|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الخميس  30  / 10 / 2014                                د. عبدالحسين شعبان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

قضايا الشرق في بوزنان

د. عبد الحسين شعبان

يختصر هذا العنوان جهداً أكاديمياً استمر التحضير له بضعة شهور، في إحدى جامعات بولونيا التي فازت العام 2003 بكونها أفضل جامعة في بولونيا، وتحمل هذه الجامعة العريقة اسم الشاعر آدم ميتسكيفيتش أحد شعراء بولونيا الكبار، وتحتضنها مدينة بوزنان التي يبلغ عدد سكانها 630 ألف نسمة، ويزيد عدد الطلاب الذين يدرسون في هذه المدينة على 130 ألف طالب، أي أن نحو ربع سكان المدينة هم من الطلبة، وفيها نحو 3500 أستاذ جامعي و750 بدرجة بروفسور، وهي مدينة منشغلة بقضايا البيئة والثقافة أيضاً .

الشاعر البولوني آدم ميتسكيفيتش الذي ينتصب تمثاله في ساحة تطل عليها بنايات أساسية للجامعة يعتبر أحد أبرز الشعراء الرومانسيين في القرن التاسع عشر، حيث توفي في أسطنبول العام 1850 وترك أثراً أدبياً وشعرياً ريادياً، وهو ما دفع جهات أكاديمية وثقافية لإطلاق اسمه على إحدى الجامعات العريقة . وتتوزع على المدينة الجامعية عدد من الجامعات وأكاديميات للعلوم والموسيقى وكليات مهمة للاقتصاد والتاريخ، حيث كان أحد أبرز الاقتصاديين العالميين أوسكار لانكه البولوني المعروف بتوجهاته الاشتراكية، وقد احتلت كلية التاريخ وأقسامه المختلفة مبنى حزب العمال الاشتراكي البولوني أي الحزب الشيوعي الحاكم (سابقاً) الذي تخلّى عن السلطة في أواخر الثمانينات، إثر حركة احتجاج واسعة عُرفت باسم "نقابة تضامن" وقائدها ليخ فاليتسا منذ أوائل الثمانينات .

وقد منحت الجامعة شهادات فخرية شرفية للعديد من الشخصيات العالمية، وفي مقدمتهم البابا يوحنا بولس الثاني، الذي حاول محمد علي أغا (التركي الأصل) اغتياله في روما العام ،1981 وألقي القبض عليه وحكم عليه بالسجن المؤبد، وقضى أكثر من 20 عاماً فيه، ثم أطلق سراحه . وكان قد ادعى أنه المسيح، وأن عملية الاغتيال موحى لها، ورددّ اسم أحد الشخصيات البلغارية "أنتونوف"، ثم عاد وأنكر واعترف واختلف مع أقواله المتناقضة، ولكن حملة آيديولوجية شنتها العديد من الجهات الغربية في حينها ضد بلغاريا والتي استمرت بضعة أعوام، لكنها خفتت إثر التغييرات التي حصلت في بلغاريا والدول الاشتراكية السابقة أواخر الثمانينات .
وتمتاز بولونيا عموماً باهتماماتها الأكاديمية وبإطلالات متميزة على الشرق والاستشراق بشكل عام، وحتى خلال الحرب العالمية الثانية وقصف بولونيا واحتلالها من جانب الجيش النازي بعد معاهدة ميونيخ العام ،1938 فإن الدراسة الجامعية لم تنقطع فيها، وقد خرّجت جامعاتها في حينها نحو عشرة آلاف طالب، وكان الطلبة والأساتذة يعملون تحت الأرض . جدير بالذكر أن فرع الفلسفة واللاهوت في هذه الجامعة العريقة تأسس في العام 1916 ومنه انبثق في العام 2002 قسم الدراسات العربية- الإسلامية، ومعهد الشرقين الأدنى والأوسط، إضافة إلى إصدارات لكتب تعليمية بالعربية .

عقدت الجامعة خلال السنوات الماضية ثماني مؤتمرات حول فلسطين والعراق وقضايا الإسلام والأقليات والكرد، وأصدرت كتباً بهذه المؤتمرات احتوت على الدراسات والأبحاث التي تناولتها المؤتمرات المذكورة، وفيها إطلالات بحثية على انشغالات قديمة وجديدة واهتمامات أكاديمية وثقافية، إضافة إلى التواصل الإنساني والتفاعل الحضاري، وأولاً وقبل كل شيء البحث في المشتركات وتبادل التجارب والشغف بالمعرفة والإخلاص للعلم، وقد التقينا عدداً من الخبراء بالشؤون العربية ويتحدثون العربية بطلاقة .

المؤتمر التاسع تميّز بسعة الحضور العربي، ولاسيّما من العراق، حيث حضر باحثون وأساتذة وخبراء من جامعة بغداد وصلاح الدين (إربيل) ومتفرغون للبحث العلمي، إضافة إلى عدد كبير من الأساتذة والباحثين العراقيين والعرب الذين يعيشون في بولونيا ويعملون في جامعاتها المختلفة، حيث حضروا من كراكوف ووارسو وغيرها، إضافة إلى أساتذة يعيشون في الخارج أيضاً .

وعلى مدى يومين مزدحمين بالبحث والنقاش والحوار والجدل وحب المعرفة والرغبة في التواصل قدّم المشاركون 56 بحثاً، وتوزعوا على ثلاث قاعات، وكان افتتاح المؤتمر الذي حضره وتحدث فيه نائب رئيس الجامعة البروفسور إنجي ليتشيتسكي وعميدة كلية اللغات البروفسورة تيريزا توماشفيتش ورئيس معهد الدراسات الآسيوية البروفسور بيوتر موخوفسكي ورئيس قسم اللغة العربية البروفسور عدنان عباس، قد التأم المؤتمر بكل مهابة في صالة مجلس الشيوخ التابعة للجامعة والتي سبق أن احتضنت مهرجان الشعر العالمي .

شمل النقاش قضايا فلسطين والعدوان على غزة وموضوع الإرهاب الدولي ودلالات ظهور تنظيم "داعش" وتأثيراته في وحدة العراق وكذلك تأثيرات العنف في سوريا، إضافة إلى موضوع حقوق الإثنيات والأديان في العراق وسوريا والقدرة المأمولة لتجاوز الوضع الراهن، مع مخاوف من احتمالات التقسيم، وتناولت الأبحاث أيضاً موضوع العلاقات البولونية مع العالمين العربي والإسلامي، تاريخياً خلال الحقب السابقة، وما بعد التغيير الذي حصل فيها في العام ،1989 واتسم النقاش بالحيوية والجدّية والموضوعية والتنوّع .كما كشف عن الحاجة إلى المزيد من التبادل المعرفي والثقافي الذي لن يتحقق دون تعزيز العلاقات بين بولونيا وأوروبا عموماً، والعالم العربي والإسلامي .

للأسف الشديد لم تحضر أي من السفارات العربية باستثناء ممثلة عن السفارة العراقية للمشاركة أو لتغطية أعمال المؤتمر أو الاطلاع على مجرياته، علماً بأنه يهمّ جميع العرب والمسلمين، وقد علمت بأن الدعوة وجهت إلى الجميع، فبعضهم اعتذر والآخر لم يجب على مقتضيات تلبية الدعوة .

وقد تسنّى للمجموعة الأكاديمية العربية والكردية التي ضمت نخبة متميّزة من الباحثين أن أدارت حوارات مختلفة حول قضايا ذات اهتمام مشترك، إضافة إلى أنها عقدت عدّة اجتماعات مع أقسام مهمة في الجامعات من اللغات إلى العلوم السياسية إلى الآداب، إلى زيارة المكتبة العامة للجامعة، وذلك في محاولة لتعويض النقص في هذا المجال، سواء من جانب جامعة الدول العربية أو منظمة الإيسيسكو، وقد لاحظنا شحّ وجود الكتاب العربي أو باللغة العربية أو الترجمات من وإلى العربية، ولو أخذت على عاتقها الحكومات العربية أو جامعة الدول العربية أو الإيسيسكو إرسال عشرة كتب سنوياً، لأصبح لدى الجامعة فيض من المراجع والمصادر في مختلف الاختصاصات وهو اقتراح مفتوح للجهات الأكاديمية الرسمية بتبنيه واعتماده، بخصوص الجامعات الأوروبية والأمريكية والآسيوية وغيرها .

والأمر يحتاج إلى تعزيز علاقاتنا الأكاديمية مع الجامعات الأجنبية ذات السمعة التاريخية المتميّزة والإنجاز الفكري والثقافي المتعاظم، سواء بتبادل الأساتذة أو الطلبة أو الترجمات أو الاستفادة من بعض المناهج وغير ذلك، لاسيّما أن الأكاديميين يحتاجون إلى دعم رسمي وغير رسمي في مواجهة سيل الدعاية الضخم الذي تقوم به جهات معادية للعرب والمسلمين، خصوصاً أن الصورة التي يحاول هؤلاء تقديمها للعالم، لا تزال مشوشة في أفضل الأحوال، ناهيكم عن كونها مغرضة ومسيئة، ويتخلّلها اتهامات مسبقة بسبب قيام بعض الجماعات الإسلاموية بأعمال تتنافى مع الإسلام وقيمه السمحاء، ناهيكم عن تعارضها مع الجوهر الإنساني، وهي جزء من عمل دولي يتخذ من الإرهاب عنواناً .

آن الأوان لكي نضع قضايا الشرق في المكان الصحيح وأن نعمل بجميع الوسائل ومنها الحقل الأكاديمي، بما يخدم قيم السلام والتسامح ويعزز الحوار والتواصل، بهدف تعميق المشترك الإنساني، بما فيه مصلحة لبني البشر جميعاً بغض النظر عن دينهم وقوميتهم وجنسيتهم ولغتهم وجنسهم ولونهم وأصلهم الاجتماعي وغير ذلك .



صحيفة الخليج الاماراتية، الاربعاء، 29/10/2014



 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter