|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الجمعة  7 /  2  / 2014                                 هرمز كوهاري                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

من الذكريات المؤلمة
اليــــــــــــوم ألأســـــــــــود
(1)

هرمز كوهاري

كانت الساعة في حدود السابعة أو بين السابعة والنصف صباحا ، كان يوما مشمسا رطبا .. كان يوم 8 / شباط 63 ، كان اليوم الذي ما يتسمى ، كما يسمي اهل الموصل مرض السرطان بالمرض الذي ما يتسمى !! هكذا جعل البعث هذا اليوم يوم اللي ما يتسمى !!! كان صباحا هادئا تسمع بعض أصوات العصافير لصفاء الجو وهدوء الحركة ..

كنت أنا وزجتي ، (سلطانة الياس مدالو) في سيارة تاكسي في طريقنا الى بيت أهلها خلف كنيسة قلب الأقدس ، وقرب ساحة سلمان الوادي أو ساحة التحريات ، طريق بغداد الجديدة أو السباق القديم شارع 52 ، تهيئة لسفرها الى السليمانية للإلتحاق بوظيفتها مدرسة في ثانوية السلمانية .

كنا قادمين من بيتنا الصغير في الجادرجية التي كانت منطقة حديثة كلها بساتين نخيل وداخلها بيوت وقصور، كان زقاقنا غير مبلط ومقابل قصر بيت الخضيري من جهة الشارع الجنوبي .

في لحظة مرورنا في ساحة سلمان الوادي أو ساحة التحريات في تلك اللحظة لمحت الياس ... (ابو طليعة ومنال وفيما بعد أنظم اليهما طلعت).

لمحته في سيارته شكودا صفراء اللون يسوق وكأنه لا يسوق..

بل كأنه لا يمسك بالمقود ... بل كأنه لا ينظر الى الشارع .. بل كأنه ليس في السيارة بل قل لا يعرف أين هو ولماذا هو هناك .. وأن السيارة تقوده لا هو يقود السيارة ...!!

تملكني شعور غريب .. أبا طليعة .. عادة لا يخرج من البيت في مثل هذا الوقت .. هذا ما قلته لزوجتي مندهشا مستغربا . فقالت ما الغريب في هذا !

قلت بل كل الغرابة .. لأنه لا يخرج في مثل هذا الوقت وإذا خرج لا يخرج قبل الساعة العاشرة أو الحادية عشر وأحيانا الساعة الثانية عشر ظهرا هذا إذا خرج ... ولهذا صحت وقلت لزوجتي مستغربا ومتعجبا الياس ... ألياس أنظري .. عجيب الياس هنا في هذا الوقت !

ولكني لم ولم أكن أتصور أن تلك اللمحة والنظرة الخاطفة التي رأيت فيها أخي الياس ستكون الأخيرة . والذي أصبح بعد أيام شهيدا خالد الذكر و ستكون نهائية وللأبد وسوف لن أراه الا من خلال صورته التي لا زالت معلقة في غرفتي .. ولكن أية نهاية ... نهاية لا يمكن وصفها لا بالأقلام ولا بريشة أمهر رسام . النهاية التي كان المتعذب يتوسل بالمجرم أن ينهي حياته تخلصا من ذلك التعذيب !!.

والسجان يرفض ، إلا بعد يستلم منه آخر سر ، آخر أسم من تنظيمه  أو منظميه ... نهاية في أتون جحيم  البعث الفاشي في قصر النهاية ، نهاية حياة كل من يدخل في ذلك الجحيم .. على الأرض ... على أرض السواد ... أرض الحضارات وخير البلاد .. ذلك القصر الملكي الذي دخلت فيه مع الاصقاء بعد ايام من ثورة 14/ تموز ومشينا على الزجاج المكسور .. ولم نتصور أنه بعد سنوات سيكون قصر كسر الإرادات والعظام للمناضلين العظام وأقسى وابشع قصر للإنتقام!!

كنت أقول مع نفسي .. إن إعتقال الياس في أية مؤامرة ، سيكون شهيدا لا محال ، لمّحت هذا للأهل .. ولكن مع أستبعاد وقوع مؤامرة والعيون مفتحوحة !!!.. كما كانوا يطمئنونا على ذلك !! فكان الياس يرفض الزواج .. ويقول أتركوني لأتفرغ لشغلي أي للحزب وليتزوج هرمز . لأنه كان ناذرا نفسه وكيانه وتفكيره للحزب والشعب والوطن . وبعد الإلحاح كان يقول أريد زوجة لا تعيقني عن عملي ... ثم تزوج المرحومة نعمي ايوب رمو ، وكانت خير رفيقة له وتحملت ما تحملت من السجون ثم مشقة العيش وتربية الاطفال ..

كنت اقول أحيانا لأبي طليعة .. ولغيره من رفاقه عندما كنت التقي بهم بالصدف و عندما كان عبد القادر إسماعيل البستاني مختفي عندنا في البيت الحزبي ... في الوقت الذي كانوا يسمونه الطغيان الشيوعي .. الجماهير تحتل الشوارع والقادة مختفون ، وقادة شيوعيون آخرون محكومون بالإعدام مثل الشهيد مهدي حميد الذي كان يأتينا بإستمرار عندما كنا في كركوك والذي كان له دورا فاعلا بالقضاء على مؤآمرة الشواف وكان جزاءه الإعدام في أيام الزعيم المقدام !!! من قبل المجلس العسكري .. وصور الزعيم الاوحد على صفحات جريدة الحزب ، عملا بنظرية التناقض الأكبر والتناقض الأصغر . ونظرية عدم الإنجرار الى الحروب الجانبية !!

قبلها بمدة كنت جالسا مع الأستاذ متي الشيخ في جمعية الخريجين الذي كان أول شهيد وأمام رفاقه من الأساتذة ليعتبروه درسا للذين لا يعترفون .

ويوم الخميس 7 / شباط / 63 كنت مع مدير البنك العقاري الدكتور .. بعثي .. لم أذكر أسمه ، حول تسليف جمعية بناء المساكن التي كنت أرأسها وإتفقنا على شروط التسليف ، الدكتور تعرفت عليه قبل ذلك من خلال إنتخابات جمعية الإقتصاديين حيث كنا في قائمتين متنافستين .. في تلك المقابلة القصيرة خرج عن الموضوع وأستفزني ! فقال :" أشو أنت ما رحتْ الى موسكو "!! : قلت " ليش أروح الى موسكو هنا راح سنوي موسكو جديدة " ربما كان الدكتور مطلعا على المؤامرة ومتأكد من إنتصارهم ويستخف بنا وبحزبنا .!!

كيف لا ، فهو والدكتور حسن زلزلة عندما فازوا بإنتخابات الإقتصاديين رقصوا بالجفية يهوسون " أشورطك يا شخنوب " !! والشخنوب اسم عامل ركاع شيوعي !! كل هذه الأفكار والحوادث مرت علي خيالي بلحظات ...

هكذا كانت ثقتنا بالحزب عندما كانوا يستعرضون قوتهم الجماهيرية من العمال والفلاحين والطلاب وحتى الشرطة تصيح " الحزب الشيوعي في الحكم ..." !! وفي الجيش القوة الضاربة والحاسمة حيث كان الضباط الشيوعيون يسيطرون على المفاصل الرئيسية للقوات المسلحة .. ولكن ظهر أن القادة كانوا مغالين بقوتهم ومنشغلين بالمسيرات وأستعراض جماهيريتهم والمغالاة فيها ، المغالاة في القدرة هي من أخطر ما تتعرض له الجيوش في المعارك ، مقابل الإستخفاف في قدرة العدو وشطارته أو قدرته في المناورة والمباغتة . ..هذا ما تعلمناه في كلية ضباط الإحتياط ...!
 
ربما أعتمدوا على بروفا القضاء على مؤامرة الشواف ، وكيف كانت الجماهير قوة الفصل في النتيجة وكذلك فشل محاولة إغتيال الزعيم الأوحد . ولكن بالمقابل ، العدو أيضا أستفادة وتعلم دروسا وتجنب أخطاء إخفاقاته في تلك المؤامرات الفاشلة ..

كيف تمكن الرعاع وزعاطيط البعث وأكثرهم من أطفال تحت سن البلوغ ، قد لا يعرفون لماذا يفعلون هذا .. فحولوهم الى روبوتات مسلحة .. مسيّرة ... جردوهم من التفكير ... من الوعي الإنساني ... بل طلبوا منهم عدم السؤال والإستفسار .. كي لا يصيبهم الإنهيار ...

ولكن من السذاجة أن نعتبر قوة العدو بأولئك الرعاع والزعاطيط بل كانوا واجهة لأكبر قوة على الأرض عسكريا ودهاءا وهو حلف الناتو والتنفيذ عند الجيران الحاقدين من العربان والمصلمان و وراءهم الأمريكان وقفوا ضد تمدد وتغلغل الإتحاد السوفيتي والشيوعية الى المنطقة الحساسة منطقة منابع النفط والمياه الدافئة من خلال الشيوعيين في العراق .. ليس بالضرورة اشتراك الحلف إشتراكا مباشرا كي لا يستفزوا السوفيت بل ساهموا برسم الخطط والتكتيك وعنصر المباغة و إذاعة عبد الناصر والمهرج أحمد سعيد من إذاعة صوت العرب التي كان شغلها الشاغل صباح مساء العراق وقاسم العراق أي مقسم العراق وترهيب الناس من الطغيان الشيوعي....!! وتوزيع رشاشات بور سعيد للعديد والعديد من القتلة والبلطجية ...

كم قوة صغيرة غلبت الكبيرة بفضل ذكاء الخطة والمباغتة . ولم يدرك الحزب أن العراق كان موضوع صفقات ومساومات على طاولة اللاعبين الكبار ولا يزال وسيبقى كذلك لإسباب ذكرناها أنا وغيري في مقالات أخرى .

لو عرفت أن تلك النظرة أو اللمحة التي لمحت بها ألياس ستكون الأخيرة .. والى الأبد لأوقفتُ سيارته ولو بطريقة الإصطدام المتعمد !! ولكنه قطعا لم يكن يتوقف بل كان سيواصل السير ركضا أو هرولة لأن الواجب الحزبي عنده كان قبل كل شيئ وفوق كل شيئ دون إستثناء .. كان قد وضع حياته في خدمة الحزب والشعب والوطن .. حتى ضرب به المثل وسمعت من أحد الشيوعيين قيل له في التحقيق : " هل صرت ألياس كوهاري لا تعترف " !!!

وبقيت أفكر بسبب خروج الياس في ذلك الوقت وفي تلك المنطقة دون ان اتوصل الى الحقيقة ، ولكن إنشغالي بأمر سفر الزوجة أشغلني بعض الوقت من متابعة الموضوع أكثر ، وبررت بالتي هي الأحسن : قلت مع نفسي ربما هو متجه الى بيت الأخت حيث كانوا يسكنون في محلة كمب ساره وأحيانا يزورها لأن صحتها ليست على ما يرام . لأننا تعلمنا نحن العراقيين أن المؤامرات والإنقلابات تحدث عادة في الليل وصباحا نسمع البيان الأول فمنع التجول ف.... هنا كان عنصر المباغتة التي كانت أحد الاسباب الرئيسية لنجاح المؤامرة .

ولم يتيسر لي الذهاب الى بيت الاخت او الإستمرار في التفكير اكثر ..

حيث كان عليّ تهيئة سيارة لزوجتي لتقلها الى السليمانية مع عائلة تسافر معها في نفس السيارة .

توجهت حالا الى شارع الأمين حيث المنطقة قريبة من حي الأكراد وهناك نقليات الى السليمانية .. فلم أعثر على سيارة ... كل شيء كان صامتا هادئا في جبهة بغداد .. وليس في الجبهة الغربية ، كما يقال . ثم فكرت في الباب المعظم علني أحصل على سيارة ، توجهت نحو الباب المعظم .. فلم أفلح ايضا ..

أضطررت الى العودة الى شارع الأمين مرورا بشارع الرشيد وعلى الأرصفة فرشت الشمس أشعتها ودفئها , ما أجمل ما كانت بغداد في تلك الفترات وذلك الهدوء .. وام الكيمر ترحب بعشاق الكيمر والعسل ، الفطور المفضل لدى أهل بغداد أو الكاهي !.... عبرت الى رصيف وزارة الدفاع .. كان كل شيئ هادئا .. كم كان ذلك الصباح هادئا مشمسا لطيفا منعشا .... وعلى طول سياج وزارع الدفاع علقت صور الزعيم الأوحد !!وكأنه ينظر الى المارة يبتسم بل كأنه يقول للشعب لا تقلقوا أنا معكم .. !

رجعت الى شارع الأمين وأخيرا عثرت على سيارة تاكسي صغيرة مع عائلة تسافر الى السلمانية ينقصهم او يعوزهم نفر .. وقلت لهم عندي نفر وهي زوجتي فعلينا أن نذهب الى البيت في السباق القديم أي قرب ساحة التحريات ـ طريق بغداد الجديدة .. جئت معهم مارين في شارع الجمهورية .. كل شيئ كان هادءا .. وصلنا الى البيت ، فتحت الباب مسرعا لأدعو زوجتي للخروج فرحا بحصولي على السيارة في الوقت المناسب ..!! وإذا بالمرحوم العم والدها يخرج مسرعا ومرتبكا ومشوشا وبكلام متقطع :

ما تروح .. ما تروح ... تعال شوف ... تعال تعال شوف التلفزيون ...

قلت " شكو شكو ؟ ما القضية ... دخلت الى الهول وكان تلفزيون بغداد يعرض برنامج الأطفال الذي كان يقدمه عمو زكي صديق الأطفال ! صباح كل جمعة كم كان ذلك البرنامج لطيفا مفرحا يشاهده الكبار قبل الصغار ! يدخل الفرح والبهجة الى قلوب تلك البراعم أولئك الآطفال صبايا وصبيان . واليوم أولئك قد كبرو ا وشاخوا من الذين قدر لهم البقاء حتى اليوم ليس فقط من كثرة السنوات وطول المدة ولكن مما قاسوه خلال نصف قرن .. وقسم منهم قد يقرأوا هذا .. وإن هي ذكريات مؤلمة .

بقينا برهة ننظر الى التفزيون بين مصدقين ومكذبين نظرنا يظهر عمو زكي والأطفال يصفقون ويضحكون ثم ينقطع البث ويظهر .. فجأءة زعاطيط يهوسون ويرقصون ويرفعون شعارات البعض منها بسقوط الطاغية عبد الكريم قاسم ... ثم يرجع مشهد عمو زكي قليلا ويختفي فيظهر رعاع البعث أطفال الحاقدين والموتورين المتاجرين بالعروبة أطفال دون الخامسة عشرة حتى العشر سنوات ودونها !!

بقيت دقائق هل هي تمثيلية أم حقيقة ..؟؟

ولكن السائق لم ينتظر بل ذكرنا بوجوده بواسطة  منبه السيارة ، فخرجت اليه قال : " يالله وينَ النفر ."؟ .قلت له عندك راديو.. إفتح الراديو ! " شكو....؟ قلت " إفتح الراديو .. فتح الراديو وسمع الهرج والمرج بسقوط الطاغية قاسم !! .. قال " يابه هذه تملثيلية ماكو شيئ .." وفي هذه الأثناء سمعنا عدة اطلاقات ثم إزداد صوت الرصاص ثم إختفى برنامج عمو زكي وبدأت زخات من الإطلاقات تسمع من كل الجهات ، السائق والركاب بدأ عليهم الخوف . والقلق .! قالوا "إحنا هم بطلنا ما نروح نخاف ... رجّعنا الى البيت !! .

إذا هي مؤامرة وكما يقول أبن العشيرة ...صارت والا تصير لا بالاهي صارت ..!!

يتبع

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter