| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. حبيب بولس
drhbolus@yahoo.com

 

 

 

 

الأربعاء 29/4/ 2009

 

غطرسة المدافع وهديل الأذان

د. حبيب بولس

حين تكون مجاورا في مكان سكناك للمنصة الرئيسية في مدينة يهودية، خاصة ليلة الاحتفال بيوم استقلال الدولة، تصبح نهبا للهواجس وللقلق وللتفكير. ويصيبك كابوس رهيب يعذب النفس والجسد معا، وتشعر بأنك مهما تحملت وكابرت وصبرت، انك غريب وبعيد رغم تقارب الاماكن. ينتابك شعور قاس بانك مهما دربت نفسك وربيتها على قيم عليا ومثل سامية تنادي بالأخوّة وبالمحبة وبالتسامح وبالتعايش المشترك، يستشري النقيض عند المحتفلين. يصطرع في داخلك الجرح والواقع، تحاول ان تقبض على جرحك، تحاول ان تترفع وتتكتم على نكبتك، ولكن ما تسمعه في تلك الليلة يفتق الجرح وينكأه لينزف من جديد، ما تسمعه يجعل كل القيم تنهار، يجعلك تصل الى نتيجة حارقة جارحة تكاد تدفع بك الى اليأس.
تتعاظم عل نفسك وتتماسك وتكابر وتقول لعله امر طارئ او لعلها غفلة او سحابة صيف عن قريب تقشّع، ولكن ما تسمعه من خطابات واغان جماعية وقردية، وما تراه من استعراضات عسكرية، وما يطلق من أعيرة نارية ومفرقعات تحرق وجه السماء يجعلك تحس بالغطرسة القومية المنفرة، وبالاستعلاء القومي البغيض، وبنغمة النحن، أي نحن فقط الموجودون على هذه الكرة الارضية، ولا احد غيرنا، وكأن العالم غير موجود، او كأن الشعوب الاخرى اقل قيمة واهمية ومستوى، او لكأنها مغيّبة، تشعر بان استقلالهم شيء غريب عجيب يغاير استقلال باقي الشعوب، فهو لاهوتي، هبة ربانية، لا يمت الى الناسوت بصلة. وانت الذي تربيت على احترام الشعوب، كل الشعوب، واهرقت الكثير دفاعا عن حرياتها، ودفعت ثمنا لاستقلالها رغم بعدك المكاني عنها، ماذا ستحس ازاء كل هذا؟ وكيف ستكون حالتك النفسية في خضم الذي يجري، والذي تراه او تسمعه من مناظر وكلام ومشاهد تقطر عنصرية وتنز شوفينية وتكرس اليهودي شعبا مقدسا مختارا فيه نقاء العنصر وصفاء العرق. لا أخطاء له ولا آثام ولا كبائر او حتى صغائر.
ماذا ستحس وكيف ستشعر في تلك الليلة الاحتفالية؟ انك حتما ستصاب بما اصابني وستقع فريسة الحسد والحَيرة. الحسد لانك ككل فرد في هذه المعمورة تتوق لان يكون لك علم ونشيد وطني ودولة تفخر بها وتتغنى وتنشر فيها ما تؤمن به من مبادئ يسوسها عدل ومساواة، منفتحة على العالم اجمع، لا تفرق ولا تتعصب ولا تميز ولا تستعبد، ولا تستخف ولا تستعلي ولا تستضعف، ذلك لانك تربيت على الحرية وعلى انتزاع الاستقلال كحق، لا على استقلال على حساب الآخرين وحقوقهم المشروعة، او على استقلال يفخر باحتلال وباذلال وبافقار. ومثلما ينتابك الحسد تنتابك حيرة قاسية مؤلمة، ولماذا نحن دون شعوب الارض قاطبة تُكتب علينا هذه المعاناة؟ تتغور نفسك ويتبرعم في داخلك الف سؤال وسؤال احلاها مر، اين نحن؟ اين نحن من كل هذه التظاهرة؟ السنا مواطنين في هذه الدولة لنا حقوق وعلينا حقوق؟ لماذا لا يُعمل لنا حساب فنحن عدديا صرنا نشكل خُمس هذه الدولة ولنا مواطنتنا رغم كوننا اقلية.
نحن اصحاب هذه الارض أفلا تقيم لنا الدولة وزنا، فتسعى الى تغيير علمها ونشيدها القومي وسياستها القمعية التفريقية العرقية لتصير دولة كل اقلياتها كي تتيح لنا الخروج من هذا الكابوس والاندماج؟!
لماذا هذا التعامي؟ والى متى سنظل مغيّبين؟ اين شعبنا العربي اللاهث وراء هذه الدولة والممتد من المحيط الى المحيط؟ لماذا لا يسعى الى تحقيق الحق بدل الهرولة؟! ولكن رغم هذه الاسئلة الحارقة والجارحة في آن معا، يأتيك الجواب على حيرتك على مرارته وقسوته:
في ظل وضع كالمستشري اليوم، في ظل شعب عربي مستلب الارادة، مشرذم، مهيض الجناح ومشيأ، بسبب انظمة قمعية رجعية خائنة فاسدة تتحكم به، سيظل الوضع على حاله، وسيتفاقم الالم وسيتعاظم الجرح، وستصرخ الحقيقة: لا العلم علمنا ولا النشيد نشيدنا ولا شيء يجمعنا سوى الوجود الحتمي على ارض واحدة، هي وطننا الذي لا وطن لنا سواه.
ولاننا عقلانيون، سعينا ولا نزال الى بناء نسيج يجمع الى عيش مشترك خيوطه الاحترام والكرامة والمساواة، وتنازلنا من اجل ذلك عن الكثير، تنازلنا من اجل حياة مستقرة آمنة حرصا على اولادنا واحفادنا ومستقبل اجيالنا.
ولكن سعينا الحثيث على ما فيه من تنوّر وتفهم ومكابرة جُوبه بالرفض وبالاستخفاف وبالاستضعاف وبالسخرية "وويل الشجي من الخلي" حتى صار لهم افراحهم ولنا نكبتنا.
ومن هنا صرنا في كل احتفال بالاستقلال نتقوقع في محاراتنا ونستذكر نكبتنا ونكاد نصل حافة اليأس. فلا حامي لنا سوى نفوسنا وثباتنا وصمودنا وتحدينا فلا "يحك جلدك غير ظفرك" وتتعالى اصوات بيننا تجاوزت حافة اليأس الى هوته، ما لنا حام ٍ ولا أخ ولا أب فلنقبل بالواقع على علاّته ومرارته اذن، لنقبل بفتات موائدهم لنصبح جزءا منهم، ويتناسى هؤلاء انهم مهما حاولوا، ومهما استذلوا نفوسهم واوهموها، يتناسون انهم سيظلون شوكة حسما ناتئا ودملا يقيح ويقض مضاجعهم. حافة اليأس هذه هوة تفتح شدقيها منتظرة سقوطنا وهو المراد.
تصطرع في النفس المشاعر والاحاسيس، ويحتلنا القلق، ما المصير؟ ما المصير؟ وكيف الخروج من هذا المستنقع الآسن؟!
ولكثرة الهواجس تغفو على مضض وربما على حلم، ولكنك تصحو مع الخيوط الاولى للفجر، وما ان تأخذ رشفة من فنجان قهوتك العربية الاصيلة حتى يشق سكون الفجر صوت آخر مختلف، صوت له نكهته الخاصة، صوت شجاع لا تقوى عليه كل غطرستهم، صوت ينبثق راسخا واثقا بحرارة ويندفع محملا بألف معنى ومعنى، يعلن وجودنا، ويشهر تحدينا وصمودنا، ويؤكد على حضورنا وحضارتنا، ويلح على تراثنا ولغتنا وهويتنا، فنشعر بأنك تعرفه حق المعرفة، فبينك وبينه وشيجة لا تنقصم عراها. بينك وبينه معرفة قديمة قدم وجودك، صوت هو منك اليك، تتحسس معه حرارة الصلة ورابطة الهم. انه صوت المآذن المندفع من القرى المجاورة والذي لا يرهب عتمة ولا ليلا ولا ظلاما ولا بنادق ولا قنابل ولا مدافع، يندفع حارا وثابا غير هياب ولا خواف": الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، فيرد عليك هذا الصوت كرامتك ويشعرك بوجودك وباصرارك، وبحقك، "الله اكبر" صيحة تنطلق في عتمة الليل وتشق سكونه. صيحة اطلقها يوما "بلال الحبشي" في جو الجزيرة العربية يوم كانت الدعوة النبوية في مطلعها تقاسي اضطهاد المضطهدين وعنت المتحجرين.
فكانت صيحة فيها التحدي كما كانت نفخا في بوق النضال، انطلقت لتفرّق بين عهد مظلم لا بد زائل وعهد ستبزغ شمعه مهما تأخرت. "الله اكبر" صيحة اخرجت الناس من الظلمات الى النور، من الشك الى اليقين، من الكذب الى الحقيقة، من الدنس الى الطهارة، من الجهل الى الحِلم، من التفرقة الى الوحدة، من التشرذم الى الاتحاد، "الله اكبر" صيحة اخرجت البشرية من الكسل الى العمل، من الكراهية الى المحبة، من الانانية الى الخير العام، من العبودية الى الحرية، من الباطل الى الحق.
"الله اكبر" صيحة تروح تتأملها وتفكر بما اقترنت به، وبما تخفي وراءها. فتنهال عليك كلما ترددت معانيها السامية التي تقول: فليؤدب المرابون الجشعون وليضرب على ايدي المحتكرين النهابين وليدفع مكدسو الارباح ضريبة على ارباحهم، ولينظر الى خبز الشعب ، وليفسح مجال التنور والتقدم امام المرأة، وتقضي على كل ما ينخر الامة من سوس الجهل والشقاق، وليطلب العلم ولتشرق نجوم الحرية والدمقراطية. انها نفخة في بوق النضال معناها ايها المتلفف في اسمال التربص اخلعها وتعال قاتل وراء متاريس الحق في هذه الحرب بين الحق والظلم.
تسمع "الله اكبر" وتستذكر معانيها فتشعر بانك شوكة في حلوقهم عصية، فينقلب الشعور من ضَعف الى قوة، من احباط الى امل فتحس بأنك باق هنا، على ارضك وبين شعبك، متشبثا باسنانك بهم جميعا. "الله اكبر" صيحة تجعلك تحس بأنك باق هنا فان شاؤوا فليمدوا اليك الجسور وليلهثوا خلفك وان لم يشاؤوا فليشربوا البحر!
"الله اكبر الله اكبر"
ونحن على ميعاد مع شمس الحرية
والواحة الخضراء وعرس السنابل
وضجة الافراح والاضواء


 

free web counter