|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الخميس 27/9/ 2012                                 عبدالحسين شعبان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

بين قلم الأديب وحبر السياسة! (1)

عبد الحسين شعبان *

أشعر أنني محرجٌ ومرتبكٌ إزاء ما قيل بحقي من تقدير بما أستحقه أو لا أستحقه، وأقول أننا نجتمع في رحاب شخصيتين كبيرتين ومبدعتين، لنحيي ذكراهما ولنستعيد تقاليد الاحتفاء الرمزي بالمعرفة والجمال والتنوير والحرف والحق، خصوصاً والمبادرة تأتي من الشاعر والناقد المبدع السيد نوفل أبو رغيف وفي وزارة الثقافة ودار الشؤون الثقافية الرائدة.

لم يخطر ببالي أن أكون متحدّثاً في هذا الجمع الثقافي المتميّز الذي يضم نخبة من الأدباء والكتّاب والفنانين والإعلاميين والحضور الكريم.

اعتقدت أنني سأكون مستمعاً لنقد وتقريض وتقويم ومراجعة لكتابين يتم الاحتفاء بصدور طبعتهما الجديدة في بغداد:
الكتاب الأول عن شاعر العرب الأكبر الجواهري وهو بعنوان "جدل الشعر والحياة" والجواهري الذي صال وجال طيلة نحو قرن من الزمن، كان كلّ ما فيه أو يدلّ عليه مغضّن بالشعر والتناقض والتحدّي في هارموني عجيب أقرب إلى الاستثناء والفرادة. وقد ولد الجواهري قبل ولادة الدولة العراقية بعقدين من الزمان وكتب الشعر قبل كتابة دستورها الأول، ولا يمكن تدوين تاريخ القرن العشرين، ولاسيما فيما يتعلق بالأمر عراقياً وحتى عربياً دون العودة إلى شعر الجواهري، دليلاً وشاهداً على نحو ثمانية عقود من الإبداع والتنوير والكفاح.

أما الثاني فهو عن المثقف والسياسي سعد صالح وهو بعنوان " الوسطية والفرصة الضائعة"، فقد جمع سعد صالح الإدارة والقانون وملّحهما بالشعر، وكان خطيباً ذرب اللسان وكاتباً متميّزاً. وعندما أصبح في العام 1946 وزيراً للداخلية لـ 97 يوماً في وزارة توفيق السويدي، أطلق حرية الصحافة وبيّض السجون وأجاز خمسة أحزاب سياسية بينها حزبين يساريين هما حزب الشعب لمؤسسه عزيز شريف وحزب الإتحاد الوطني لمؤسسه عبد الفتاح ابراهيم وعضو قيادته العليا الجواهري، وحزب الاستقلال (القومي العربي) برئاسة الشيخ محمد مهدي كبّه والحزب الوطني الديمقراطي برئاسة كامل الجادرجي، وحزب الأحرار الذي ترأسه توفيق السويدي وكان سعد صالح نائباً له، ثم أصبح رئيسه بعد استقالة الوزارة.

ولعلّ ذلك كان جزءًا من مشروع سعد صالح المدني التنويري، فهو لم يكن معارضاً تقليدياً، فحسب، بل كان رجل دولة أيضاً، وعندما ينحاز للمعارضة لا ينسى موقعه كرجل دولة وعندما يكون في موقع المسؤولية لا ينسى موقع المعارضة،وتلك جدلية يتجاور فيها الاختلاف والتناقض.

الجواهري وسعد صالح كتبا بقلم الأديب وإنّ سال من يراعهما حبر السياسة وقد جمعتهما صداقة مديدة من موطن الصبا الأول في النجف إلى عالم فسيح يضجّ بالجديد ويتطلّع للتغيير ويرنو لتحقيق الحرية والعدالة.

في هذه الإضاءة السريعة التي هي من وحي المناسبة، وبهذه الأصبوحة الجميلة يشعر المرء بالكثير من المسؤولية الأخلاقية والأكاديمية، بل والإنسانية حين يتحدّث عن الإبداع والنقد، لا سيما إذا توخّى الموضوعية والمهنية، خصوصاً وأن وظيفة المثقف الأساسية هي النقد. وإنْ كان النقد في أزمة هي الأكثر دقة وحراجة وخطورة في هذه الأيام، لأنها تتراوح بين المجاملة والاجحاف وبين التأييد والتنديد، في حين أن ما نحتاج إليه هو التوازن والاعتدال والموضوعية، وأولاً وقبل كل شيء الانصاف، لا سيّما التحلّي بشروط المهنية والمعرفة وأصول النقد وقواعده.

ولعلّ مشروع القراءة النقدية، في المتن والهامش، الذي حاولنا تقديمه منذ عقدين من الزمن هو جزء من القراءة السسيوثقافية الفكرية الفلسفية لتاريخ المجتمع العراقي من خلال شخصيات إبداعية لها حضورها المائز.

