| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حكمت مهدي جبار

 

 

 

                                                                                    الخميس 25/8/ 2011

 

قصص قصيرة

حكمت مهدي جبار

سيمفونية
البياض يشع بهاءً ..ينبلج أمامه افق خال من أي شيء.وفي خياله تعتلج لوعة. سحبة واحدة من سيكارة تحول فمه الى كوة ملغومة بدخان , سرعان ما يدفعها لينقذف الدخان نافوريا ثم يتلاشى في فضاء أخرس .

جلسة واحدة على كرسيه القديم لم يتمكن منها أن يغوص في بياض قماشة لوحته وهو يلقي بنظراته ليحاصر ذلك الوجه. يدلف نحو النافذة بأتجاه الشمس ليفرك جبهته يعقبها بمسحة على رأسه بعثرت خصلات شعره..ثم يهرع متوثبا ليعصر انابيب الأصباغ على لوحته الخشبية واحداً تلو الآخر . عصارة من اللون الأحمر . وأخرى من اللون ألأصفر.وبجوارها الزرقاء تتلوها الخضراء ليتكون خط منحن كما لو أنه قوس قزح ..

كان وجهها كحفنة من تراب . ترطبه زخة مطر ليكون كتلة طين بسمرة ريفية . وعلى الرأس شعر يتكوم بخصل مائلة كما السنابل .والجبهة غراء يحيط بها حياء العذراوات. وحاجبين كسعفتي نخلة يضللان عينين عسليتين يصطجان ببريق شهي.. بينما تشع الوجنتين برغبة قروية .يتوسطهما انف ناعم . وشفتين كثغر أمرأة أسطورية.

عاد ليجلس على كرسيه العتيق ويغمس الفرشاة بكمية من صبغ . وراح يلامس سطح اللوحة العذراء ببياضها النقي. عين على تضاريس وجهها , وعين على القماشة , ليبدأ خطوطا كانت تنسل من شغاف قلبه ومن صبغة دمه المتدفق بقلق..يتحول بياض سطح اللوحة الى كتل وظلال تنتشي فيها روحه وهو يحاكي اجزاء وجهها بأنشغال منقطع النظير..تتراقص الفرشاة بين انامله , على وقع سيمفونية الألوان التي أغرقت سمعه وبصره في خضم مشاعر تنساب في اعماق نفسه..فراح يلج جمالا يستلذه لوحده . محمولا على الحان تتحدر من قوة غير منظورة تتلاقفه وتشد كينونته اليها..

كانت ضربات فرشاته وهو يصنع وجها آخر لحبيبته كنشوة أمل طاغ يجذبه في تناغم اثير .ودفقات متفجرة من موسيقى تسترسل كالهمس..حتى صار الوجه مملكة عشق تاه في ثناياه . .فتضج الألوان والألحان وتصخب اللوحة بحياة تطفح من بين أطاراتها تحت وطأة صمته وسكون حبيبته على المنصة..صارت أصابعه كما الأنامل تتراقص بينها الفرشاة بضربات لونية سريعة مرة وبطيئة مرة..

بدأت ملامحها تتضح . وبدى وجهها يعزف فوق قماشة اللوحة سيمفونية لونية لوجه ملائكي بهي يبث رغم سمرته ضوءا جذلا تلتذ اليه روحه العاشقة.

منحته ابتسامة .. كان حبه للوحته عشقا لحبيبته ..وكان في فرحه أكثر من أنسان...كان الها للفرح الأنساني الكبير..


تعميد
اتمت المساجد توا من صلاة الصبح, وتبين الخيط الأبيض من الخيط ألأسود من الفجر, ليندلق النور من افق السماء الشرقي اللامتناهي..تنفس الصبح . وأنهال ضياء فوق سطوح البيوتات وعلى سعفات النخيل وأوراق التوت والكالبتوز, وزهرات تزهو بألوانها على حافات اسيجة البيوت .

كان الصمت مطبقا في فضاء القرية , والسكون يرسم علاماته على الأشياء.الا اسراب العصافيرالتي راحت تحتفل بيوم جديد ..كان النعاس لم يزل متعلقا في الجفون..وتسابيح الشيوخ والعجائز لم تزل تنبس من بين الشفاه الثقيلة. وثمة مأمآت لحملان (أبو عبد الله)تطفر من زرائبها , وثغاءات لنعاج (هوبي الراعي) ونهيق الحمار الذي ربطه (حجي جاسم) منذ الليلة الفائتة.أما خوار بقرة الحاجة (ملكة) فراح صداه يتردد مابين جدران الطين ..

في الصبح تصحو الحياة ليلتذ الناس بيوم جديد . ويتعوذوا من رجس الشيطان..غير أن صوتا انطلق كصرخة لكائن متوحش راح يبدد بهاء الصبح . ليتناثر الحديد المشتعل بشظاياه كسيوف حادة . لتفر العصافير, ويتوقف هديل الحمامات , ولتهرب البلابل بتغريداتها نحو المجهول...فزت العوائل المتوثبة للذهاب للعمل في البساتين والزروع , على صوت الأنفجار.وتعالى الصراخ ليتحول الى عويل ....

تحت ضوء الشمس تدفقت خيوط الدم .. وتعمدت الأرض بدماء حارة راحت ترطب ترابها ..كانت الشظايا قد تطايرت لتذبح براءة الصبيان ..وتطفيء عيونهم ..تحول الصباح الى فضاء ارمد , وتصاعد الدخان بخيوطه المجنونة ليظلل سطوع الشمس..أرتمى محمد على تلة تراب..وقذف بكاظم على أخدود ساقية قديمة جف ماؤها..وجسد علي صار اشلاء على جذع نخلة ..وتطايرت اذرع حجي جاسم فوق سياج بيته..بينما كان عمر يغرق بدمائه ...وسجدت ام حسن على ابنها الشهيد وهي تنوء بحملها, تحيط رأسه بيديها لتشمه ثم تضعه في حضنها, وهي تنعى شبابه بحرقة الفراق..لتمد الحاجة خديجة يديها المتعبتين تغطي بطن أم حسن بعباءتها:

- انهضي ..أنهضي يا ام حسن ..توكلي بالله ..وأحفظي الذي في بطنك..

في عرس الموت خشعت الشمس . وبدت كما لو أنها تعتذر من زهوها على هذا ألأديم الحزين..والسماء تتسع لتحلق في مدياتها لوعة الأمهات.

2006


الجمل
في خطواته الوئيدة .. يرسم خطوطا وهو يلحقها واحدة بأخرى فوق دروب ضاجة بالمهرولين والراكضين والماشين بتثاقل والمتعكزين على رجل ثالثة والقافزين والراقصين والماشين الفاقدين لوعيهم والماشين الحالمين والماشين الثملين والدابين والزاحفين ..كانت خطواته هادئة .. تتعاقب أقدامه فوق مساحات من أرصفة تكسرت احجارها أو غطتها مياه آسنة تحمل جسده المتهادى بصمت وقور. وعلى كاهله رأس لم تفرغ جمجمته من فوضى أعتملت منذ سنين ...لم يبرح محياها قناع الأبتسامة الذي ظل طيلة سني عمره يصارع حزنا اعتقله منذ أن بدأ يبحث عن ذاته في عالم لم ير فيه أي شيء حقيقي..

اوجاعا غزت روحه . فأوقعته جسدا بدأ يتضاءل حينا بعد حين . غير أنه كان يلقي بتلك الأوجاع خلف ظهره.فيستغرق في فرح يصنعه بطريقة عجيبة يبدو فيه كأسعد رجل في العالم . فتشرق ابتسامة على وجهه كشمس تطلع في افق غائم .لم يمكث فيه فرحه الا برهة من الزمن حتى أستلبته همومه وهو يتجرع لدغات امراضه المباغتة..

الصغار ورغائبهم . حاجاتهم المدرسية .أشياء تقيهم من برد الشتاء . توق البنات للبس فساتين كما يلبسن ألأخريات.تشهيات أمهم الخفية التي لاتبوح بها الا بأبتسامة عصية على الوجه. رغباته المدفونة .كلها يحملها على كاهله , لتنغرز أشياؤها في ظهره . فتحفر جرحا لايبوح بآلامه.. كان أمينا على أن لا يخلع ثوب الصبر . رغم أن الآخرين كانوا يخلعون ثوبا كل يوم . وفي دربه كان يكظم ضيمه.

1996


جنين
شجيرات الحديقة لم تسره هذا الصباح , فأوجس خيفة وهو يتلمس اوراقها التي ناشتها الصفرة..يفرك بعض اجزاءها الذابلة فتنسحق ما بين أصابعه..استفزته أشجار أخرى. فراح يتفحص بحرص جذوعها وأغصانها وأوراقها.هطلت على وجهه زخة من قطرات حزن. لترتعش عينيه بقلق كبير.فأوجف قلبه وشعر بظمأ يكوي روحه..وقف قبالة هذه الساقية الوحيدة في داره , يجيل بصره نحو ذلك الذبول الذي غزا شجيراته التي كانت تزهوبالخضرة.

سهم ببصره طويلا , متأملا ذلك التضاؤل والخفوت في زهوره واليبوس في السيقان والأغصان ...غير أن انين زوجته راح ينبس من نافذة الغرفة حيث تجلس القابلة المأذونة. فيطرق أذنيه ليدلف نحو زوجته. يضع كفه فوق رأسها وهو يتضرع للسماء عسى أن يسهل لها أمرها..

ابتلع ريقه ماسحا جفنيه ليزيح بقايا النعاس. القى خطواته بتؤدة نحو حنفية الماء وهو يدير مفتاحها ليتدفق تيار عنيف من الماء مترقرقا في ساقية الحديقة يروي عروق الشجيرات وألأزاهير ..كان الماء وهو ينساب على أخاديد الساقية يشعره بالأرتواء . ويطفيء جذوات من بقايا جمر تلسع شغاف قلبه منذ أن ارعبه مشهد الذبول..ما بين التضرع للسماء.. ومويجات من هموم وظمأ.. بقي يتأمل جريان الماء ..بينما يطرق اذنيه تأوهات زوجته الحبلى..


قضبان
فرح مصطفى بطير جاء به اليه أبيه . غمرته فرحة كاد يطير منها . فأنطلق مرة يهرول ومرة يتقافز كما الحمل الصغير.مسك الطير بقبضته الطرية , ما بين غصة بريئة ومسة من خوف اخفتها طفحة سروره . ولشدة السعادة التي فاضت عليه راح يتلعثم بألفاظه :

- طير جميل حقا ....؟

مسد أبوه شاربيه الكثين.وأطلق زفرة . وهو يرقب مصطفى في فرحه :

- سأصنع لك قفصا لتضع الطير خلف قضبانه.

صاح مصطفى :

- لا...لا..أريده هكذا حرا بلا قفص يا أبي.

قال ابوه:

- ولكنه قد يفر منك ؟

قطب مصطفى عن حاجبيه ,وزم شفتيه , ضاربا بكفه الناعمة على رجله ,مطلقا دمدمات مصحوبة بعلامات رفض بانت على محياه:

- قلت لك لاأريد للطير قفصا ..أريده هكذا..سأتركه يطير في فناء الدار , ثم يحط على اشجار حديقتنا أو عند حافات السطوح...انه لن يهرب مني.

ادار ابوه ظهره. وراح يبحث عن اسلاك من كومة (خردة) قديمة , استل سلكا معدنيا من بين قطع حديد صغيرة وأخرى كبيرة ..اخرج استلال السلك صوت قرقعة من جوف الحاوية الكبيرة, صلصلة سلاسل حديدية ,طقطقة لوالب , صفائح معدنية ,احتكاك شفرات سكاكين , ارتطام كتل حديد ثقيلة ببعضها...كان السلك المعدني طويلا . نهض أبوه , ليبتعد عن المكان قليلا. راح يقطع السلك الى اجزاء.ويضع بعضها على بعض بشكل متواز ومتقاطع, ليشابكها فتبدو كواجهة سجن صغير..

كان مصطفى مستغرقا بسروره وهو يداعب طيره الصغيره. وكان يرفعه الى الأعلى مرة ويدعه يهبط على راحتي يديه مرة. فيشعر بنعومة ريشه اللذيذة. ودفء أجنحته.ليذهب به عشقعه الى أن يقبل رأس الطير..ضربت أذنيه طرقات . التفت الى ابيه , أستوفزه مشهد الأسلاك المعدنية ..أخذ طيره متجها الى حديقة الدار..ليطلق سراحه مرفرفا في اعالي السماء..تاركا ابيه يهيء قضبان القفص.

 

 

 

free web counter