|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الجمعة  20  / 3 / 2015                                د. عبدالحسين شعبان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مقاربات غراهام فولر القديمة - الجديدة

عبد الحسين شعبان

منذ أن قرأت التقرير الذي كتبه غراهام فولر والموسوم "هل سيبقى العراق موحّداً العام 2002؟" والذي صدر عن مؤسسة "راند" بعد غزو القوات العراقية للكويت وحرب قوات التحالف لتحريرها في العام ،1991 وأنا لا أهمل ما يقع بيدي من نصوص وتقارير يكتبها منذ العام ،1992 سواء كانت تخصّ العراق أو دول المنطقة، وذلك لبعض استشرافاتها وتقديراتها من جهة، ومن جهة أخرى حجم ما تتضمنه من معلومات وخطط يتم إمرارها أحياناً بصيغة أبحاث أو دراسات أو تقارير، يستشف منها الموقف شبه الرسمي للإدارة الأمريكية، وخصوصاً لموقف ورأي المخابرات المركزية الأمريكية، التي يُعد فولر قريباً منها .

فغراهام فولر كان الرئيس السابق لقسم البحوث والتخطيط في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، وقد شغل هذا المنصب لسنوات، وكذلك فهو دبلوماسي عمل نحو 20 عاماً في عدد من البلدان العربية والإسلامية، ما جعل الكثير من كبريات الصحف ومراكز الأبحاث والدراسات تتعامل مع تحليلاته بجدّية واهتمام، ومع بدء العام الجديد 2015 نشر مقاربات جديدة صاغها على شكل مقترحات موجهة إلى ال CIA وإلى البيت الأبيض، وهي مقاربات تتعلّق بالشرق الأوسط، ويمكن قراءتها كنص متكامل على مدونته الشخصية .

المقاربات الجديدة لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمقارباته وتحليلاته القديمة، الأمر الذي استوجب بحثها كجزء من كل متكامل لآرائه وأطروحاته، وأودّ البدء من استعادة السؤال المحوري الذي طرحه بعد العام ،1991 وما كتبه لاحقاً عشيّة الغزو الأمريكي للعراق "العام الأخير لنظام صدام حسين" ثم ما حصل فعلاً، حيث أطيح بنظام صدام حسين في العام ،2003 أي إن "توقعاته" كانت في محلّها، والأكثر من ذلك سيناريوهاته التي عرضها قبل الغزو والتي جاء دورها بعد حدوثه، حين اندفع العراق باتجاه "المثلث" الذي اشتغلت عليه الدوائر الاستخبارية والبحثية الأمريكية: الشيعة والسنّة والأكراد، وهو ما تجسّد في صيغة مجلس الحكم الانتقالي الذي أسسه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق 13 مايو/ أيار ،2003 ولا تزال هذه الصيغة نافذة بأشكال مختلفة .

إن تقدير فولر والعديد من الدوائر الغربية ينطلق من عدم وجود هوّية عراقية وإنْ وجدت فهي مصطنعة وملصقة صمغياً، ولذلك اقتضى الأمر تفكيكها وإعادة تركيبها، بحيث تتقدم الهوّيات الفرعية على حساب الدولة العراقية ذات المركزية الشديدة، ومثل هذا الحل حسب هذا التنظير سيصل إليه العراقيون إن آجلاً أو عاجلاً باعتباره "أحسن الحلول السيئة"، وعند ذاك سيكتفي الفرقاء بقبول التقسيم حتى وإنْ اتخذ في البداية مسمّيات متعددة وهو ما حاول جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي العام ،2007 العزف عليه بالترويج لإقامة ثلاثة كيانات، ووضع نقط حدودية بينها، وتخصيص 300 ألف جندي لتأمين الانتقال بينها بواسطة هوّيات هي أقرب إلى "جوازات سفر" أو هكذا ستكون بمرور الأيام .

وعلى الرغم من أن الاحتمالات كانت قائمة وتطلّ برأسها بين الحين والآخر، ويزداد التباعد أحياناً بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية، لكن هيمنة "داعش" على الموصل وتمدّدها باتجاه محافظتي صلاح الدين والأنبار، وعلى بعض أجزاء من محافظة ديالى وكركوك، إضافة إلى حزام بغداد، جعل المسألة تأخذ بُعداً آخر . ومع أنني أعتقد أن "داعش" ستهزم لا محال، لأسباب تتعلق بعدم قدرتها على الحياة ومخالفتها كل ما هو عصري ومدني وسلمي ولجوئها إلى العنف والإرهاب، فضلاً عن أن المحيط الذي تعيش فيه أو تحكمه فهو ضدها، وكذلك المحيط العربي والإسلامي بشكل عام، يضاف إلى ذلك أنها لا تستطيع أن تقيم علاقة مع أي دولة في العالم، لأنها مرفوضة من المجتمع الدولي الذي أعلن تحالفاً ضمّ نحو 40 دولة للقضاء عليها .

وإذا كانت أسباب انهيار "داعش" قائمة، لكن خطر ما بعد "داعش" سيكون من نوع آخر، وهو الأمر الذي بُذلت مساعٍ حثيثة للوصول إليه، ونعني به مشاريع تقسيم المنطقة وفقاً لبرنارد لويس الذي اقترح منذ العام ،1979 41 كياناً طائفياً ودينياً وإثنياً ومناطقياً للعالم العربي، وكان هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة للفترة الممتدة من 1973 لغاية 1977قبله قد قال: علينا خلق دويلة وراء كل بئر نفط في العالم العربي، وهو ما يلتقي مع مشروع إيغال ألون العام ،1982 بخصوص تقسيم العالم العربي، وخصوصاً بعد غزو لبنان واحتلال العاصمة بيروت .

وكان فولر قد طرح مشروع محاصصة طائفية بخصوص العراق، قبل احتلاله وذلك بقوله "من الضروري التوصّل إلى اتفاقيات مبدئية حول حقوق (الأقليات) وقبولها من جانب أغلب العراقيين قبل إجراء أي تغيير في النظام" ولعلّ ذلك ما تم التخطيط له وما حصل لاحقاً بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي باعتماد نظام الحصص، فخُصص 13 مقعداً لما سمّي بالشيعة و5 مقاعد لما دعوهم بالسنّة و5 مقاعد للكرد ومقعد واحد للتركمان ومقعد آخر للكلدوآشوريين، وكان "التناغم" الموعود لهذه العملية لاحقاً بتحديد المناصب العليا، فرئيس الوزراء للشيعة ورئيس الجمهورية للكرد ورئيس البرلمان للسنّة، وهكذا يتم تركيب الرؤوس الثلاثة للمثلث لكي يقف على قاعدته، وتلك هي الخريطة السياسية لفولر، التي تم اعتمادها لاحقاً بصيغة بول بريمر - خليل زاد - نيغروبونتي .

إن القصد من تسليط الضوء على آراء فولر وخلفياته، هو ربط الماضي بالحاضر، فقد كنّا على مدى ربع القرن الماضي تقريباً ونحن "نخضع" لمقاربات فولر وبعض تقديراته، وهو ما يستحق القراءة النقدية من دون أن تؤخذ تلك الآراء مسلمات لا نقاش فيها أو اختلافاً معها، لكنها تبقى جزءاً من الاحتمالات والتوقّعات، خصوصاً أنه هذه المرّة جاء على أوسع من العراق، والأمر الذي يحتاج إلى قراءاتها على نحو متّصل وليس كل مقاربة بمعزل عن الأخرى، وقد تعكس تلك المقاربات بعض التقديرات التي تدور في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية .

أولى مقاربات فولر الحالية أن "دولة داعش" صائرة إلى زوال في العراق والشام، والسبب ليس فعالية وقوة التحالف الدولي، بل لإنها غير قابلة للحياة كدولة، وتلك مسألة مهمة ونتفق بها معه .

ثانية المقاربات تعاظم دور إيران كعنصر فاعل في المنطقة، وعلى الرغم من تفاؤله بنجاح المفاوضات الإيرانية- الأمريكية، فإن التطبيع ضروري للنظام الإقليمي، ويعتبر أن حكومتي تركيا وإيران هما الحكومتان الحقيقيتان في المنطقة على الرغم من أخطائهما . وبقدر ما في الأمر من تحليل، فإنه رسالة إلى البلدين، وخصوصاً بتوسع النفوذ الإيراني، إضافة بما له علاقة بالمقاربة التي تليها بشأن تركيا .

وثالثة المقاربات تراجع مكانة وشعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسبب اتهامات بالفساد، إضافة إلى إصابته بجنون العظمة.

ورابعة المقاربات أن روسيا ستلعب دوراً رئيسياً في الترتيبات الدبلوماسية في الشرق الأوسط، لاسيّما في قضية الملف النووي الإيراني، وكذلك في المسألة السورية . ويعرض قضية انضمام أوكرانيا إلى حلف شمالي الأطلسي واستفزاز روسيا من منظور يختلف عن الإدارة الأمريكية، كما يثير سؤالاً ذا مغزى بعنوان، هل يمكن تخيّل معاهدة أمنية بين المكسيك والصين، خصوصاً إذا شملت تمركز الأسلحة والقوات الصينية على الأراضي المكسيكية؟

أما المقاربة الخامسة المثيرة، فتتعلق بعودة طالبان إلى الحكم كإحدى المفاجآت الأفغانية، ويدعو للتعامل مع طالبان لا على أساس كونها حركة إسلامية، بل باعتبارها تياراً قومياً يعبّر عن قبائل البشتون في أفغانستان، كما يدعو إلى مشاركة طالبان في الحكومة الجديدة، ويعتقد أن الاستقرار في أفغانستان وفي الباكستان يعتمد على هذه المقايضة . وتلك إحدى الرسائل المهمة التي تردّد الحديث عنها في السنتين الأخيرتين .

لا ينبغي إهمال آراء فولر، بل ينبغي أخذها على محمل الجد، لأنه كان قريباً من مؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة، لاسيّما في أجهزتها السرّية المخابراتية والبحثية والدبلوماسية، لكن ينبغي تفكيك شيفرتها وقراءتها باعتبارها رسائل موجهة لخطط محتملة .


صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء ، 18/3/2015

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter