| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حكمت مهدي جبار

 

 

 

السبت 26/5/ 2012                                                                                                   

 


ملاحظات حول دراسة تأريخ الفن العراقي القديم

حكمت مهدي جبار

تختلف الكتابات في تأريخ الفن القديم عن الكتابات في التأريخ العام .ومن المؤكد ان من يكتب في تخصص معين انما يكتب ليلخص ما تخصص به وما قدمه من بحوث ودراسات في مجاله الدراسي البحثي وما يتبعه من حصوله جراء ذلك على درجات علمية تؤهله لممارسة أختصاصه .وبالتالي تكون الكتابات هي أستخلاص مقتضب لتلك البحوث تعبر عن وجهة نظر الباحث والدارس من خلال (مقالات) قصيرة لا تخلو من فائدة ربما تفوق احيانا الفائدة من بحوث كاملة.

أن الكتابة في تأريخ الفن القديم تتطلب كما نرى شروطا تقترب كثيرا من شروط ومواصفات الكتابة عن الفن كالنقد والتحليل وألأستنتاج بل وحتى يتشابه أسلوب دارس تاريخ الفن أسلوب الفنان وبشتى الصور.رغم ان الغالب الأعم من المتخصصين في دراسة تأريخ الفن لم يجيدو ممارسة الفن فيما يخص الحرفة والمهنة الى جانب الموهبة.كأن يكون رساما أو نحاتا أو خزافا أو مصمما فالمتخصص في تاريخ الفن لاسيما الذي يمتلك مواصفات البحث التاريخي الفني القائم على الرؤية الفنية العميقة فأنه يختلف عن المتخصص في الفروع الأخرى من التأريخ,كاالتأريخ السياسي أو الأجتماعي أو الديني أو الأقتصادي وما شابه.مع ايماننا بأن دارس اي فرع من فروع التاريخ عليه ان يلم بالفروع الأخرى فضلا عن أعتقادنا بوحدة المعارف والعلوم الأنسانية وترابطها ووحدتها.

أن دارس (تاريخ الفن) عندما يتناول تأريخ حقبة فنية أو خصائص منجز ابداعي قديم كالعمارة والنحت والرسم والفخاريات وغيرها فأنه يتناولها جامعا بين الوعي الفني العميق لخصوصية الفن كأبداع وموهبة ووسيلة مهمة جدا من وسائل التعبير الأنساني زائدا الجانب التكنيكي وأستخدام الأدوات.

وأذا كان (التأريخ) كعلم يبحث في الوقائع والحوادث الماضية أي أخبار الأمم والشعوب والأفردا في الماضي.ودراسة ذلك الواقع وتفسيره في ضوء مبدأ التاريخية والتي تتطلب النظر في الأشياء والظواهر في ضوء الظروف التأريخية الملموسة لنشوئها وتطورها,وهو الوعاء(الزمكاني) للتجربة الأنسانية بمختلف احوال ومظاهر حياتها عبر مراحل يتصل بعضها بالبعض ألآخر لينقل لنا ثقافات الشعوب والأمم . فأن (الفن) هو التطبيق العملي (للتأريخ) اضافة لمفهومه الفلسفي العميق بأعتباره صورة مجسدة لمدركات وعواطف ومعاني ومواقف البشر من خلال فروعه في العمارة والنحت والرسم والفخاريات وألأختام الأسطوانية واللقى الطينية الأخرى .

فالفن على هذا الأساس هو المعبر الحقيقي عن التاريخ الأنساني ولسان حاله الرسمي. فلا يمكن معرفة حضارة شعب وأمة بالسرد التأريخي ونقل الأخبار شفاها وتحريرا فقط انما بالمنجز الأبداعي المادي والمعنوي عبر الفنون بأعتبارها ليس تمثيلا للواقع فقط انما عملية خلق لعناصر الحياة والمجتمع والطبيعة. و(تأريخ الفن) لديه نفس درجة العلمية في دراسة تطور الفنون .فيكشف عن الظروف والأسباب التي بموجبها انجزت الأبداعات الفنية عبر التاريخ ووجود الأساليب والأتجاهات والمذاهب لفنون ألأمم والشعوب.والتي تمثل اعظم وسيلة للتعبير عن هوية تلك الأمم وثقافاتها ومعارفها وعلومها في الدين والأقتصاد والسياسة والأدب والأجتماع وكل مظاهر الحياة ألأنسانية.وهذاالصنف من (التأريخ) رغم حداثته انما هو صنف يدرس التأريخ المرئي للوجه المشرق من الحياة.ووسيلته بالتأكيد هي (الفنون) بأعتبارها أهم وسيلة للتعبير عن أحداث ووقائع حياة الأنسان عبر العصور.وتأسيسا على ذلك فأن دراسة (تأريخ الفن العراقي القديم) انما هي دراسة لجوهر تأريخه العام في المجتمع والسياسة والدين .اذا ما اعتبرنا ان (الفن) هو الهوية الوطنية لتأريخه العام.فكيف يمكن أن يدرس المتخصص بـ (تاريخ الفن) عملا فنيا مالم يدرس الأحوال السياسية والأجتماعية وألأقتصادية التي انجز فيها ذلك العمل الفني؟لذلك فأن أي منجز أبداعي رافديني قد ولد في سياقات تأريخية انعكست على روحية العمل شكلا ومضمونا.

لقد تميزت (الفنون الرافدينية) بأرتباطها الوثيق بالتحولات التأريخية ,تلك التي اعطت صفة الحيوية لحضارة العراق.كونها تحولات وتقلبات عنيفة وقوية سواء كان منها الطبيعي المتمثل بالكوارث والظواهر المرعبة أو السياسي المتمثل بالحروب الداخلية أو الأحتلالات الأجنبية فضلا عن الفكر الديني ذو السمات الخاصة جدا.وأنسحب ذلك على ألأساليب الفنية التشكيلية في العمارة والنحت والأختام الأسطوانية والجداريات وغيرها.حيث تتأثر بالظروف المحيطة ولكنها تبقى محافظة على محليتها ووطنيتها فعندما تمر البلاد بمحنة أو أحتلال أو نزاعات معينة ترى أن الأساليب تتغير وفقا لمتطلبات الأحوال .فألأسلوب (السومري) ذو السمة الدينية رغم طول فترته تغير بعد الوجود (الأكدي) وحضوره الفاعل وفقا للتمرحل التأريخي الكبير.فأنتقل الفن من روحيته الدينية الملتزمة الى الرؤية الواقعية والموضوعية للواقع وللسلطة والحكم. وألأسلوب (البابلي) الأنيق والذي تميز بالتعامل مع السطوح والجدران والقصور أضيفت اليه تعبيرية وعنف الرؤية التشكيلية (الآشورية).

أن دراسة (تأريخ الفن العراقي القديم) تستوجب معرفة طبيعة الشعب وكل قوم عاش في الفترة المراد دراسة منجزاتها الفنية والأبداعية. وذلك يعني دراسة التاريخ العام .فالكلام عن (الفن السومري) يتطلب معرفة بنمط حياة الشعب (السومري) ونوعية قيمه (الجمالية)وكذلك مع الفن الأكدي والبابلي والآشوري حتى يتمكن الدارس على فهم اساليبهم التعبيرية التي استخدموها في فنونهم ولاسيما (التشكيلية) منها .فتأريخ (السومريين) يقول انهم جاؤا من شمال ارض الرافدين .وأن المنطقة الشمالية تمتاز بكثرة الأمطار مما انعكس ذلك على فنونهم وثقافتهم وحتى أديانهم ,فتولد لدى (السومريين) فكرة النماء والتكاثر والتي سميت بفكرة (الخصوبة).ولكن كيف عرفنا ذلك؟ بالتأكيد عرفناه من خلال وسائلهم التعبيرية الفنية التشكيلية لاسيما النحت المتمثل بكثرة التماثيل الصغيرة المشهورة بتماثيل (الآلهة الأم) التي ترمز للعطاء والخصب.

أما(ألأكديون) الذين هم أصلا اقوام عربية جاؤا من جزيرة العرب فقد عاشوا في فترة تاريخية بعد (السومريين) كانوا امتدادا لحضارة (سومر) بل هم تلاميذ للفن التشكيلي السومري من نحت مجسم وبارز وفخاريات ,غير انهم ابتعدوا عن قليلا عن تجريدات (الفنان السومري) ومسحته التعبدية نحو الواقعية .فضلا عن أن فكرة الخصوبة في المنجز التشكيلي لديهم لم تكن ذات أهمية .

أن التلاقحات التأريخية الوطنية على أرض الرافدين التي تمثلت بتمازج الفن السومري بالأكدي ترك آثار على الخطاب التشكيلي بشكل عام.ومن امتزاج (التجريدية السومرية) بـ (الواقعية الأكدية) وبعد افول (اكد) اختلط التجريد بالواقع بأختلاط المراحل التأريخية مما سبب ذلك ولادة اسلوب فني جديد شبهه الأستاذ (فوزي رشيد) بالماء الذي لايمكن رؤية مكوناته الكيميائية الحقيقية أوكسجين وهيدروجين ولكننا نراه مقتنعين بأنه (ماءً).

أن تداخل المراحل التأريخية العراقية في تطور الفنون لم يؤثر رغم اختلاف المكونات الأساسية على جوهر (الفن العراقي) وأن دراسة تأريخ الفن العراقي القديم انما هي دراسة حيوية حضارة العراق واصالتها وديمومتها عبر تعاقب الأزمان.
 

1- قراءات في مقالات أ د زهير صاحب
2- مجلة فنون عربية – العدد الأول – 1981 – بغداد – مقالة – فوزي رشيد
3- حضارة بلاد وادي الرافدين – الفنون والعمارة – ص 288 – مجموعة من المؤرخين العراقيين
4- هنا بدأ التأريخ – الموسوعة الصغيرة – 77 - س.ن.كريمر – ترجمة – ناجية المرياني
5- مبدأ التأ ريخية – المعجم الروسي الفلسفي المختصر- موسكو – كتاب مستنسخ – 1986 – ترجمة توفيق سلوم ..
6- مفاهيم في الفلسفة والأجتماع – أحمد خورشيد – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 1990.

 

 

free web counter