف تعمله بعـد الموافقـة على التعين ؟، اجابهم بانني سـوف القـن هذا الفلاني ابن الفلاني درسـاً لن ينساه ابـدا ازاء تعامله مع الناس، كان هذا الفـلان احد المسـؤولـين الحـزبين الكبار، بعـدها الـزمـوه الباب ولم يتعين حينها . كانت اجمل الايام النـزهـة والتمشـي عنـد نهـايــة كـريطـعـة على طـول الطـريق المـؤديـة الى قــريـة السـادة والـدولاب والعتـايـج مع اولاد خـالاته واولاد بنات خالته ( صديقـة) عند العصـراو الجلـوس عند الضفــاف مقـابـل مـقــام النبيوب (النبي ايـوب ) . وعـند الغـروب ؛ عــودة المـزارعـين والرعـاة والـدواب واصوات ورنين اجـراس الاغـنام ولعب صغـارها وتناطـحها والابقـارومشي الجاموس الـرزين ...( ياجامـوسـة عينيج حمره مثل الجمره شـيشي ) ، من الخلف يصحبه النهيـق ، شـبعت وارتعت ، وبعـدها طـابت نفـوسـهـا وغـنـت ، وخـاتمتهـا النقـيــق الاتي مـن الســواقي والكل في حركـة ، ورائحة البسـاتين ، يبقى كل ذلك للسامع اللحـن الجميل مع نسـيم النهـرالعـليـل مع لذعة البـرد اواخـر الليـل . ويلف الهـدوء والسـكينـة والسـكـون والاطمئنان والخيـركل النـاس والبيـوت ومحلات ما يسمى بالصوب الصغـير، ويملي الخبـزوالمـلـح المـوائــد ، للعـائـلـة للجيــران ويسـد رمق المحتاج والمسكـين والجـائع وحتى المتأخـرالعـائـد . ويعجبك هـدوء تلك القنـاديل الجميـل ، بنشوة البـرد ينتظـربـزوغ فجــر جـديـد ! .

لقـد قضى اجمل ايامـه وهي ايام العطـل الـدراسـية في مقهى الاقرباء مقهى علي الكريم ، يتفيئ تحت ظل اشجارها يتقاسمه مع الحمام وحمام الفختي يشدو اللحن الشدي الدائم ( ياقوقتي وين امي ... بالحلـة شتاكل باقـلاء ) ، يتأمل في مجـرى النهـر يتـرقب سـير موجـاته الوســطية والملاصقة لجـرف الضفـتين يحـس كانه جالسـا على متن باخـرة ينقصه المقـود ، وكليوباتـراه عروس النهـر وفتيات ونساء الاحـلام ، من مختلف الاعمـار، ذوات العـيـون السـود والخضروالـزرق والعسـلية يغسلن ما يحملن من البيوت وقت الصبـاح . دخـولـه المقـهى تدخـل في نفسـه السـكـيـنـة والـراحة والابتهـاج كالـوقـوف في محـراب في مسـجـد او كـنيسـة ، يجـد فيها بعـض المتنـفـس يخفـف عن نفسـه هموما اشـغـلت تفكيره بوقت مبكـر، صـيفا وشـتاءا ، بتلك الـوجوه البسيطة الحالمة الحاملة بكل الطيبة ، المشـكلة الـوحيـدة بالنسـبة اليـه الحـيرة مع من يجلــس من اولاد الخالـة واولاد بنت الخالــة والاقرباء الـذين كلهم اعـزاء على قلبـه ، ولكل واحـد منهم عالمـه ، ابتـدا من ولعـهم الذي لا يفـارق كل الاوقات طـاولة الـدومـينو ، الى عـالـم القــراءة والمطالعـة ، ومن يحـب ان يناقــش الاوضاع السـياسية او نشـاط اجتماعي لحـل مشـاكل معينة وزيارة مـريـض او حضـور مـأتـم او عـزاء ، لمسـاعدة الناس ليس الا ! ، هكـذا كانت هي المقهـى الحـبيبة ، حتى في بلاد الغربة احب ذلك الحمام الـذهبي ولشـديه الهـادئ الجميـل لانه شـدى من البيضـة اول مرة للحـلـة أمـه واخته .

احـس بنفســه بطــلا ًبابلـيــا ًحينمـا كان يســرح ويمـرح حتى الـغــروب في حـديـقــة الجنـــائـن المعـلقـة ، وبانه هـو مالكهـا وملكهــا وسوف تاتيـه امـيرة بابليـة او فتـاة احلامـه بثوبهـا الابيض الناصـع الطـويـل ، ياخـذ بيـدهــا يـدلهـا على كنـوزمخبئـة ، ويفـرجـهـا على امـاكـن مـرتفعـة لـم يعـرف بها احـد دونه الا الســيد ، واشـجارعـالـية كـبيـرة وياس وورد متنـوعـة كـبيـرة وســواقي اســتطاع ان يستطلعهـا ، كان يرعى الحديقـة الســيد حســين من اقـرباءه الســادة وصـديقا لجـده وابيـه ، يـذهب مع جـده الاخـربعـد الفـطـور ويعـودا الى بيتهم اسـفـل الحـديقـة عنـد الشـارع بعـد الغـروب ، كان يقـرأ ويجمـع اوراق الاشـجارالمتنوعـة ليتبـاهى بها عند حلـول الفصـل الـدراسي الجـديـد ، بتجـوله في الحـديقة كانه مـلك النحـل انفتـح جـرحه ، جـرح طهـوره المتأخـر، قيل لهم ذلك من شــدة شـمه الـورد ، كـم من الانـواع تلك الورود ، نصحوه بشـم الـديـزل بقطـن ملفـوف على عـود . كانت جنـة وجنـائـن ، لـقـد راى جنــة عــدن في صهـاريـج اليمـن ، قالهـا ذات مـرة لصديقه الشـهيد سـميرمهـدي شـلال ابو تيسـيرحينما دعاه ؛ بربك اهذه جنة ام تلك جنة ! ، رحمة الله على روحك ياسـيدنا حسـين : الـورد جميل جميل الـورد ... شـوف الزهـوروتعلم ...وتعلم بين الحبـايـب تعـرف تتكلـم ... شـوف ... شـوف الـزهـورالـزهـوروتعلم ! ؛ كيف كـان يـرش الـورد في اعالي الجنـائن !. خطرت ببالـه قـصـة ســيدنا ســليمان والهـدهــد ومملكـة بلقــيس وعـرشهـا وســبأ والســقي وســد مـأرب من قصص جـدته بلقــيس والتي قـرأ لها الـقـران اخـرايامهـا بعض ايام رمضان ، وتذكـراسـابيع عـبـد الكـريم قـاسـم ولاسـيما اسـبوع الشجرة والنظافـة ، كم شجـرة وشجـرة زرعت ، حينها لم يسـتطع التمـيز بين رائـحة شـجرة الكالـبتوس ورائحـة الاسـفنيك التي يرشـوها في الـدوائـر والمستشـفيات والمـدارس ، مالفـرق بين البـارحـة واليـوم ياحـلـتي ؟ ، قالها بحسرة ؛ نترحـم على كل تلك الايام الحـاملـة كل معـاني البسـاطة ، بالطيبة بالناس ، طيبـةٌ جميلةٌ انتي ياحلـة ، اســمك منـك وفيـك .

كانت اسـيجة كل البيـوت على الضفـاف وبالعمـق عنـد الجسـرالكـبير وعند الطريق المؤدية الى بغــداد مغطـاة بانـواع الـورد واليــاس واللبـلاب وعلى اليمين محطة القطار وسايلوات الحبوب ، وعندما تلوح للمسافـرالقـادم السـاعة الكـبيرة في دوارما قبـل الجسر، تـرتاح النفـس ينبعـث الامل والانشراح ، وتشـير من بعيد بانه هـا قد وصل المـدينة . عصفـت بالمدينة الـريح وحلـت السـنون العجـاف وتغـيرت الحـال والاحـوال ، لقـد رحل نـادي علي الطائي ولم يعـد يـزور ويتفقـد مقـهـاه ينافـش الرجـال والشـباب عن السـياسة والاداب ، ولم يعـد يسـمع كلامـه الجميـل وانتقـاده الـلاذع يخرجه من الاعمـاق ، واثناء القيلـولة يعـود للبيـت في فتـرة الغـداء ليقـرأ ما تبقى لـه من طـريـق الشـعب بامعـان ، رجـل سـلم وسـلام ، اسـفـاه وعــذرا والف عـــذر أعـتـقـال..! ، لقـد ذهـب حلو تلك الايام وافـزعـت الاحلام ، غـدر قاسم عـبد الاميـرعجـام ، ســبيت مقـاهي الادب وحل الهـمج والمرائون والغـجر، طمـرالنهـر ، صمتت القـوافي ورميت الاقــلام .. ، عـذراً أعــتـقـال ، اغتيل المبـدع وخنـق الابـداع ، واي ابـداع ! ، اقفـلـت وحرمت الـدور، ولم تشـهدي ســيدتي ادبـا وفـنـا مـزهـوا بالافـاق بل دفـنوه الظالمون بعيدا بالقـاع ، ولم تعـد تلك السـينما للناس.. ولم يعـد للسـينما النـاس هـذه الايـام .. ولكـن الا تسـتنهضي يا بابـل من غـفـوة وتنفـضي من ثـوبـك غـبـارشــرذمة اللـؤام ، وتـوقـدي قـناديلك التي اطفـأتهـا الـرياح الصفـراء وايادي الـرعـاع واخـطبـوط الظـلام ، وتفـتحي للنـاس لكل النـاس باب عـشــتار .

احلـى الايام وبعد انتهاء دوامـه عند الظهر وحتى العصر يقضيها عند دكان العـم رؤوف الخياط مـوسـوعة للشـعـر وعمـق النظـروالخلـق والمنطـق والادب والسـياسـة وحـركـة النجـوم ، جميـل حلـوالمعشـرمتواضـع هـادئ صبـورضعيف البنيـة وبنظاراتـه كانه المهاتما غـانـدي جاء بـزيارة من الهنـد الى الحلـة ليحتسي الزحلة مع ورق الخـس والفجـل بدل الـفـل وشـاي سـيلان . بعد وفاة شريكة حياتـه التجـأ للعـزلة الى اخرايامه . غـادرها منتصف السبعينات متأملا ان يلتقيه ذات يوم وبعـد انفـراج لكل هذا الغمـام ، ولم يحقـق حتى ابسـط هـذه الاحـلام . عند اللقـاء به يـزرع الثـقـة بالنفــس من حيث لا تعـلـم ، رددهـا بانه لاتـدوم الحـال لاتشــغل البـال ... (عـشـنه وشــفنه وبعـد انشـوف واقـرينـا الممحي والمكـشـوف) . عــرف التنجيـم ، يجلــس عنـد ماكـنـة الخيـاطـة لفتـرة طويلة يعمـل يناقـش يسهـرمع اصـدقائه القـدامى الى سـاعـات متـأخـرة من الليـل ، تعطيه أسـماء الاشـخاص واسـماء امهاتهــم يشـخص مكـان عـاهـاتهـم ، تعلـم منه الكـثير، وخصوصا التـوجيـه بالنجـوم اثنـاء السـيربالليـل ، تأكـد من صحتها عندما قـرأ تعاليـم جيفــارا في حـرب الانصار قبل دخـوله الى كـردسـتان ، اســتفاد منها في تحـديد اتجـاه الشــمال وتقـويـة البـث والارسـال . يـدور المنطقـة كلهـا دورة او دورتان من الجســر الصغـيرالى السـوق المسـقف الى المقـاهي المجـاورة على الضـفـاف ومـن جـنب الصيـدليـة الهـاشــمية يعـبر ليدخـل الدكـان وبيديـه حـامـلا بعضـا من الاكيـاس ، يحـس بالفخــر كانـه يدخـل حـوزة علميـة او دينيـة او مجمـع أدب ، وللعــم ابو بهــيج فيهـا آيات ومفـاخـرمن المواقـف والشعـروالعـبر والامثال ، يجتمـع الكـثير من اصدقائـه القـدامى يتبادلـون مختلـف الاحـاديث والكـلام . اســره اقنـاع العـم ذات مـرة بالنـزهـة باثار بابـل ، تجـول معـه الاثـار، ارتاح لذلك الاهتمام ، كان هـذا اخـر لقــاء . ولازالت تـدورفي مخيلتـه كلما مـرمن جهـة بابـل ؛ العــم وغــروب الشـمـس واسـد بابـل والنخيـل وشـذرات ومقـدمات من حـب ملهـب ابتـدأ بها العمروفقـدت عـند الـرحيل ، وتبقى طيبـة العـم تـفـوح بذلك المكـان كلما مـربه المحبون والمقـربـون .

بعـد تخـرجه وانهائه الخـدمة العسـكرية في موقـع اشـغـال المسـيب عمـل في مجـال البـناء مع احد الاقرباء من المفصولين السياسيين محسـن الطائي واخيه موسى الطائي منتصف السبعينيات، كانـا من اجمل واحب الناس واقـربهم الى القلب يحـس بهم اخـوته وكان بيتهـم بيتـه ، كان يستمتع بحديثـهم المشــوق ونكاتهم التي تشـق الحـلق وتـدمـع العـيـون ، وكانت حقـا اجمـل ايام العـمرمن العـلاقات الطيبة الانسـانية والعمـل والنشـاط والحـركة وخبـرة في الحياة والعمـل. ولاتلمه الـدنيـا حينما يتم اللـقاء بصـديق خالـه ايام معهـد المعلمـين المناضل ابـو حـاتم معــن جــواد ، بعمله كان يجـوب ويذرع المدينة كل شــوارعها ومحلاتها ومقـاهيها من الجـندول الى مقـاهي باب المشـهـد وشارع اربعــين ومقــرالحــزب ، كان يقـيـم اللقـاءات لمتطـلـبـات العـمل . ارادت الايـام ان تبني لقـلبه اواصرا بهـا يحـب ويخـفــق ويشـهـق ، في المنتزهـات او بعيـدا عن الانظـار. اثناء اشـتداد حملة الاعتقــالات التي اطـالت العــراق كلـه ، اســرت به الـريح الى بـلاد الغــربة وامتـدت طيلة هـذه الســنين ، الغــربة التي جنت عليـه وعـاقـبتـه بدفـع ضـريبـة البعـد عن الـوطن ، دخـل الحلة وتجـول بشـارع ابي القاسـم ، عسى ولعـلـه ان يلتقى بالمعـارف او بصديـق قـديم ، خـاب الظـن ، مضى العـمـروهـو لازال يحـلـم ، دخـل المـقــرالجـديـد التقى بمعـارف من الــرفـاق ، ســئل عـن الاخـرين ، كحـل عـينيه بصورالشـهـداء ، تمعـن بهم ، صغيرهم وكبيرهم منهم الاصـدقاء وحتى الاقرباء ، كـثيرون ، عن حـق انت حـزب الشـهـداء ، انتظرخـروج ابا حـاتم كعـادته عـنـد المقـر القـديم لـيذهـبا لـزيارة صديق او يوصله ( بـدربك حـبيب ) اخـراللـيل الى بلـدته المحاويل معـوقـا بعض الدراهم ومقتصدا للمصروفات للمقـرعلى مـدارالشهـر، مـل هـذه المـرة الانتظـار، لم يلتـق بفـاضـل وتـوت ولم يخرج ابو حـاتم ضاحكا ًباسـما ً، اراد أن يقـول المثل الكردي الشائع ؛ جبـل مع جبل لا يلتقيان ، ولكن الانسان يلتقي مع اخيه الانسان ، كم مرة تغيرالمكان والعنوان وكم مرة ومرة التقيـناك ابا حـاتـم ، في الطفـولـة ، في الحلـة ، في الـيمـن ، في سـوريا ، في مـوسـكـو، في كـردستان ، لمـا تعجـل هـذه المــرة غـــدر الـزمـــان ؟! .. لا تســئـلني عـن عـنـواني ... انا لكـل العـالــم عـنـوان ... لا تســئـلني ابـدا ابـدا... فانا بيتي في كل مكـان ... لاتســئـلني ..لا .. لا .. .

كانت تلك هي اغـنيـة ! .
لمـا لا يكـون عنـوانه ومهجعـه اخـرالمطاف ، الحـلـة ؟ .
تلك هي التي احبهــا .
كـفى التـرحـال .
ولكن الضياع .. وقلة الـورد على اسـيجة الـدور.. اشعـل في احشـائه الحـرقـة .
لازالت نفـوس طيبـة ... .
لازالت هي ... هي الاحلى ! .










 

free web counter