|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 السبت  16  / 8 / 2014                                د. عبدالحسين شعبان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

بوتين وصورة ستالين

د. عبد الحسين شعبان

استعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صورة البطل ممثلة بجوزيف ستالين القائد الشيوعي الفولاذي، وذلك بعد التهامه شبه جزيرة القرم، وضمّها إلى الاتحاد الروسي. ولعلّ ذلك ما أعاد إلى الأذهان دور الاتحاد السوفييتي السابق الذي تأسس في العام 1922، وظلّ يتوسّع بانضمام جمهوريات وكيانات إليه، حتى غدا امبراطورية اشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية.

لم يكن بالإمكان تجاهل موسكو خلال التحالف ضد النازية والفاشية، وفيما بعد في الترتيبات الجيوسياسية التي تكرّست في مؤتمر يالطا العام 1943، استباقاً للنتائج وتوزيعاً لمناطق النفوذ، وتمثّل هذا الدور دبلوماسياً وقانونياً على المستوى الدولي، حين أصبح الاتحاد السوفييتي دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ولها حق الفيتو بموجب ميثاق الأمم المتحدة الذي أبرم العام 1945.
لكن الاتحاد السوفييتي بعد روسيا القيصرية لم يقيّض له الدخول إلى عالم الحداثة، كما دخلته أوروبا الغربية، بما فيه من عقلانية وعلمانية وديمقراطية، فقد ظلّ بعيداً عن اللعبة الديمقراطية وعن التداول السلمي للسلطة، وقدّمت الثورة البلشفية ما يعرف بالشرعية الثورية على الشرعية الدستورية وحكم القانون، اللذان تطوّرا وتراكما في الغرب، في حين ساد فيه نمط توتاليتاري، قلدته فيه أوروبا الشرقية وبعض دول العالم الثالث، وهو ما أوقعه في شرنقة لم يستطع الفكاك منها، واستمرت الحال على هذا المنوال، رغم محاولات التغيير والاصلاح منذ العام 1956 وما بعده على يد الزعيم الشيوعي نيكيتا خروشوف، لكنها بقت أقرب إلى نقر في السطح وليست حفراً في العمق، فقد استحكمت البيروقراطية في جميع مفاصل الدولة والحزب والمجتمع، وكانت بدرجة من القوة يمكنها كبح جماح أية محاولة للتغيير.

وقد سعت قيادة غورباتشوف الذي وصل إلى دست الحكم في العام 1985 إلى إطلاق مشروع تغيير شامل وواسع، تحت عنوان البيريسترويكا والغلاسنوست (إعادة البناء والشفافية) لكن تلك المحاولة أدّت إلى زعزعة أركان المنظومة السياسية والفكرية والاجتماعية للنظام السوفييتي، وقادت إلى انهياره، سواء ما حصل في الأطراف (والمقصود هنا قبيل وعقب انهيار جدار برلين العام 1989 وسقوط الأنظمة الاشتراكية الواحد تلو الآخر) أو في المركز حين أخذ الاتحاد السوفييتي بالتفكّك في العام 1991.

كان الانهيار المدوّي والصاخب ناعماً ومرّ بصمت وذهول كبيرين، ومن دون جيوش وقتال وضحايا كما هي عادة في الحروب والثورات والاحترابات، وإنْ كانت نتائج الحرب الاقتصادية والفكرية والنفسية أكثر خطورة وخبثاً أحياناً، لكن ما حصل لم يكن بالإمكان تلافيه بفعل وصول التجربة الاشتراكية إلى طريق مسدود، فضلاً عن حجم التحدّيات التي واجهتها، وقد حاولت قيادة غورباتشوف الشروع بعدد من الاصلاحات وإشاعة حرّية التعبير، لكنها لم تجد مناصاً في نهاية المطاف إلاّ الإقرار بعدم إمكانية استمرار الوضع، بسبب المأزق الاقتصادي وسباق التسلّح الذي دفعته إليها الولايات المتحدة، بحرب النجوم وتخصيص تريليوني دولار لذلك، فلم يكن بمقدور موسكو مجاراتها عليه. ولذلك كان الهروب إلى الأمام هو الطريق الذي لم تجد سواه بحكم سياسات الماضي وثقل قيوده، وكانت الأوضاع الداخلية مهيأة ، سواء داخل كل بلد اشتراكي من جهة، إضافة إلى أنها كانت " ناضجة" في الدولة الاشتراكية العظمى.

