|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الجمعة 22/3/ 2013                                 عبدالحسين شعبان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

التغيير والتنوير

عبد الحسين شعبان *

ما حصل في العالم العربي من تغييرات خلال السنتين المنصرمتين لم يكن حدثاً عابراً أو نقراً في السطح، وإنما كان حفراً في العمق وانقلاباً في الصميم، حتى إن لم يكتمل، خصوصاً أن غبار المعارك ما زال كثيفاً وثقل الماضي قوياً .

لقد أدّى التغيير إلى إطاحة بعض الأنظمة وإسقاط أطروحات سادت لزمن غير قصير، ولم يكن الأمر مقتصراً على قناعات قطاعات واسعة من العرب والمسلمين وحدهم، بل شمل أوساطاً غير قليلة في الغرب والدول الصناعية المتقدمة، حتى بدت بعض المسلّمات أقرب إلى الأوهام .

لو قرأنا ما حصل من تغيير في بعض البلدان العربية برؤية الإعلامي، فسيكون شغلنا الشاغل هو وصف الحدث بتفاصيله ودقائقه ولحظاته، وحسب البير كامو، فالصحافي هو مؤرخ اللحظة . وإذا نظرنا إلى الحدث تاريخياً، فلا بدّ من سياقات للوقائع والأحداث من خلال مقارباتها السسيوثقافية ومقارناتها التاريخية بما سبقها وما لحقها من أحداث، وتلك لا تزال في بداياتها، ولم تكتمل بعد، وقد تكون لأول وهلة خادعة، والتاريخ مراوغ أو ماكر حسب هيغل .

أما إذا فحصنا التغيير حقوقياً، فسنكون معنيين بالإنسان وما وقع عليه من انتهاكات وتجاوزات في السابق والحاضر، والإنسان هو مقياس كل شيء حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس . لكن القراءة الحقوقية مثلها مثل غيرها تبقى غير كاملة، فلا بدّ من تطعيمها برؤية سسيولوجية وثقافية تاريخية، لكن تلك لا تتنبأ، بل تعطي أحكاماً لما حصل بعد تحليلها ودراستها، ولا سيما للوقائع والتفاصيل .

إذاً لا بد من القراءة الفكرية التنويرية لعملية التغيير بما لها وما عليها وما صاحبها وما رافقها من صعود ونزول وتعرّجات وانحناءات، ومن ثم أخذها بدلالاتها بما فيها مقارباتها التاريخية، خصوصاً بحلول اللحظة الثورية للتغيير عبر التراكم الطويل الأمد والتطور التدريجي بعوامله الموضوعية والذاتية، الداخلية والخارجية، لاسيما بانتقال الخوف من المحكومين إلى الحكام وفي ظل بيئة مشجعة وخصبة، وأقرب إلى كيمياء متفاعلة وجدليات عضوية متصلة ومتراكبة .

ولعل من أهم الحقائق التي جاءت بها حركة التغيير بغض النظر عما أفرزته من صراعات وتداعيات، هو أن قطار التغيير قد بدأ ولا يمكن وقفه ولكنه قد ينحرف عن طريقه أو يتأخر أو يواجه عراقيل، تعطّله أو تحول دون وصوله إلى محطته المنشودة في الوقت المناسب، خصوصاً أن قيادته ستظل تتجاذبها قوى مختلفة ومتصارعة بمصالح متضاربة ومتناقضة أحياناً .

وأكدت حقائق التغيير أن الشعارات المطلبية العامة إنْ لم يتم الاستجابة لها وتلبيتها بسرعة وبراعة، فستتحول إلى شعارات راديكالية، وهكذا انتقلت حركات الشباب من شعارات الحرية والكرامة ومكافحة الفساد، إلى الدعوة للاطاحة بالأنظمة وتغييرها، وأحياناً استخدمت العنف سواءً برد فعل أو لفرض التغيير، وهناك تجارب سبقت العالم العربي وهو ما حصل في أوروبا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية .

وبيّنت حركة التغيير أنها ليست رسماً بيانياً أو خريطة هندسية أنيقة، بل هي أحداث وتراكمات تفاعلية ديناميكية حتى إنْ كانت انطلاقاتها عفوية، كما أثبتت أن لكل حركة خصوصية ولا يمكن استنساخها أو تقليدها، ولا بدّ من مراعاة ظروفها المحلية مع الأخذ بنظر الاعتبار الجوانب المشتركة العالمية أو الاقليمية أو العربية، أي أن الخصوصية لا ينبغي أن تتعارض مع المشترك الإنساني الذي يمكن الاستفادة منها، مثلما لا ينبغي لها وبحجتها التحلل من المعايير الدولية والإنسانية المشتركة، كما أن المشتركات العامة لا ينبغي أن تتجاوز على الخصوصيات بحجة الشمولية والمعايير الكونية .

وعلى الرغم من انطلاق بعض الشعارات والأهداف الدينية، لكن حركات التغيير بشكل عام، وخصوصاً عند انطلاقتها كانت غير أيديولوجية ومدنية وساهم فيها المجتمع المدني مع ضعفه ومشكلاته على نحو مؤثر وبتدرجية متصاعدة . وقد استغلّت بعض القوى الدينية بدايات التغيير وسعت لوضع اليد عليه وحصد نتائجه، خصوصاً أنها الأكثر تنظيماً من غيرها وتتمتع بإمكانات مالية ولوجستية كبيرة قياساً للقوى الأخرى .

وكانت حركات التغيير وراء سقوط معادلة الأمن أو الحرية مثلما أكدت فشل أطروحة الحل الأمني أو العسكري أو الاقتصادي، دون البحث في حلول سياسية، وفي الوقت نفسه بيّنت دور الإعلام وثورة الاتصالات والمواصلات والعولمة بوجهها الإنساني وليس المتوحش في دعم وتعزيز حركة التغيير التي كان جوهرها العام لا عنفي، بل كان سلمياً ووسطياً واعتدالياً .

وإذا كان ثمة اشكالات ترافق كل حركة تغيير، لاسيما إذا استهدفت التنوير، فإن ثورات وانتفاضات ما سمّي بالربيع العربي طرحت على بساط البحث عدداً من الإشكاليات التي تحتاج إلى حوارات معمقة على صعيد القوى السياسية والمجتمعية والدينية والثقافية والفكرية، بما فيها جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات المهنية ولا سيما الحقوقية والأكاديمية، ومن هذه الإشكاليات أن الصراع الحالي هو بين الإسلاميين والعلمانيين وإذا كان الأمر صحيحاً، فإن ذلك من إفرازات كبت الحريات لسنوات طويلة، فضلاً عن ذلك فإن صراعاً بين الإسلاميين المعتدلين والسلفيين المتطرفين سيجد طريقه إلى الساحة السياسية، بل إنه بدأ بالفعل، وهو الأمر الذي أصبح مطروحاً في تونس ومصر وليبيا واليمن وقد يطول سوريا وغيرها .

ودفعت الفوضى التي اندلعت عقب التغيير أطروحة تقول إن وجود أنظمة تسلطية أفضل من الفوضى، وكانت الأنظمة السابقة، تضرب على هذا الوتر لعقود من الزمان بهدف الحيلولة دون توحيد الجهود لتغييرها وإقلاق الرأي العام بتصدّع الأمن وانتشار الفوضى الأمر الذي لا يريده الجميع، بل بصابون منه بالفزع .

وبالطبع فإن ما سيرافق أي تغيير هو انقلاب على نمطية وتراتبية وبيروقراطية قديمة وسائدة، الأمر الذي يحتاج إلى مرحلة انتقال قد تطول وقد تقصر لبناء تراتبية جديدة مختلفة، ويعتمد ذلك على درجة الوعي والحراك السياسي ودور القوى الجديدة في الإسراع بإعادة بناء الدولة والحفاظ على سلم وأمن وحياة المواطنين والمجتمع . وبلا أدنى شك فإن القوى المخلوعة أو المتضررة ستحاول وضع العصي في عجلة النظام الجديد لعرقلة مساره ولإثبات عدم جدارته، لاسيما في موضوع حفظ الأمن وحماية أرواح وممتلكات المواطنين واستعادة هيبة الدولة .

وهناك أطروحتان تشبّث بهما الغرب لسنوات غير قصيرة وربما كانتا وراء اتهام العرب والمسلمين بالارهاب، وهما تنطلقان من فرضية أن المنطقة العربية- الإسلامية ليست بحاجة إلى الديمقراطية أو أنها غير مؤهلة لها، فضلاً عن أنها مرتع للإرهاب، بل إن الدين الإسلامي يحضّ عليه . وتواصل هاتان الأطروحتان القول إن الديمقراطية بحاجة إلى ثقافة ووعي وهما غير متوفرين في العالم العربي والإسلامي، ماعدا حاجة هذا الأخير إلى التنمية، وكأن الديمقراطية ونبذ الإرهاب يتعارضان مع التنمية إن لم يكونا في صلب اهتماماتها الإنسانية الشاملة والمستديمة .

ثم هناك من يقول إن انطلاق حركة التغيير أدى وسيؤدي إلى تصدّع الهوّيات، خصوصاً بضعف الهوية الجامعة والوحدة الوطنية، وصعود الهوّيات الفرعية التي قد تؤدي إلى التفتيت والتقسيم، وذلك دون النظر إلى أن سبب تصدّع الهوّية الجامعة العامة هو عدم احترامها للهوّيات الفرعية، سواء كانت دينية أو إثنية أو لغوية أو سلالية، الأمر الذي استوجب تعزيز المواطنة والمساواة والحريات العامة والخاصة وتأكيد مبادئ المشاركة والعدالة، تلك التي تشكل أساساً لتعزيز الهوية والوحدة الوطنية .

لقد كانت مثل هذه الأطروحات وغيرها محلّ فحص وتدقيق ونقاش جاد ومسؤول في جامعة النهرين في بغداد وبدعوة من مركز حمورابي، وبحضور نخبة متميّزة من الأكاديميين وأساتذة الجامعة وطلبة الدراسات العليا، لاسيما أنها قد مسّت هذه الأطروحات وتفاعلت معها، التطورات الدستورية والسياسية بعد التغيير، فضلاً عن مستقبلها خصوصاً في ظل الاستقطاب السياسي الحاد والتجاذب الفئوي الشديد، بما فيه من توجّهات دينية وطائفية وإثنية .

إن حركة التغيير بحاجة إلى مرحلة انتقالية لاستعادة الفضاء العمومي والتنوّع الثقافي، وكان ابن خلدون أول من تحدث عن ثنائية الظلم والخراب والعدل والمساواة، وهو القائل المُلك بالجند، أي باستخدام القوة الذاتية، والجُند بالمال، أي بالقوة الاقتصادية، والمال بالخراج أي دولة ضرائب وقانون، والخراج بالعمارة أي بالتنمية، والعمارة بالعدل، أي أن العدل هو سياج المدينة، وهو ما سبق للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز أن خاطب به أحد ولاته بالقول: سوّر مدينتك بالعدل، فالعدل أفق التغيير وأساس التنوير .

 

صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 20/3/2013
 


* كاتب ومفكر عراقي وأستاذ القانون الدولي وفلسفة اللاعنف في جامعة أونور - بيروت

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter