| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حكمت مهدي جبار

 

 

 

                                                                                    الأحد 14/8/ 2011

 

قصة قصيرة

أشياء مفقودة

حكمت مهدي جبار

صارت جيوبهم منتفخة.. بعد أن حشرت فيها رزمات من اوراق نقدية.. وهم يصخبون ويمرحون .. لم يهدأ ذلك الصخب الا بعد أن ينتهوا من أستلام مرتباتهم منهم من يدفعها كي تتساوى بما لا يظهرها بارزة من تحت طيات بنطلونه.. ومنهم من راح يتلمض كما القط الذي انتهى توا من افتراس فأر أو عظمة ..

كان السيد (عبد الله) قد انتهى من عد اوراقه النقدية . والقى بجسده النحيف على كرسي حديدي لم يبقى منه الا غلافه البلاستيكي نصف الممزق وبضعة لوالب حديدية صدئة متأرجحة في ثقوب قوائم الكرسي بلا فائدة.. يضع يده فوق رأسه . يمسد ما تبقى من شعرات شيبها الزمان . يطرق رأسه نحو الأرض ثم يشبك اصابع يديه ليزفر انينا هامسا لا يسمعه أحد..

((عشرة عقود.. كم يعني ؟ ها .. ثلاثون سنة .. العمر المليء بالأحداث . والأيام المندرسة عبر سنين . لم يحصل المرء منها شيئا . فكل شيء مفقود . لم يخلد الأنسان . ولم يعش عمرين ليعود مرة ثانية ويصحح مساره , ويكفر عن خطاياه.. ما هذه (الفلوس) الا وسيلة . ولكنها غير دائمة ..))

استفزته صيحات المدرسين . فصحى من حلم يقضته . فمشى خطوات يتجول في ممرات المدرسة. استوقفته خريطة مبعجة ملقاة في ركن بعيد من الممر الطويل عدل طيتها الأسطوانية المتهرئة . ومسح آثار أقدام مازالت مطبوعة عليها . فراح متمعنا في تضاريس الأرض . الجبال العالية والوديان والأنهار وشلالات الماء . والهضاب والسهوب. وطرق طويلة ما بين المدن والقرى .. راح يتعقب نهر دجلة من منبعه . ثم يشط بصره نحو الفرات .. من جبال ومرتفعات تجري مياههما بأتجاه ألأرض المحسودة منذ آلاف السنين .. يدب أصبعه فوق غابات النخيل في الجنوب ويمر بألأهوار حتى يرفع أصبعه التقاء النهرين ..

في ساحة ألمدرسه تكومت انقاض. وكان الصغار يفتشون فيها عن أشياء تسرهم .الا انهم لم يجدوا الا كتبا قديمة قذفت في أكياس القمامة . صفحات ممزقة من التاريخ , صور قادة وزعماء كان لهم شأن في الحياة . مخططات لمعارك ورسومات باهتة لخيول وسيوف ودروع . وكتب جغرافية تهرأت خرائطها فتاهت أسماء المدن فيها وتداخلت فيها الأنهار.. ورزم كثيرة من كتب لم تظهر عناوينها . وأعلام ملطخة بأوساخ وقاذورات منها بنجوم وأخرى بلا نجوم ألى جانبها أوسمة وأنواط خفت لمعانها .. وصور لرؤساء وملوك ورجال دين ..

خرج مدير المدرسة , ونادى العمال الجالسين عند الباب البعيد.. وضع سيكارته في فمه وأشعلها ليمتص دخانها المتحلزن .. انزل كلتا يديه ليحيط بهما خصريه . وبدا كما لو أنه أحد قادة الحرب العالمية الثانية. تحدث مستكبرا:

أين علبة الكبريت ؟ ألم اقل لكم أحرقوها ؟!

نهض العمال بأتجاه كومة الأنقاض . حملوا معهم غالون النفط ليسكبوه فوقها . قذف أحدهم عود الثقاب .. فأشتعلت النار لتأخذ كل شيء.. صعدت السنتها متجاوزة فضاء الساحة المحصورة ما بين ألأسيجة .. بدت أوراق الكتب تتلوى ما بين لهيب النار. تأكل الآلاف من الكلمات والسطور والصور والرموز والخرائط . وتلتهم السجلات والوثائق وقوائم ومساند كراس خشبية .

كان السيد (عبد الله) يتأمل الحريق . حتى خبت النار ولم يبقى الا الرماد الذي تطاير في الهواء . خرج من باب المدرسة وجيبه محشو بـ (الفلوس) . ليشخص بصره نحو الدبابات والمدرعات الأمريكية تمرق شوارع القرية وتنتهك (درابينها) أمام الوجوه الصامتة ..

 

 

 

free web counter