| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حكمت مهدي جبار

 

 

 

الأربعاء 14/12/ 2011                                                                                                   

 

وحدة التجلي في العبادة والفن

حكمت مهدي جبار

أذا كانت العبادة الحقيقية هي قمة اللذة الروحية من خلال المناجاة والتجليات والأدعية والتضرعات ,فأن (الفن) هو أقتناص السعادة الروحية والهناء النفسي من خلال التلذذ بمفاتن الدنيا التي وهبها الله لنا.ويبدو (1) التمازج قويا عندما ندرك بأن للعمل الفني صلة بين الروح وحقيقة الأشياء وبين مصدرها وهو الله.

وعالم العبادات عالم يتوهج بتلك العناصر الثلاث الله الروح والأشياء .فالمصلي عندما يتوجه الى الله لابد وأن يرتبط برباط روحي متعال عن الواقع الذي هو كائن فيه.وكذلك مع الفنان – رساما – شاعرا – موسيقيا – كاتبا .فتراه ينفصل من عالمه المادي الى عالم وحي فني ساعيا للوصول للحقيقة (الجمال).

أن (2)(الفنان) كـ (المتعبد) كلاهما يسعيان لأضافة جمال الى جمال العالم .وعلى هذا فأن الصلة بين (الفن والعبادة) تنبثق من سعي كل منهما الى تصور عالم أكثر كمالا من عالم الواقع. فالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يتأمل الخلق والكون في غار (حراء)عبر طرق تعبدية خاصة به , انما مبعثه هو الأحساس بفظاعة الواقع المر وطغيان الظلم والشرك بـ (الله) تعالى وشدة وطأة ذلك الكفر على نفسه .

وهكذا مع الفنان الذي يتحسس أوجاع الواقع وآلامه..أن المتعبد يكون في حالة أستغراق أو ما يشبه الحلم فتصل عنده حد الفناء وألأمتزاج بعالم الملكوت عبر العبادات من خلال تجلياته ,أما الفنان فيستغرق عبر الهامه في تأملات مفتشا فيها عن الجمال والحقيقة.و(3)(العبادة) فعل طبيعي ضمن السلوك الأخلاقي الأنساني.وهي مشهودة عند جميع بني الأنسان ,وهي شيء أكثر قداسة من (الفن) ,الا انها تشترك معه من حيث السمو على الأعمال الطبيعية الأخرى للأنسان.والعبادة والفن كلاهما يعكسان نوعا من العاطفة والحب ,ونداء الضمير والأحساس بالجمال.

الا ان العبادة تأخذ بعدا دينيا لأنها تبغي رضا الله من خلال الخضوع له وأطاعته بالواجبات والفروض. وهي فعل أخلاقي نحو الحق الذي هو الله.غير ان الرابط بينهم هو أن الأخلاق هي نوع من (الجمال الكامن).أي جمال غير محسوس انما معنوي.والعبادة مناجاة معنوية خالصة.ولكن هناك من يمارس أعمالا أخلاقية ولكنه لايبغي منها عبادة الله أو الأعتراف به,سوى التمتع بالجمال المجرد الذاتي والسعادة الروحية الفردية.وذلك بالتأكيد ليس عبادة.

من جانب آخر(4) أن الفن ارتبط بالعبادات وبالأخلاقيات منذ أقدم العصور.ففي حياة البدائيين وفي كثير من شعائر الأديان لمسات من ألأحساس الفني وصور جمالية لايمكن انكارها.ومن أمثلة ذلك فن الرقص الذي نشأ عن طقوس البدائيين الدينية .أما فن المسرح فقد تطور عن عبادة الأله (ديونيسوس) اله الخمر في اليونان . وتأثرت الفنون المختلفة في البيئات الأسلامية بخصائص مستمدة من التعاليم الأسلامية وأرتقت الموسيقى الغربية والغناء داخل الكنائس في اوربا.

عندما يقوم المتعبد بزيارة بزيارة أحد الأضرحة وخاصة من المسلمين وتحديدا من الطائفة الشيعية,يأخذه السرحان الروحي مابين الفن الزخرفي وروعة التصاميم الهندسية وزهو الوان المنائر والقباب وجمال الفن المعماري ,فيختلط عنده جو العبادة بروحية الفن الأسلامي.فلو لم يكن هناك زخارف في البناء وتشكيلات في المعمار والجمال في فن الزجاج والأحجار وقطع الرخام والطابوق المذهب وهو كله ناتج من ابداع تشكيلي فني مذهل ,هل يشعر المتعبد الزائر بالصفاء والنشوة الروحية .

أما مفردات العبادات والأذكار لدى المتصوفة (الدراويش) وخاصة للطائفة السنية,فتجد روعة الغناء والأيقاع في ضرب الدفوف والرقص بما يوحي بأبداع فني موسيقي بديع ,يبهج الروح وتنتشي له النفوس.وبذلك فأن اغلب العبادات لاتتعارض مع الفن كونهما ظواهر وجدانية ترتبط بالأحاسيس والمشاعر الروحية.بل هي ترتبط ببعضها البعض.

أن الأعتراض على (5) الفن كونه لا يتوافق مع العبادات والطقوس الدينية وخاصة في زماننا المعاصر انما هو اعتراض لا يعتمد على أساس من التفسير العلمي لتلك الظواهر.لقد تطورت اقامة الشعائر الحسينية في العراق تطورا كبيرا. ففي الأول من المحرم الحرام ,تتحول معظم قرى العراق ومدنه الى اماكن لأقامة مهرجانات قمة في الروعة ,من حيث الرايات الملونة, ويافطات الشعارات ,فضلا عن القصائد المغناة على الطريقة الحديثة بأستخدام ايقاعات والحان موسيقية تثير المشاعر وتهيج الوجدانات.وقد برزت على الساحة الفنية اغان تمجد ثورة الأمام الحسين عليه السلام بأسم (حسينيات),يبدع فيها الرواديد اشدى القصائد بأعذب الأصوات على أسس فنية موسيقية بديعة. يستغرق فيها البعض باكيا ناعيا منتشيا بحزنه ناسيا حتى مواقيت الصلاة وفروض العبادات.

أن الفن السامي المترفع عن اللهو الشيطاني ,لهو فن بريء يعزز الشعور بجمال الحق والخير وعبادة الله الواحد الخالق للجمال والخير .وتتجلى فيه حقيقة الأنسان الساعي للوصول الى الله.وأن الأنسان المتعبد والمتدين الحقيقي والعارف لحقيقة فرائض العبادة لله ,يحترم الفن السامي ,الفن النقي الذي يمجد الأخلاق والأنسان خليفة الله في الأرض والذي هو خلاصة الجمال ألألهي على ألأرض .وكم عانى الفن الصادق من المتدينين لا الدينيين من التشكيك فيه ,على اساس أنه أي (الفن) انما هو نشاط فائض وكمالي لايمت بصلة بالعبادة والتقرب الى الله.فأذا كان ذلك ليس أثارة للمشاعر والتوحد الروحي والصفاء ,فماذا يفسر تراتيل آيات القرآن الكريم والحان التجويد والمقامات وهي كلها قائمة على أسس النوتات الموسيقية ؟.وماذا نفسر بهاء وجمال الأضرحة والقباب والمنائر؟ وكيف بدأ يتكاثر الأقبال على العبادات والطقوس الدينية تحت تأثير النزعة الفنية الحسية الجمالية أكثر من تأثيرات خطب رجال الدين؟ هل يصدق رجل الدين ,أن احد ألأشخاص تأثر كثيرا بالوقع الروحي والتأثير النفسي لآية الكرسي وهو يشاهدها ويسمعها تتلى من قبل ممثلة في احد المسلسلات التركية لتحتمي من رجل يريد قتلها ,فيحميها الله .لقد تأثر ذلك الشخص بالآية الكريمة (فنيا) من قبل (فنانة تركية) أكثر مما يسمعها من خطبة رجل دين وبأسلوب جاف لم تهتز له المشاعر ولم تقرب اليه الصورة.

أن العبادة شعور بتجلي النفس الأنسانية ,يتم عبر ممارسات طقوسية شعائرية مثل المناجاة أوالتأمل أو السجود والركوع أوالطوفان أوالقراءة المرتلة أو المغناة .ومثلما وجد تأمل ألأشياء والظواهرمن قبل ألأنسان ألأول والخوف منها ثم البحث عن وسائل لتخفيف وطأة ذلك الخوف كرسمها على جدران الكهوف أو مراقصتها أو ألأذكار وألأوراد ثم الخضوع لها والخشوع من سطوتها وهيمنتها ثم عبادتها.فثلما خاف الأنسان من البرق والرعد بسبب عدم معرفة مصدره فعبده مثلما رسمه وغنى له ورتل.وكذلك نحت الحجر بالفن ليعظمه بالعبادة.وجمل الخشب ورقص للمجهول المخيف وسجد له.ثم تطورت العبادة ,عندما تسامى بعض من بني البشر على انفسهم وراحوا يتأملون ذائبين في أعماق الكون والطبيعة ليكتشفوا سر الوجود,أكتشفت قلوبهم بمساعدة عقولهم أن هناك خالق واحد لم يتمثل بشيء,ولم يتجسد ولم يتصور .فصاروا أنبياء.سمعوا صوت الخالق العظيم ولكنهم لم يستدلوا على مكانه الا انه موجود في الأكوان والفضاءات وألأراضين والسماوات وألأرواح والنفوس.لكن ليس كمثله شيء.تشترك العبادة مع الفن هو أنهما طموحان غريزيان نحو الكمال والجمال الخالي من القبح.فقط هناك هناك حالة واحدة هو ان بعض الفنانين يعظمون الماديات والصور,ويعبدون انفسهم غرورا منهم بعد أن تخدعهم ابداعاتهم الفائقة الجمال الا انها غير كاملة.واولئك هم الفنانون الذين قد يتجبرون على الخالق ويضاهونه في خلقه .فالفنان المؤمن بالوجود الألهي يؤمن بأن فنه وأبداعه مهما عظم انما هو محدود .فيعبد الخالق خاضعا ذاعنا منيبا .أن أي انسان يرمي من وراء العبادة الأنطلاق من وجوده المحدود ,والأتصال بحقيقة لايعتريها النقص والفناء والزوال,أما الأنسان الفنان فهو يرمي من وراء فنه تعظيم جمال الخالق وتفضيل عبادته على جمال الأشياء المادية الأخرى مهما كان جمالها.فكلما تعمق الفنان بفنه وأبدع وذاب في جماليات الرسم والصورة والموسيقى والرقص والغناء والشعر والنحت والعمارة شكلا وتجريدا سوف يقف عند حد معين يعجز فيه عن تحديد حقيقة جمال المخلوقات التي هي جزء يسير من جمال الخالق.لذلك فقد أعترف (أينشتاين) العالم الكبير انه من خلال تعمقه بعلمه الواسع أكتشف حالة الجلال والخشوع امام الله,فـ ( في مثل هذه الحالة يدرك المرء ضحالة التطلعات وألآمال البشرية ,ويستشعر الجلال والعظمة المتجلية خلف الأمور والظواهر السائدة في الطبيعة أو في الذهن).

 


1 – مقالة في الأنترنت للكاتب المغربي – أميزار عصيدي.
2 – الشعر الصوفي – عدنان حسين العوادي – دار الشؤون الثقافية – بغداد – 1986
3 - طهارة الروح – مرتضى المطهري –ترجمة – خليل زامل العصامي - 1998
4 – فلسفة الجمال – د – أميرة حلمي – مشروع مشترك بين - دار الشؤون الثقافية (آفاق عربية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة .
5 – نفس المصدر





 

free web counter