|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الثلاثاء 11/12/ 2012                                 عبدالحسين شعبان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

كلمة الدكتور عبد الحسين شعبان في  بنغازي في حفل تأبين منصور الكيخيا
 

الحلم الفضي يعود إلى بنغازي

عبد الحسين شعبان *

أمس فقط عاد منصور الكيخيا إلى مدينته بنغازي. رجع كعادته حالماً ببيته وغرفة نومه. عاد منصور الكيخيا مكلّلاً بالورد ومحمولاً على الأكتاف بعد غياب قسري طويل. عاد مصحوباً بدعوات وهتافات صادقة وبريئة بالمجد والخلود، حيث تصرّف الناس بكل عفوية ومحبة إزاء هذا الرجل الشجاع والأمير الحالم الذي عرفوه في كل الأوقات جريئاً ومخلصاً ورصيناً وموضع ثقة باستمرار.

ازدحم الشارع البنغازي محيياً حضوره البهي ، وكم كان الناس يتمنّون أن يكون بينهم وفي مقدمتهم يوم اندلعت الثورة في هذه المدينة التاريخية المهمّشة، وهو الذي ظلّ يمنّي النفس بحكمة الضوء وانتصار الحلم على الكراهية وليالي الزمهرير السوداء. هكذا جاءت الشرارة وبعدها اندلع اللهيب، فهوى نظام الاستبداد والتسلّط والاستئثار والفردية.

وحده الحلم الجميل كان وراء هذه القدرة العجيبة التي امتلكها منصور الكيخيا، والشبيبة التي تطلّعت للضوء وعلى هدية كانت قادرة على مقارعة الطغاة. كان منصور الكيخيا حاملاً  لمشروع تنويري حضاري أساسه العقلانية والديمقراطية والمدنية ويعتمد الحوار والوسائل اللاعنفية سبيلاً للتغيير، لا سيما بنشر الثقافة الحقوقية السلمية التي تشجّع على احترام الرأي والرأي الآخر والتنوّع والتعددية.

كان منصور الكيخيا سياسياً من طراز فريد، فقد اختزن خبرة متراكمة ودراية ومعرفة وعلماً، مثلما عرف العمل المهني والحقوقي العربي والدولي، بخلفيته القانونية والدبلوماسية والإدارية. وكان مثقفاً عضوياً متميّزاً، عاش هموم شعبه وأمته، وتطلعاتهما وآمالهما، خصوصاً وقد جمع في شخصه على نحو منسجم ووثيق، بل في هارموني لا انفصال فيه، بين السياسية والثقافة، وبين الوطنية والإنسانية وبين المبدئية والمرونة وبين الصلابة والنعومة وبين الستراتيجية والتاكتيك، كل ذلك في إطار أخلاقي يسري في عروق حركته وتوجهاته بجميع مفاصلها، سواءً في عمله السياسي أو الدبلوماسي أو الحقوقي أو المهني أو الصداقي.

أدرك منصور الكيخيا أن مشروعه الحضاري يحتاج إلى تراكم وتطوّر طويل الأمد، لأن أهدافه هي تفكيك بُنية الاستبداد التي عصفت بالدولة والمجتمع، ولم يكن لديه أدنى شك أو أي وهم من ثقل الواقع الذي كان يهيمن على الحياة ويضفي قتامة وعتمة، أقرب إلى انسداد الآفاق، وبما يدعو لليأس أحياناً. وعلى الرغم من أجواء التشاؤم العامة، فقد كان الحلم حبله السري إلى المستقبل، بل أن جزءًا من عقله وتفكيره كانا يعيشان في المستقبل، ولأجل ذلك الحلم عاش وواصل  نضاله دون كلل أو ملل. وكان الإنسان حلمه واستثماره الحقيقي متمثلاً بقول الفيلسوف الإغريقي  بروتوغوراس " الإنسان مقياس كل شيء" ولأجله ينبغي تسخير كل شيء، لاسيما لرفاهه وسعادته وبالطبع لحريته وإنسانيته.

ومثل حلمه بنظام جديد وحريات ومؤسسات منتخبة، فإن إعلاء شأن الإنسان ورفع قدره كان هاجسه الأول، إيماناً منه بسمو حق الحياة وقيم الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة، الأساس في المواطنة الفاعلة التي كان يعتبرها حجر الزاوية للتقدّم والعدالة الاجتماعية.

لعلّ الحلم الأخير لمنصور الكيخيا قبل أن يرقد الرقاد الأبدي هو اجتماعنا هذا، الذي أراد أن يشاركنا فيه فقد دعانا بكل كرمه المعهود  إلى مدينته وبيته وغرفة نومه ليقول لنا:

الآن هو الآن

أمس قد كان

ليس هناك من شك !

وتلكم لعمري حكمة الضوء والحلم الفضّي!

 

بنغازي 3/12/2012

 


* كاتب ومفكر عراقي وأستاذ القانون الدولي وفلسفة اللاعنف في جامعة أونور - بيروت

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter