نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

هادي فريد التكريتي

hadifarid@maktoob.com

 

 

 

 

الجمعة 30/6/ 2006

 

 

علمانية الدولة ضمانة للديموقراطية ..!

 

هادي فريد التكريتي  *

مفهوم العلمانية ، عن قصد ، شوهه وحرفه المتعصبون من دعاة الحكم الديني ، لاستغلال مشاعر وعواطف المؤمنين من عامة الناس لأنه لا يخدم أغراضهم في الهيمنة على شؤون الدين والدنيا في وقت واحد ، بالرغم من أن العلمانية لا تسيء للدين في شيء ، بل تضعه في موقعه الذي يستحقه من القدسية في قلوب وأفئدة المؤمنين بالله ، وتصون مبادئه ، وتحمي أحكامه ، من متاجرة المتاجرين به ، من رجال دين مزيفين ، وسياسيين يسخرون الدين والطائفية ، أداة فرقة لتحقيق أغراضهم ، وأشباه هؤلاء كثير ، من العابثين بمصير الوطن ، الذين يلهثون خلف المال والزعامة ، هؤلاء ، كلهم ، لا تهمهم قيم الدين إن علت أو سفلت ، بقدر ما تهمهم تحقيق أغرا! ضهم عن طريق الحكم الذي يحقق لهم حياة مترفة وعيش هني ، على حساب كدح ومعاناة الجماهير ، هذا ما كان ، عند تواطؤ رجال الكنيسة واللاهوت مع قياصرة وأمراء دول أوربا، في القرون الوسطى ، وما يحصل عندنا في الوقت الحاضر بعد زوال الدكتاتورية في العراق ، حيث ُتَسًعر الطائفية بشقيها ، الحقد والكراهية ، بين اتباع الدين الواحد ، في المجتمع العراقي ، فالدين والرب قد اختطفهما المتاجرون بهما ، وارتهنوهما فيما بينهم لمن يدفع فدية أكثر .
العلمانية كمفهوم يحرر الدين والرب من آسريه ، ويطلق حرية المؤمنين بأن يعبدوا الله بالشكل الذي يجب , وتحول العلمانية دون تدخل مؤسسات الدولة في انتهاك هذه الحرية ، كما هي ، أي العلمانية ، َتفِصل ، أو ُتفِرق ، بين علاقة المؤمن بربه ، وما عليه لله من حقوق ، وبين علاقة المواطن بدولته وماله من حقوق أيضا ، دون أن تتداخل هاتان العلاقتان مع بعضهما ، عن طريق وسيط في الدين أو في السياسة ، وهي كذلك ، أي العلمانية ، تمهد أرضية لنشوء حكم ديموقراطي حقيقي ، يضمن المساواة والحرية لكافة أفراد المجتمع ، على اختلاف طوائفهم ومعتقداتهم الدينية ، وفئاتهم الاجتماعية ، وفوارقهم ا! لجنسية ، لنيل الحقوق على أساس المواطنة ، وليس على أي شيء آخر .
الدي ن الإسلامي والخلافة الإسلامية منذ نشأتهما في الجزيرة العربية ، وانتقال الخلافة ، بعدئذ إلى الشام في العهد الأموي ، وإلى العراق في العهد العباسي ، كانتا متداخلين فيما بينهما ، فالخليفة هو الحاكم المدني ، كما هو القيم والمنفذ لأحكام الشرع ، فلا حرية لفكر ولا حرية لمفكر ، خارج إطار الفقه والشريعة الإسلامية ، ما عدا بعض فترات ترف ، أو مرض ، معلومة من حياة بعض الخلفاء ، يتنازل فيها عن حقه لبعض الفقهاء في إمامة المسلمين ، أو الجلوس للقضاء ، وبعد أن اتسعت حركة نقل كتب العلوم والطب والفلسفة وعلم الكلام ، وازدهار ترجمتها من السريانية واليونانية والإغريقية واللاتينية إلى اللغة العربية ، أعطت مردودا لحركة فكريا وثقافية لم تعهدها عصور الخلافة من قبل ، كما هو الحال في عصر المأمون ، نتيجة لرخاء مادي وثقافي ، في هذا الوقت ، ازدهرت حياة الترف لخاصة الناس من القادة والأمراء ، وبعض الفئات القريبة من القصر والحاشية ، وعاشت الخلافة العباسية فترة مزدهرة في كافة جوانبها ، أفسحت في المجال ، أو قل أغضت الطرف قليلا عن التشدد، فبرزت تيارات فكرية وفلسفية وأدبية ، لم يكن مسموحا لها أن تنتعش وتزدهر ، ل! و لم يكن الخليفة نفسه مشجعا له أو منخرطا فيها ، فتحرر الفكر نوعا ما من رقابة الدين ، ولفترة قصيرة ، إلا أنها كانت كافية لأن تبدأ بشحذ أذهان الكثير من المفكرين وتحررهم من هيمنة الدين وسطوة رجاله ، في التحليل والتحريم ، فبرزت أفكار لجماعات فكرية ، كثيرة ومتعددة ، تتعارض وتتناقض في طرحها وفهمها ، عما ورد في القرآن والسنة من رؤى الخلق ، والنشر والميعاد ، والجنة والنار ، وغيرها من منطلقات ما كان لها أن تبرز ، لولا هذا التلاقح الفكري الذي أوجدته حركة الترجمة والنقل ، والحرية الفكرية ، النسبية ، التي أطلقها عصر المأمون ، وما كان يمكن ، أيضا ، أن تنوجد الكثير من المدارس الفقهية والفلسفية والعلمية من طب وفلك ورياضيات وموسيقى وغيرها من علوم ، أغنت حياة الناس آنذاك ، وكانت أساسا لتطور الكثير من العلوم في أوربا ..
بعض تراخ في سلطة الدين وسيفه المسلط على رقاب المفكرين والمبدعين ، لفترة زمنية قصيرة نسبيا ، وكفه عما كان يمارسه من ضغط وإكراه ، على حرية الفرد وتحرره الفكري ، أدى إلى تنوع وازدهار حضاري ، لم تر المنطقة له مثيلا من قبل ، فكيف الحال لو رفعت عنه نهائيا ، وانشغل كلٌ في تطو! ير قدراته ورؤاه لخير المجتمع وتقدمه ؟ بالتأكيد كان يمكن أن تعود على ال دين وعلى المؤمنين ، وعلى كافة المؤسسات الثقافية والعلمية وباقي مجالات الإبداع الأخرى ، بالإزدهار والتآخي ، بدلا" عن الإحتراب والتكفير بين أصحاب الدين والمذهب الواحد ، وبعد أن عادت سلطة الدين تمارس دورها الرقابي في الممنوع والمسموح ، واتهام المفكرين والمبدعين بالشعوبية والزندقة والتكفير ، تلاشى ألق المعرفة والعلم ، التحضر والبغددة من أرض الرافدين ، ليعم المنطقة كلها ظلام التجهيل والخرافة والشعوذة ، وهذا نتيجة لحكم الدين والدنيا في آن معا ، منذ زوال ما يسمى بالعصر الذهبي للدولة العباسية ، وطيلة سيطرة الحكم العثماني ، وحتى سقوطه ، كان العراق يعيش في مأساة التخلف والجوع والحرمان ، وإذ لاحت في الأفق حياة أفضل أمام العراقيين بتشكيل حكومة مدنية ، وسن دستور مدني في بداية عشرينات القرن الماضي ،اتسم بطابع علماني خجول ، أقر ببعض الحقوق المدنية للمواطن ، من حريات خاصة وعامة ، إلا أن الدين وما طرأ عليه من تشوهات طيلة 1400عام كان يمارس دوره ، و تأثيره بارز ومشهود على مؤسسات المجتمع ، وفي مجالات كثيرة ومتعددة ، في التعليم والقضاء ومؤسسات المجتمع المدني ، بالرغم من تواضعها ، والموقف من المر! أة وَتَمْيز الرجل عنها ، والانتهاك الفاضح لحقوقها ، والموقف من القوميات والأديان والطوائف غير المسلمة وعدم الإعتراف بحقوقها ، كل هذه الأمور وغيرها كان الدين يمارس سلطة القمع والتحريم عليها ، مما أعاق تنفيذ برامج التنمية الاجتماعية ، وحال دون تطور حياة مجتمع متعدد الديانات والطوائف والقوميات ، بشكل طبيعي وسليم .
التطور اللاحق بعد سقوط الملكية ، أثر سلبا على حياة المجتمع ومؤسسات الدولة ، فمنذ ثورة 14 تموز ومرورا بالانقلابات التي جاءت بحكم القوميين والبعث ، خلقت أوضاعا سياسية في العراق ، سيئة وغير مستقرة ، وعاش المجتمع بدساتير مؤقتة، وكثيرا" ما تم خرقها وإبطال مفعولها بقرارات استثنائية ، نتيجة لعدم وضوح رؤيا الحكم في شكل الدولة التي يسعى لتأسيسها ، لذلك كان نظام الحكم يمارس التضييق على الحريات العامة ، والخاصة ، مستعينا بالمؤسسة الدينية ، منتهكا حقوق المواطن ، فلا انتخابات حقيقية ، ولا حرية للرأي ، ولا يسمح بتشكيل أحزاب سياسية تمارس عملها خارج خيمة الحكم ورغبته ، وهذا ما أدى إلى نشوء دكتاتورية مطلقة بقيادة حزب البعث ، أشعلت نيران حروب داخلية وخارجية ، دمرت كل ما بناه الإن! سان العراقي طيلة عشرات السنين ، ليسقط هذا النظام بغزو أمريكي ، يدمر كل مرافق الحياة العراقية ، التي لم يكن النظام الفاشي قادرا على تدميرها ، تحت شعارات زائفة وغير حقيقية ، بما فيها " بناء الديموقراطية في العراق " ، وبعد تجارب متعددة لأشكال الحكم ، وإجراء أكثر من عملية انتخاب برلمانية ، تمت صياغة دستور دائم ، أقره الشعب العراقي عن طريق استفتاء عام ، نال موافقة أكثرية الشعب العراقي ، صاغت مواد هذا الدستور وأخرجته بشكله النهائي ، هيئة مشكلة من قوى في الجمعية الوطنية ، يغلب عيها النهج الديني ـ الطائفي ، لذلك جاء متوافقا مع اتجاهات هذه الهيئة ، حيث أُعتبر" الإسلام مصدر أساسي للتشريع .. " و ( ـ أ ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام ) هذان النصان أحكما الحلقة حول نظام الحكم واستبعاده من أن يكون نظام حكم علماني ، يسعى لتحقيق الديموقراطية ويحقق الحرية لإقامة مجتمع مدني متطور ، وبعبارة أخرى ، توجهات هذا الحكم باتجاه فرض حكم ديني ـ طائفي ، يغلق منافذ الحرية والديموقراطية والمساواة ، أقوى احتمالا من التوجهات الديموقراطية المقيدة بعدم التعارض مع ثوابت أحكام الإسلام ، وهي كثيرة وتكاد ومتعددة الأشكال والصور ، وهذا يعتبر نكسة خطيرة وتراجعا عن ال! مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان ، قياسا على ما كان عليه أول دستور للحكم الوطني قبل أكثر من ثمانين عاما ، والدساتير المؤقتة التي صيغت بعد سقوط الملكية ، خصوصا عندما تكون النزعة الطائفية على أشدها ، وتساندها مليشيات طائفية مسلحة ، خاضعة لقوى وأحزاب دينية ـ طائفية ، تأتمر بأمرها ، و تمارس الإرهاب والقتل كما هي عليه الحال في الوقت الحاضر .
الدستور نص على الحريات الديموقراطية ، وحق تشكيل منظمات المجتمع المدني ، وحق ممارستها يصونه الدستور للمواطن ، وفق الضوابط الإسلامية !، إلا إنه يطلق الحرية لوزير الدفاع الحالي ( ربما وفق هذه الضوابط )، بأن يهدد بالقضاء على الشيوعية ، على الرغم من أن الحزب الشيوعي العراقي له ممثلين في البرلمان ومشارك في الحكم بوزير ، لكنا لم نجد من يحاسب هذا الوزير أو يسائله عن تصريحه هذا والأسباب الموجبة له ، ويقول له : موقفك هذا ينتهك الدستور ومواده ، التي ضمنت حقوق المواطنين المدنية ، وحرية منظمات المجتمع المدني ، بما فيها الحزب الشيوعي العراقي..!.
الدستور ومؤسسات الدولة كلها ، بما فيها ، هيئة الرئاسة ، والمجلس النيابي والسلطة القضائية والتنفيذية و! مؤسسات المجتمع المدني كلها على المحك في هذا الموقف ، وهذا أول امتحان ل هذه المؤسسات لتبيان موقفها من هذه القضية المعادية لصلب الديموقراطية التي ضمنها الدستور ، التي ينتهكها الوزير ، عضو في اللجنة التنفيذية ..!

لا يصلح نظام حكم للعراق غير الحكم العلماني ، لتعدد دياناته وطوائفه ، فأن لم يكن الأمر كذلك ، فكل حديث عن ديموقراطية ومساواة المواطنين أمام القانون ، يعتبر باطلا . الدستور يقر حق أي مواطن ، بالمطلق ، رجلا كان أم امرأة ، دون تحديد لدينه أو معتقده أو قوميته ، أن يعتلي أعلى منصب في الدولة ، وفق حيازته على المؤهلات المطلوبة ، فهل يحق للمواطن الغير مسلم أو للمواطنة العراقية أن تتسنم منصب رئاسة الدولة ؟ فإن كان القول نظريا بنعم ، فهل ُيَجوُز الإسلام هذا ؟ لا شك أن الضوابط "الإسلامية " التي تقيد حقوق المواطن ، تعتبر انتهاكا لهذه الحقوق ، وعلى المدى البعيد تشكل هذه الضوابط بؤر احتقان في المجتمع ، تراكماتها تعود بنا القهقرى لظهور دكتاتوريات من نوع جديد .

العراق ، كالكثير من الدول العربية لها دساتير تشرع لضمان الحريات الخاصة والعامة في المجتمع ، وبعضها تدعي علمانية الدولة ، إلا أن الواقع هو غير ذلك ، فالعلمانية تتطلب فصل الدين عن الدو! لة ، فعلا لا إسما ، وعدم تدخل الدين في شؤون الدولة ، وهذا غير موجود ، فكثيرا ما يهرول الحكام إلى مرجعيات الدين ، طالبين فتاواهم ومباراكاتهم وإضفاء صفة الشرعية الدينية على انتهاكهم لحقوق مواطنيهم ، والتغاضي عن خرق مبادئ ومواد الدستور ، من أجل أن يستبدوا في مناصبهم والبقاء في كراسيهم لأطول قترة ممكنة ، فالتعاون قائم على قدم وساق بين مؤسسات الدين ومؤسسات الحكم وقواه الأمنية ، وكل منهم يحتاج الآخر لفرض سلطته وديمومة تأثيره ، لهذا لم نر تقدما وازدهارا لهذه المجتمعات ، على الرغم من وفرة الثروات الطبيعية ، وتواجد العقول والأيادي العاملة ، إلا إن الواقع يؤشر على قمع سياسي بالغ الخطورة ، وتضييق على الحريات العامة والخاصة ، أدى إلى تزايد هجرة هذه العقول والأيادي إلى خارج أوطانها ، ليس طلبا للرزق فقط ، بل طلبا للحرية وللأمان المفقود في هذه الدول ، واستغاثة من جور حكامها وظلم أنظمتها ، في القمع السياسي والفكري ، ولجم الصحافة وحرية التعبير ، والتهديد بالقتل للمفكرين وأصحاب العقول العلمية ، فالتضييق على مجمل حريات المجتمع المدني ، كلها أمور تساعد على تدهور الحالة الاجتماعية والمعاشية ! للمواطنين وتزيد من بؤس الحياة العامة ، الحاضنة الأساسية لقوى الإرهاب ، الساعية لتدمير المجتمعات ، عن طريق فرض أفكارها المشحونة بالتطرف الديني والطائفي البغيض ، والدولة بكل مؤسساتها الحاكمة ، لن تكون بمنجى عن هذا الواقع الذي ساهمت وتساهم في خلقه ، عن طريق الخلط بين مؤسسة الدين والسياسة ..!

* عضو اتحاد الكتاب العراقيين في السويد