| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حكمت مهدي جبار

 

 

 

                                                                                    الثلاثاء 9/8/ 2011

 

قصة قصيرة

عندما ودعنا النخيل

حكمت مهدي جبار

تعاقبت أيام الزمن المظلل. وبدا كل يوم أكثر شحوبا من الأيام الماضية .. الوجوه فيه واجمة كما لو أنها ممرغة بالتراب.. أشياء غامضة تحوم حولها لتجعل العيون كثقوب في صناديق تخفي بداخلها اسرار الدنيا..

في لجة القلق تتململ النفوس .وتزفر .. ليخرج من الصدور هواء كأنه السنة نيران. فالموت في كل يوم يبعث برسائله المرعبة ..وعيد وتهديد وترويع..وما بين اشراقة شمس وأخرى . يتعالى عويل . لتشيع الناس قتيل . أو يثقب نبأ أختطاف أحد أبناء القرية قلب أمه وأبيه..

كان المقنعون يقبعون خلف النخيل . وخلف السدة الترابية .وتحت أكتاف الأنهار بوجوه ملثمة . لم يظهر من خلفها الا عيون تلتمع تشع أشتهاء للذبح أو تلذذا بالقتل. كانوا يتحركون خلف النخيل أجساما سود.. كل ما فيهم يبدو أسودا ..لباسهم . أقنعتهم . أحذيتهم. أسلحتهم .

ثمة ما يترجرج في بحيرة من الغموض تحت وطأة ثقيلة من العتمة على وجه القرية.كان الناس يلقون بخطواتها بتوجس وحذر. رواحا ومجيئا .والعيون تخطف ابصارها نحو بقايا اثار تحزن الأرواح وتعصر القلوب .فتقع الأنظار على آثار رماد لأنفجار وقع قبل أيام. ليترك جدران متهدمة . أو ذؤابات نخلات احترقت.أو بقايا الم وحسرة لحكاية اولئك الذين قتلوا في درب البساتين . أو الذين مزقتهم شظايا سيارة فخخت من مجهولين.. وآخرين خطفوا لتلقى جثثهم على قارعة طريق بعيد..ليكتفى أبناء القرية بالصبر..ويتجلدوا لتلك المحنة .

غير أن أمرا آخر قد حدث . زاد من جذوة النار في القلوب .ذلك الذي بدأت فيه بعض العوائل بالرحيل .بعد أن ملأ اولئك ارض القرية بمنشورات تجبر الناس الى مغادرة القرية .قصاصات من ورق فوق غصن شجرة . أو عند عتبات البيبان .

((لا مكان لكم هنا . أرحلوا فورا . والا فأنكم ستلاقون الموت))

فبدأت الصباحات والمساءات تحتفل بوداع حزين لعوائل القرية . تهاجر تحت ضوء الشمس وأخرى اختارت الليل ليكون ستارا للرحيل ..تطلع فيه اصوات لحركة عجلات كبيرة. لتغادر وسط بكاء يتأجج كما الجمر من لوعة الفراق..والوجوه حائرة تجتر تساؤلاتها تحت وطأة الصمت المعذب.

غادر (يوسف) ..ومعه أبناء عمومته. تبعه الأستاذ (قاسم).والحاج (عمر) وأبو (حسين) وعائلة أم (عبد الله) و(كاظم) و(عثمان) . ليتركوا بيوتهم خالية . الا من صدى حزين لبقايا مواء القطط ونباح الكلاب عند البيبان.وكأن خيطا من الشعور بالفراق تسلل الى تلك المخلوقات .

كان (عصام ) يهيم على وجهه... تأخذه أستغراقات بأطياف يرى فيها اشياء كثيرة.. يكتم بداخله ما لا يريد البوح به لزوجته ولصغاره . لم يجد فكاكا من الوساوس التي انهالت عليه كما المطر الغزير وهو يرى رحيل اصدقائه وجيرانه.وشعوره بالوحدة . حاول أن لا يكترث للأمر. بين هواجس أخذت تحيط به وحيرة أرقته ما بين الاف الأسئلة (( ترى . لماذا بعث لنا اولئك الخاتلون خلف اقنعتهم برسائل يدعوننا فيها الى مغادرة القرية؟ ثم ما الذي فعلناه كي نرحل ونترك بيوتنا وبيوت آبائنا وأجدادنا ؟ هل أكتشف اولئك بعد كل ذلك التاريخ أننا جئنا خطأ الى هذه الأرض ؟ أم أكتشف الزمان بعد حين أننا بلا جذور؟ أم أننا ابناء غير شرعيون لآبائنا ؟! أم كفرنا بالسماء ودنسنا نواميسها؟ أم لوثنا الأرض بالفساد؟!

كأن اولئك لم يكتفوا بتقطيع الأجساد . ولا بحز الرؤوس . ولا بتفجير المنازل . ولا بتهديم بيوت الله . ولا حرق البساتين . ولم يكتفوا حتى بتفجير انفسهم . فراحوا يجتثون الآخرين . ويقتلعوا جذورا تسبر اغوار ارض القرية منذ آلاف السنين..

لم يتوقف نباح الكلاب طول الليالي . وهي تجول وتصول مرة تنبح ومرة تنغر .. يغتصب الهلع لحظات الصمت ..فيقتل وداعة هدأته . ليتحول الى صمت كصمت الراقدين تحت تراب القبور..ليال موحشة بدت كما لو أنها أعوام من خوف ..ليال تزحف لحظاتها كما تزحف السلاحف ..الدنيا ليل طويل كأنه لم يرد أن ينقض ... لا يطلع فيها قمر ولا تبزغ من بعده شمس ..كل الأشياء سوداء ..الأشجار والجدران والبيبان والنوافذ والطرقات وواجهات البيوت ..كل تلك يقف وراءها رجال ملثمون كأنهم غربان ..يقفون كأخشاب مسندة لا يظهر منهم الا عيونهم المتراقصة في جوف الظلمة , تلتمع كعيون كلاب تتهيأ للأنقضاض على فريساتها عبر أيام موحشة ..

***********

أحيطت القرية بأفواج من اولئك الملثمين بملابسهم السوداء..ولم يعد بيد (عصام) شيء الا ان يمكث لائذا بصمت غريب . أطرقت اذنيه اصوات من خارج البيت . فقط اصوات ..لم يفقه منها شيئا سوى وقع اقدام تهرول بجنون . وجعجعة لأسلحة وقرقعات لصناديق محملة بأشياء ثقيلة .. تتخللها سحبات لترابيس بنادق وخرخشات أسلحة مختلفة. كأنها تتهيأ لأطلاق رصاص .. دس رأسه من فتحة ضيقة ما بين أطار الباب الحديدي ومقبضها الكبير . فرأى اسرابا من اجسام تتسلل عبر ازقة القرية الضيقة ..سمع اصواتهم ..تقدم خطوات وسط الظلمة ..لم يتمكن من تمييز الأشكال ألا ان ثمة تخمين قفز في ذاكرته بأنه سمع أصواتا كان قد الفها من قبل .كانت اذنه قد خبرت تمييز الأصوات منذ كان ضابط صف في الجيش وماهرا في مهنة الميدان. فكانت الأصوات بالنسبة له كافية لتحديد بعض هوياتهم..

(( الم يكن هذا صوت ذلك الذي كان يسرق البيوت في ليالي الشتاء ؟ ..نعم ...وهذا صوت ذلك المجرم الذي قتل الشاب حسين ؟! وذلك صوت (تنصت .....) نعم انه صوت ذلك الهارب من العدالة الذي قضى عمره من سجن لسجن . وذلك صوت الذي كان يرعى معنا الغنم مذ كنا صغارا ويخوفنا بوجهه المرعب عندما يمسك (القبرات) في ايام الحصاد ويشنقها بخيوط ثم يعلقها بعيدان (الطرفة) ..أما اولئك فهم الذين كانوا يشعلون الحرائق في الزروع ليستمتعوا بسعير النيران وهي تلتهم الحقول ..نعم ..لقد عرفتهم ..عجبا... من حولي وجوه أكاد اعرفها جميعا..

ازداد الما عندما سمع اصواتهم وهم يدعون ابناء القرية للرحيل في هذه الليلة .لم يكن مصدقا بأنه سوف يرحل ويغادر داره ..أرضه . التي نمت فيها جذوره .. لم يصدق ما يدور ..حتى اذا رمقته عيون اولئك المتخفين خلف لثاماتهم . عندئذ شعر بألم غريب ..عجيب)) ..

تيقن أن الأمر واقع لا محال.فبالأمس ارتحل أعز الأصدقاء . وهاجرت العوائل التي كانت أول من غرس فسائل النخيل . وأول من شق الأنهار . وأول من وضع (زهاميل الطين) ليبنوا أول البيوت.الحاج (أحمد) ومعه (محمد) و(علي) و(كاظم) . وصباح اليوم غادر (ابوعمر) ليتبعه (حجي حسن) و(عثمان) و(بيت أبو جاسم)..وما زاده الما رحيل صديقه (عادل) وزميله الفنان (عماد) ..

ركع على باحة الدار . كمن يؤدي الصلاة . فقبلها.عبقت رائحة التراب لتغزو انفه فتنتشي رئتيه... قبلها ..راح يمسح على سطوح الجدران كمن يؤدي زيارة الوداع . ثم انخرط في بكاء افرغ فيه شلالات حزن عنيف.. لم يكن له من بد الا ان يكتف بأخراج اغراض البيت ..ويخضع لساعات قذرة من انتظار لم تحمد عقباه. كانت زوجته كما لو أنها تكتم صرخة.صرخة تتوقف في حلقها . تعصرها . تخنقها خجلا أو أباء أو كبرياء . فتكظم تلك العبرات لتحتضن صغارها وهي تولول .

***********

اقترب موعد الصلاة . وثمة طقطقات تنبس الى سمعه يعقبها خرير ماء يندلق من اوعية وأباريق . تصحبه تعاويذ وبسملات وتهاليل ..يسعل الحاج (عبد الله) نافضا سجادته من ذرات تراب الليل ليفرشها على الأرض تعقبه عصبة من رجال فيصلون الصبح..كان ضياء الفجر ينهال على اعفاش البيوت المتناثرة لتبدو كأشكال للوحة تجريدية .

وسط عالم مظلل اضطربت فيه الأرواح وجفلت فيه القلوب.. سرح نظره الى زوجته فشعر بخيوط ناعمة تدغدغه ترطب ظمأه . ثم ارتمى بصره الى نخلة البيت المعمرة. كانت شامخة طافحة بالأنوثة وقد تدلت من بين سعفاتها عذوقها اليانعة كنهدي امرأة مكتنزة ..أستغرق في تأملات وتساؤلات:

((بيت الطفولة ..وأيناع الجذور ..

بيت الصبا والمراهقة اللذيذة ..

أعيش لحظات البيت . باحاته . ساحاته . فناءاته الرحبة . حيطانه . حجراته . بيبانه الخشبية المتصدعة ونوافذه الحديدية الصدئة التي تكسرت معظم زجاجاتها.

بيتنا .. بيت كل أشيائي وكياني ووجودي وتأريخي البعيد.

أغادره الآن الى مكان آخر ..

لم يكن يرى البيت وهو يغادره سقفا وجدرانا وأبواب وشبابيك . انما بدا له كرحم أمه مكانا للطمأنينة والأستقرار..فكان يتوجع كلما ابتعد عنه عندما تتقدم المركبة الطويلة امتارا فيشعر بلدغة الم تمزق مشيمته عن رحمه الكبير.

كان كل شيء يبتعد ويبدو صغيرا ليتلاشى . الا نخلته ...فكلما ابتعد كانت النخلة تتطاول تعلو فوق الأشياء. والبيت المهجور يكبر.

كان يتساءل:

هل سأجد بيتا يشبه بيتنا ؟

أو

نخلة تشبه نخلتنا ؟!))

 

 

free web counter