وخلال نحو عقدين من الزمان، ظلّت القيادة الروسية الجديدة، ولاسيّما الممثلة بفلاديمير بوتين تتحيّن الفرصة لاستعادة دور روسيا القيصري أو دور الاتحاد السوفييتي الشيوعي، ووجدت في التمثّل بالقيادة التاريخية الستالينية هوى في النفوس سعت إلى تحريكه على الصعيد السيكولوجي للشعب الروسي، فستالين حكم البلاد نحو ثلاثة عقود من الزمان 1924-1953، وظلّ الكثيرون مأخوذين بنستولوجيا صورة البطل التاريخي، التي حاول بوتين استحضارها. وهو يدرك بحكم موقعه السابق كمدير لـ KGB (جهاز المخابرات السوفييتي) تأثير ذلك نفسياً، سواء باستعراض القوة والزعامة الكاريزمية، وإن اقتضى الأمر استبدال الآيديولوجيا الشيوعية بآيديولوجية غيبية، فهو لا يهمّه أن يأخذ من كل طبق ما يريد حسب حاجته.

هكذا عمل بوتين وهو يسعى لاستعادة دور امبراطوري لروسيا استدراج التاريخ، بتحديد وظيفته على النحو الذي يريده ويخدم مصالحه، وذلك للتمدّد الجغرافي والنفوذ السياسي في مواجهة فترة الانكماش والتراجع التي شهدتها موسكو خلال السنوات الثلاثين الماضية.

وإذا كان انهيار الاتحاد السوفييتي أمراً غير مفاجئ، لكن شكل تدحرج النظام وتفككه كان أقرب إلى المفاجأة، فقد ظل طوال 70 عاماً يبدو أقرب إلى الجبروت والعظمة، حتى وإن كان يتآكل من الداخل ولكن على نحو غير منظور، فقد بلغت أزمته الصامتة قمتها منذ تمترس ستالين في الحكم، سواء بتطبيقات مشوّهة وتطور اقتصادي مرتبك واستيلاء على أراضي الفلاحين وإجبارهم على الانخراط في التعاونيات، إلى حقل العمل والعمّال الذي كان ينزف على حساب إنسانية الإنسان.

وإن تحقق نموٌّ وتطورٌ في مجالات عديدة، ومنها الصناعة العسكرية، لكنه قياساً بما حققه الغرب يعتبر متدنّياً، ناهيكم عن الأزمات التي تركت تأثيراتها على رفاهية المجتمع وتلبية حاجاته الأساسية، تلك التي كانت في البداية بفعل تدخّل عسكري من جانب 14 دولة للاطاحة بثورة اكتوبر، ومروراً بأخطاء رأسمالية الدولة، وفيما بعد بتكريس عبادة الفرد والقضاء على أي شكل من أشكال الرأي الآخر ناهيكم عن الخسائر الفادحة في الحرب العالمية الثانية وما تركته من نتائج على عموم البلاد، على الرغم من تضحيات الجيش والشعب السوفييتي، التي قادت لا إلى انتصارهما فحسب، بل إلى الانتصار العالمي على الفاشية والنازية.

لكنه من جهة أخرى كرّست الاستبداد التي اتخذ في البداية شكل استبداد سلطوي، أي وجود نظام شمولي يريد صهر الجميع في بوتقته، وعلى حد تعبير لينين دكتاتورية البروليتاريا التي تشمل الـ 9 بالعشرة ضد الـ1 بالعشرة، وهو الأمر الذي برّر المجازر التي ارتكبت في العام 1918، بزعم إن الدماء يمكن إزالتها لمجرد تحقيق منجزات لاحقة.

أما الشكل الثاني للاستبداد فقد كان الاستبداد التعبوي فلا بدّ من الانخراط في أتون الثورة ضد الأعداء الداخليين والخارجيين، وحيث الاتهامات كانت تكال جزافاً ودون حساب فقد أُرسل الملايين إلى معسكرات الاعتقال وإلى الموت، لأسباب تتعلق بالتآمر أو التقاعس أو خدمة لأهداف البرجوازية والعمل لحساب جهات خارجية.

ويمكن القول أن الاستبداد التنافسي الذي اعتمد شكل إبعاد وتنحيات كان يمثل المرحلة التي أوصلت غورباتشوف إلى دست الحكم بعد بريجينيف الذي أعقبه تشيرنينكو وأندروبوف وصولاً إلى غورباتشوف، وبعد انقلابات وقصف للبرلمان، استحكم بوريس يلتسين في الرئاسة ولم يكن فلاديمير بوتين سوى تلميذه النجيب.

كان الرهان على "الخيار الديمقراطي" الذي أصبح ضرورة لا اختياراً، بعد حكم استبداد معتّق وطويل الأمد، مع أن الذاكرة السوفيتية ظلّت تحتفظ بين حين وآخر بصورة ستالين، خصوصاً وأن كثيرين يدركون أن النموذج الغربي غير ممكن التطبيق في بلاد القياصرة والحكم البلشفي لأنه يحتاج إلى تدرّج وتراكم، مع مراعاة التاريخ الروسي والشخصية الروسية وعلم الاجتماع الروسي والنزعة التسلطية المتأصلة في جوانب الاستبداد المختلفة ومراحله المتعاقبة، التي تحتاج إلى فترة ليست بالقصيرة للتخلّص من آثارها.

ولعلّ ما أظهره بوتين اليوم سواءً في أوكرانيا أو عموم منطقة النفوذ الروسي السابقة بما فيها الأزمة في سوريا أو بالمحور الجديد مع الصين، سوى حنين إلى الصورة الستالينية المعهودة، بما فيها على مستوى الداخل أيضاً، وهو يعتقد أن الذاكرة الروسية أو الدولية، كفيلة بأن تستعيد تأثيرات الماضي حيثما أحسن استخدامها. وقد أظهرت استطلاعات الرأي التي تؤيد توجهات بوتين بأكثرية كبيرة، لكن صورة الرجلين مختلفة من حيث الغلظة والانغلاق، الذي امتاز بهما ستالين، في حين أن صورة بوتين اتسمت بالمظهر العصري، الحديث بارتداء أفخم الملابس وركوب أفره السيارات، وممارسة الرياضة والمصارعة والسباحة وقيادة الطائرات والعزف على الآلات الموسيقية، أي بعيداً عن صورة العنف والارهاب والتعطش للدماء وهي الصورة التي رافقت ستالين، لكن بوتين الذي يريد استعادة صورة ستالين يسعى لوضع يده على روسيا ولكن بقفاز من حرير يخفي تحته اليد الحديدية، لأنه يدرك أن الفارق بين الصورة الأصلية وصورته يتراوح بين 60-90 سنة.

بوتين يدرك أن روسيا في الألفية الثالثة (عشريتها الثانية) تحتاج إلى استعادة دورها التاريخي، حتى وإن كانت لا تزال منهكة واشنطن ليست بأحسن حال منها لكن وخصوصاً بعد احتلال العراق العام 2003 والخسائر المادية والمعنوية التي تعرّضت لها، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة التي ضربتها بالصميم، ولذلك فهو يسعى لإصلاحات اقتصادية واسعة باستخدام النفط والغاز ومحاولة القضاء على الفقر وانعاش طبقة وسطى، وهي أهداف معقولة يسعى للترويج لها مضيفاً بذلك نستولوجيا التاريخ والدور الروسي المنشود، وإذا كان بوتين يعرف أن التاريخ لا يعيد نفسه، فإنه يمارس ذلك بنوع من المكر والدهاء والمراوغة، وربما هو ما قصده الفيلسوف الألماني هيغل بقوله: إن التاريخ مراوغ.


 

صحيفة الخليج الإماراتية، الاربعاء 13/8/2014



 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter