| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حكمت مهدي جبار

 

 

 

                                                                                    الأحد 7/8/ 2011

 

قصة قصيرة

فجر يوم ارمد

 حكمت مهدي جبار

(كانت اما رائعة, لكن من يعيد لها وجهها الضائع ؟) عبد الرحمن مجيد الربيعي - قاص عراقي

كان يوما كامدا بنهاره المظلل يمسح بضجره الوجوه تحت وطأة الترقب. حتى اذا حل الغروب ليهطل الليل على المدينة المنتظرة لمصيرها المجهول . يخيم عليها صمت يشوبه الذهول , وسكون لا يململه الا عواء الكلاب في دروبها المظلمة . أو صراخ أمرأة وضعت لينسل بكاء وليدها من نوافذ شبه مضيئة..

لم يبرح القلق وجوه الرجال , الذين سكنوا الشوارع ومكثوا فيها خلف أكياس مملوءة بالتراب . رجال ملثمون يرتدون اللباس العسكري ذو اللون الكاكي . وأخرون حاسي الرؤوس . يتناثر فوقهم الغبار والتراب.منهم من يقبض على بندقيته ومنهم من حملها بلا أهتمام تتدلى من ألأيدي كشيء مهان .

خرجت بأمي من البيت قاصدا المستشفى ,وهي تأن من وطأة وجع شديد انتابها في هذه الليلة .لتهجم عليها امراضها المزمنة . فلم تقوى على التنفس ولا الحركة.. ومع تعاظم الظلام الذي غزا الفضاءات المختنقة بسبب انطفاء معظم مصابيح الشوارع الذي تعودت عليه المدينة منذ سنين . كان قلقي شديدا على أمي هذه المرة . فهي التي تحملت الكثير من لسعات الأمراض , ولدغات الأوجاع عبر سنين الضيم التي جرعتها مع انهمال الدموع ونزف الجراح . كأني بها اشعر بالنهاية .

عقود من السنين كانت فيها أمي كعبة النساء . وملاذنا عند جوعنا وعطشنا . وينبوع الحنان الذي لم يجف . وحضننا ألآمن عند خوفنا وهلعنا. ومرد مظالمنا عند ما يظلمنا الآخرون..وخيمة تسع دلالنا ومشاكساتنا ومطالبنا وشكوانا ..أمي أم الدنيا .لم تسمح لها جيوش المرض التي جاءت من أماكن بعيدة أن تتلذذ بما تبقى من حياتها..

يلوح في الأفق حذر يغتصب هدوء الليل .. كنت امسك بيدها وهي تلقي بخطواتها نحو السرير.ما كادت أن تمسك حافة الفراش حتى طلبت مني أن ارفع يدي عنها لتلقي بنفسها عليه..تمكنت من تسوية الشرشف الأبيض .وتهيأت لوضع الوسادة تحت رأسها. مدت يديها المرتعشتين لتسحب اطراف الغطاء لتدثر نصف جسدها النحيل فرقدت تحت دثارها بسكون.

*****
تحت فحص الأجهزة وشارات خط نبضات القلب كان جسدها ممددا تحيط بها الأسلاك وكان الهدوء خيمة تهيمن على غرفة الأنعاش لم يعكر صمتها سوى تكتكات الساعات الجدارية ونقرات اقدام الأطباء والممرضات على بلاطات الأرض المصقولة. كانت التماعات خط سير النبضات من على شاشة التلفاز تبدو تدب بأنحناءات كما تدب الدود ة على زجاجة ناعمة..بينما راحت المصابيح تنشر أضوءها على سطوح جدران الرواق البيضاء.لتحيل الأشياء الى ما يشبه الأكفان المعدة للموتى.تحيط بها عطانة المعقمات والعقاقير والأدوية .ومن الركن القصي تصاعد روائح البول وخرير ماء دورات المياه..

سكنت أمي على سريرها . القيت بخطواتي اليها وأطرقت رأسي كالساجد لله في وضع الصلاة..كانت فوطتها تعج برائحة أسحرتني لم اشم مثلها رائحة..و(جرغدها) ألأسود يبث هيبة ووقار كعمامة سيد . ومع هذا السكون مابين الجدران التي يرقد تحتها المرضى. كانت المدينة تغط في هدوء مطبق . هدوء تنتظر فيه الكائانات والشوارع والأحياء والأزقة والبنايات العالية والواطئة كما ينتظر البحر هبوب اعصار ليستفز امواجه فيهيج ..

تململت أمي من تحت دثارها , وكأن شيئا يتلها بقوة . كان صدرها يهبط ويصعد بسرعة .ورأسها يرتفع من على الوسادة . ليبقى فمها مفتوحا كطير ظميء ينتظر قطرة ماء. انتفظت من مكاني مسرعا اليها.عندما طن صوت ناعم عميق انسل الى قلبي قبل أذني . نظرت الى التوقف المفاجيء لخط المنحنى التلفازي . شبكت رأسها بين يدي. لكنها كانت فاقدة لكل شيء. الا تلك الأرتعاشات التي تحولت الى تشنجات تيبست على اثارها كل اعضاء جسدها .أذهلني أمرها . ناديت الطبيب بصوت مضطرب. لم يسمعني أحد منهم في المرة ألأولى . حتى جاءت مجموعة مهرولة ليحيطوا بها بأهتمام . فكوا اسلاك جهاز الرجات الكهربائية . وراحوا يضغطون على صدرها لترتفع وتنخفظ بسرعة مثيرة صوت ارتطام جسدها بالسرير.. أوعز لي الطبيب مترجيا , أن أغادر المكان .. لم أكن أدري كيف سحبني العمال خارج الغرفة وأنا غارق في دموعي .فاقدا لأرادتي..

لم يسمح لي انشغالي بأمر أمي وهي تنازع الموت ان اسمع صخب الدنيا خارج اسيجة المستشفى . الا ان زعيق الرجال وصراخهم ووقع اقدامهم وهم يهرولون باتجاهات مجهولة اثار في فضول لأسأل :

- هل ضربت المدينة ؟. .

لم يجبني أحد لأعود اراقب ما آلت اليه مصيبتي . اقتربت من باب غرفة الانعاش. فأطرق سمعي صوز انتفاضات جسد امي بفعل الرجات الكهربائية المتواصلة امام صمت الاطباء وسكونهم .ثم يتوقف الجهاز ليهمس بعضهم الى بعض بلغة اجنبية لم اعرف منها سوى كلمة (أوكي) وعند ذاك انتابني موجة سرور.

خلت مع نفسي لتقلب ذاكرتي بعض صفحاتها وانا اقعي لصق الجدار . تمر من امامي عقود من السنين كانت فيها امي كعبة النساء. يزرنها في كل وقت لقضاء حاجة , أو أستشارة في أمر ما . رحت استرضع الايام لأتلذذ فيها . كيف كنا نلوذ بها عند جوعنا ..وعطشنا..وخوفنا ..وأحيانا حتى عند ما نضجرمن بعض الأشياء. فنظهر دلالنا عليها..هي ينبوع الحنان الذي لم يجف.. وحضننا الآمن عند خوفنا وهلعنا ومرد مظالمنا عندما نشعر بظلم الآخرين ..وخيمة تسع دلالنا ومشاكساتنا ومطالبنا وشكوانا.. أمي ام الدنيا لم تسمح لها جيوش المرض التي جاءت من اماكن بعيدة ان تتلذذ بما تبقى من حياتها.

في آخر ساعات الليل الذي طال امده كنت اداري سهري بهمهمات وتمتمات وتوسلات وأنا لم ابرح سرير أمي حتى تبين الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر.. كانت الدنيا تتصارع ..والكائنات ايقضتها ململمة الفجر وهو يتنفس ليوم جديد بيوتات المدينة الخانعة تحت سلطان الليل المرعب والدنيا بأنتظار القادم المجهول صمت كصمت القبور حتى ارتجت الأرض لتتصاعد السنة النيران يعقبها دوي انفجارات لم ينقطع كانت المستشفى ترتعش .لتتأرجح على اثارها الساعات .ولوحات المنماظر الطبيعية . والأعلانات الصحية . والأرشادات الطبية ..انطلق صوت آخر من آخر نقطة في الممر :
- بدأت الحرب.

بدت الغرف والرواقات والممرات . وكأنها دهاليز للوشوشة والهمسات تحت وطأة خوف تلبس ارواح الجميع. لم ينبس احد من الراقدين في غرفة الأنعاش ببنت شفة. الا ذلك الهدوء المعذب ما بين انين خافت وشهقات وزفرات من تحت الدثارات الهامدة . كنت انظر الى جسد امي وهو ممدد تحت غطاءه الخفيف وكنت مطمئنا لذلك النبض رغم تضاؤله ..الا ان سكونا كان قد استفزني عندما مددت يدي لأجس وريدها. فشعرت بالبرود .ولم تكن هناك حركة للدم ..استدعيت الطبيب فراح يفحص بسماعته اجزاء من جسمها .كرر الفحص ثم وضع يدا فوق يد ليدوس على صدرهامرات ومرات ..

كان الطبيب يبذل جهدا في اعادة نبضات قلبها . وكانت عينا امي معلقتان بعيني تهمسان بخفوت تعابير وجهها وحركة الشفتين في ظل ابتسامة ملائكية ..ثمة غيمات ظللت بريق عينيها وسكون في الجفون حتى خبت شعلة وجنتيها.

قطب الطبيب ما بين حاجبيه ونظر الي ليطرق رأسه هنيهة:

- نحن آسفون البقاء في حياتك

طوى الطبيب اوراق الملفة الطبية ..استمارات تحوي اسمها .وتاريخ ولادتها.. شكلها .اوصافه .عنوانها .اسم زوجها. تاريخها.. دفع التقارير ونتائج التحليل وقصاصالت صغيرة واغلفة ووصفات قديمة وقناني بلاستيكية ليدسها كلها في مظروف ابيض كتب عليه (اضبارة الوفيات) .بينما تعاظم القصف على المدينة ليرنوا الناس الى فجر يوم ارمد..
 

 

free web counter