ابتدأتُ هذه المحاولة بعدد من الأدباء بينهم وفي مقدمتهم المحتفى بهما وبالكتابين عنهما، وجمعتُ باقة من الأدباء والمثقفين مثل الروائي والصحافي أبو كاطع (شمران الياسري) والباحث التراثي هادي العلوي والشاعر أحمد الصافي النجفي والشاعر عبد الأمير الحصيري والشاعر السيد مصطفى جمال الدين والأديب والصحافي روفائيل بطي وشعراء شعبيين مثل عبد الحسين أبو شبع وعباس ناجي وغيرهم.

كما ضمّت هذه السلسلة مفكرين مثل حسين جميل والسيد محمد باقر الصدر، إضافة إلى أسماء سياسية لامعة، من العرب والكرد مثل عامر عبدالله وعبد الفتاح ابراهيم والجادرجي وفهد (يوسف سلمان يوسف) والبارزاني مصطفى وابراهيم أحمد وطالب شبيب وخالد علي الصالح. وقد شملت أسماء عربية مثل الروائي السوداني الطيب صالح والمثقف السعودي عبد العزيز التويجري والباحث والأديب الفلسطيني ناجي علّوش والفنانة السورية شيرين ميرزو وآخرين.

للاحتفاء دلالة مهمة، وهي أن البلد ليس كلّه مفخخات وقنابل وعنف وأناس يركضون إلى الموت بلا هدف، فمقابل ذلك هناك حياة ثقافية وإبداعية واستمرارية لروح المقاومة المدنية السلمية اللاعنفية، فتاريخنا المفعم بالحرارة الإنسانية والتمسك بأهداب الحرية ومواصلة التحدي مملوء بالعلماء والأدباء والمثقفين من سائر الاتجاهات والألوان، تعبيراً عن التعددية والتنوّع والتمايز، تلك التي طبعت المجتمع العراقي، وتلك عبرة من التاريخ ولمن يريد أن يعتبر، في الحاضر والمستقبل، حيث لا يمكن لأحد إلغاء الآخر أو إقصائه أو تهميشه.

الجواهري وسعد صالح ولدا في رحاب الحوزة العلمية ودرسا فيها وعرفا فيها التمرد الأول أيضاً، حيث الجدل وأسئلة الشك واليقين وفلسفة الاختلاف وحرّية البحث، وحاول كلاهما الانتصار على الذات، من خلال النقد لكل ما حولهما من ترهات وظلامية وخنوع وعادات وتقاليد بالية، وكانا يتطلّعان إلى الجديد، الواعد، برؤية عصرية تقدمية.
كان قلق الجواهري عميقاً وهو القائل:

عجيبٌ أمرك الرجراج لا جنفا وصددا
تضيق بعيشة رغدٍ وتهوى العيشة الرغدا
ولا تقوى مصامدة وتعشق كل من صمدا

لقد دلف الجواهري وصديقه سعد صالح في درب المدنية والعصرية والدفاع عن حقوق الإنسان، ولا سيّما في الدفاع عن الفقراء والمحرومين، فلم يركبا موجة أو يدعا الخدر يتسلل إلى ضميرهما، وبشغف ممزوج بالكبرياء، عاشا حياتهما واختطّا طريقهما في الكفاح عبر قلم الأديب وفي مداد السياسة.
تعاظم قلق سعد صالح حين اجتمع لديه الخاص بالعام وهو القائل في رثاء نفسه:
 
أبوارق الآمال والآلام لوحي لعلّك تكشفين ظلامي

الجواهري وسعد صالح رجلان يفيضان بالحزن والإبداع وروح المقاومة والعراق في هارموني منسجم بجوار أضداده وتناقضاته الجميلة وتحدياته التي لا تعرف السكون!وكأن الجواهري لا يعبّر عن نفسه حين يقول:

أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه أشطارُ


شكراً لكم ولحضوركم هذه الأصبوحة، وشكراً لمن رعى هذه الاحتفالية وهذا التكريم!
 

بغداد
13/9/2012



(1)
نص الكلمة التي ارتجلها الدكتور شعبان مفرّغة من شريط الكاسيت في الأصبوحة الاحتفالية بمناسبة صدور كتابيه عن الجواهري "جدل الشعر والحياة" طبعة ثالثة، وعن سعد صالح " الضوء والظل- الوسطية والفرصة الضائعة" طبعة ثانية وذلك بعد أن استمع الجمهور إلى قراءات نقدية قدّمها عدد من المفكرين والأدباء والنقاد، وأدار الأصبوحة الدكتور عقيل مهدي ورعاها وافتتحها المدير العام لدائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة الشاعر نوفل أبو رغيف.
 


* مفكر وأستاذ فلسفة اللاعنف في جامعة أونور - بيروت

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter