|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأربعاء 8  / 1 / 2014                                د. عبدالحسين شعبان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

تركيا وبرزخ «الفساد»!

د. عبد الحسين شعبان *

مثله مثل غيره من القيادات العالمثالثية، وصف رجب طيب أردوغان حركة الاحتجاج الواسعة، على سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية (الإسلامي)، بأنها مؤامرة خارجية تستهدف تركيا وحكومتها المنتخبة ونهضتها، دون أن ينسى العامل الداخلي، والمقصود بذلك الصراعات الحادة مع قوى سياسية، بعضها حلفاؤه في الأمس من القوى الإسلامية، والأخرى وطنية ويسارية وليبرالية مناوئة للحكومة وسياساتها، بما فيها بعض هواجس وارتيابات القوات المسلحة التركية وبعض أجهزة الشرطة، من التوجهات الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، ولا سيّما بخصوص الدولة المدنية وطابعها العلماني، وهو الأساس الذي بُنيت عليه الدولة التركية الحديثة والمفهوم الأتاتوركي لقيامها منذ قرن من الزمان.

شهدت تركيا خلال العام 2013م حركتين احتجاجيتين كبيرتين، الأولى: كانت على خلفية إقامة مركز تجاري مكان حديقة عامة، وإحياء ثكنة عثمانية محلّها. كانت تلك الاحتجاجات موجة مفاجئة ضربت اتجاه أردوغان الصاعد، لذلك لم يدّخر وسعاً من اتهامها بشتى التهم، بما فيها نعتها بـ «لوبي الربا» وهو نقد شديد بثوب إسلامي.

أما الاحتجاجات الثانية: فتأتي على هامش اكتشاف فساد كبير لأشخاص مقرّبين منه ومن حكومته، وجزء منهم محسوبون على حزبه، وبضمنهم أبناء وزيري الداخلية عمر غولّر، والاقتصاد ظافر تشاغليان، ومسؤولين سياسيين واقتصاديين من كبار موظفي الدولة مثل مدير بنك الشعب «خلق» سليمان أصلان، ورجل الأعمال المعروف (الإيراني - الإذري) رضا زراب.

وبدلاً من التعاطي مع هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات بحذر وباتخاذ إجراءات سريعة للتحقيق، فقد أبدى أردوغان غطرسة وتعالياً، حين ندد بالمعارضة محاولاً السباحة في ذات البركة السابقة، لنقده لحركة الاحتجاج الأولى، محرّكاً مياهها على نحو شديد، لا سيّما حين وجّه اتهاماته إلى ذات الجهات التي وصفها بالتآمر الخارجي، ولكن هذه المرّة تحت عنوان مكافحة الفساد.

في المرّة الأولى، كان الاتهام الأساسي لحزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي وتنظيمات يسارية بعضها محظور، وقسم منها له خيط بجماعات علوية بتلميح إلى سورية، خصوصاً وقد كان من أشد المتحمسين للإطاحة به بعد تطوّر العلاقات بين البلدين ووصولها إلى تصفير للمشاكل على حد تعبيره، لكن الجديد في الأمر أن الاتهامات الجديدة شملت حلفاء أردوغان الذين وقفوا معه طيلة فترة حكمه، وهؤلاء هم جماعة الداعية الإسلامي التركي فتح الله غولان (المقيم في الولايات المتحدة – بنسلفانيا)، وهكذا تساوى في نقده جميع الأطراف، حتى أنه ظهر عارياً بلا حلفاء أو غطاء.

يعتبر حزب العدالة والتنمية جزءًا من التنظيم الدولي للاخوان المسلمين، الذي تأسس في مصر العام 1928، وقد حقق نجاحات كبيرة في المجالات المختلفة منذ وصوله إلى السلطة في العام 2002م، وقد نشأ إثر حركة الانشقاق من حزب الفضيلة الإسلامي (الجناح التقليدي في حركة الاخوان)، حيث انفصل عنه عام 2001م، كل من رجب طيّب أردوغان وعبدالله غول، لكنه لم يكن الجماعة الإسلامية لوحدها، وإن كان نفوذها كبيراً، فقد ظهرت تباينات واختلافات داخل التيار الإسلامي المعروف تاريخياً، بما فيهم جماعة فتح الله غولان، بسبب محاولات أردوغان الاستحواذ على المناصب والامتيازات.

وكان من بين نقاط الخلاف بين المجموعتين، هو موضوع القضية الكردية، والتفاوض مع عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، إضافة إلى الموقف من العدوان «الإسرائيلي» على غزة، والمساعدات الإنسانية الواجبة شرعاً لإغاثة المسلمين، ففي حين اندفع أردوغان في دعم أسطول الحرية ونجم عن تلك «المبادرة» قتل تسعة مواطنين أتراك من جانب الجيش «الإسرائيلي» الذي تصدّى للأسطول بعد تحذيره، في حين كان رد فعل الجانب المضاد لأردوغان أن تلك كانت مغامرة غير محسوبة النتائج، وكان يقتضي الأمر الحفاظ على سلامة المواطنين الأتراك، والحصول على موافقات مسبقة لأسطول الحرية.

لقد ساهم التحالف بين جماعة فتح الله غولان وبين أردوغان وحزب العدالة والتنمية، في ترسيخ قوة الحزب سياسياً وإعلامياً، داخلياً ودولياً، لا سيّما من خلال المنجزات التي حققها، واستطاع ترويض الجيش إلى حدود معينة دون المساس بطابع الدولة المدني العلماني، وذلك من خلال إقالة عدد من كبار الضباط وملاحقتهم وإتهامهم بحجة ضلوعهم بمحاولة انقلاب عسكرية، لكن انفضاض التحالف بين الجماعتين أضعف أردوغان، وعرّض إجراءات حكومته إلى انتقادات شديدة وحادّة، وكان الفساد أحد المعاول التي تحفر عميقاً في أرض سلطته، إلا أنه حاول تصوير الأمر باعتباره خطة خارجية للتآمر على تركيا، فلم يتوان من نقد فرنسيس ريتشارد دوني السفير الأمريكي في أنقرة، وسعيه للتدخل بالشؤون الداخلية في محاولة لغمز موقف غولان، التي ضجّت وسائل الإعلام القريبة من أردوغان، بوصفه «بالاسلامي المتأمرك».

من جهتها، استغلّت جماعة غولان الوثيقة الصلة بواشنطن، انكشاف برزخ الفساد، لتشن حملة ضد حكومة أردوغان، فطعنت في تخويلها الشرعي شعبياً وإسلامياً، لكن أردوغان أظهر تشبثاً بالسلطة لدرجة أنه أقال وزيرين وأكثر من 37 مدير شعبة أمنية، وأدار ظهره لكل ما يقال بشأن الفساد وتبييض العملة والعلاقة الخاصة مع إيران لكسر نظام العقوبات، وهو ما جرى الكشف عنه بضبط أموال كبيرة وسبائك ذهب في بيت مدير بنك الشعب «خلق»، وهنا كان الاختلاف واضحاً أيضاً في السياسة الخارجية للفريقين الإسلاميين، ففي حين تسعى حكومة اردوغان لتطبيع العلاقات وتوثيقها مع إيران، فإن جماعة غولان تفضّل توطيد العلاقات مع الغرب لقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي.

لقد بدأت حكومة أردوغان بعملية التطهير للمناصب الحساسة التابعة لجماعة غولان، سواءً في جهاز الشرطة أو الجيش، وقد وضع جهاز القضاء تحت المجهر أيضاً بهدف تطهيره في إطار مراجعة عامة تقتضي إحراز تأييد شامل لسياساته، ولعلّ ذلك أضعف حزب أردوغان على نحو كبير، فمن جهة ضعفت جبهته الداخلية، ومن جهة أخرى تعزّزت معارضة الجماعات الوطنية واليسارية والليبرالية، التي تعتبر معارضتها مبدئية له بحكم توجهات نظام الحكم الإسلامية، الأمر الذي سيعني تعرّض مواقعه، وخصوصاً بعد برزخ الفساد ومحاولات التستر على الفضيحة، للمزيد من التراجع.

إن مشكلة الفساد مثل غيرها، جزء من مشكلة إدارة الحكم والصراع على مراكز النفوذ داخل السلطة السياسية، وبقدر تهديدها لحزب أردوغان، فإنها في الوقت نفسه تهدّد أوغلان وجماعته المتهمة هي الأخرى بالفساد، وسيدوم الصراع ويتواصل، وحتى لو كانت جميع الأطراف ضعيفة، فإن حزب أردوغان يعتبر أقوى الضعفاء، ولهذا فإن نجاحه لاحقاً أو تغلّبه على هذه المشكلة، قد يزيد من تعنّت أردوغان وانفراده الذي قد يقود البلاد نحو المزيد من التشدّد، بعد أن بدت تركيا متسامحة ومنفتحة ومتصالحة مع القيم الليبرالية، وخصوصاً في مسائل الحريات وقوانين السوق وإنسانية الإنسان، وقد اعتبرت أوساط كثيرة في الغرب أن النموذج التركي للاسلام، هو الذي يمكن أن يكون البديل عن التشدّد والتعصّب والعنف والارهاب والجهاديين والتكفيريين.

حتى الآن، فإن المؤسسة العسكرية الشديدة الاعتزاز بنفسها وتاريخها، ولا سيّما في إحداث التغييرات عبر تدخلاتها المباشرة سواء في سنوات 1960م والعام 1971م، وانقلاب كنعان ايفرين في العام 1980م أو في التوجه اللاحق العام 1997م بعيدة مباشرة عن دائرة الصراع اليومي، وإنْ كانت تراقب بدقة كل ما يجري، وهو اتجاه قد ينتظره بعضهم بفارغ الصبر.


جريدة اليوم السعودية ، 7/1/2014
 

* كاتب ومفكر عراقي وأستاذ القانون الدولي وفلسفة اللاعنف في جامعة أونور - بيروت

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter