| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

هادي الخزاعي

 

 

 

 

الثلاثاء 24/10/ 2006

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 


بمناسبة تأسيس قاعدة بهدينان للأنصار الشيوعيين  " يـك ماله " *

حديث للتجلــي


هادي الخزاعي

رفعت سماعة الهاتف لأستجلي من يكون المتحدث فالساعة متأخرة من الليل، إلا اذا كان امرا ذو شأن.
كان صوتا متهدجا يتسلق كلماته المتسربلة بالحياء، الخالية من ترتيب سليم للجمل ، فقد كانت تتقفز كل كلمة أكثر من مرة على لسانه لتولد في أذني كيان وحياة.
اندلق اناء الأيحاءات في دواخلي: مَنْ هذا المتهاتف في زحمة ظلمة ليل خالي القمر.
ابتدأت استهلالات التفطن والتذكر وانا اعتصر الذاكرة المعمرة المفعمة ببواكيرالشيخوخة، أذ كانت تجوب سهوب رعت فيها ايام من العمر المعطوب بعديد من الآلام وكأنها كانت صورةٍ لطريق الآلام الذي داسه بنعاله المثقوب ابن مريم ، فجابت خواطري وهواجسي كل زوايا الذاكرة مختصرتا جل العمر بتلك اللحظات التي اخذت تسطع رويدا رويدا مع كل كلمة وليدة اسمعها من محدثي وكل هسيس لمشاعره الدامعة، تتمخضه وجداناته، وقد استعادت نبضها ونسيجها الذي أخذ يتماسك مع كل جزئية تطفو على سطح الصورة التي اصطادها تداعييّ من بين عدد لا يحصى من صورارشيف الذاكرة المتخم.
وعلى وقع اسمٍ جَلجلَ كرعد مفتون بالعلياء، توشم كرفيف على جدار القلب من بين كل ماكان يقوله المتهاتف . تسمرت ذاكرتي عند صورة مضببة تستعيد تفاصيلها مع السريان البطئ للزمن الواقف على حافة الدرب اللامتناهي لتبانة الذاكرة ، ملتاع بما كان ينأى من قافلة كلمات محدثي، حتى تطهرت الصورة تماما وتجسدت كل تشيئاتها الصغيرة التي اخذت تكبر بلحظة تشبه لحظة الحلم حين يلغمك بعمر كامل وانت مستلق، حتى صارت صوره التداعي بحجم ما ظفرت به الذاكرة من كبر.. يا للعمر الذي مضى من صاحبِ فجاءات مستحيلة التصديق.. انه خلي الذى مضى بطريق يشبه طريق انكيدو الذي غاب في لحظات وجيزة عن ابصار خله كلكامش الى الأبد. لكن مجساتي الباطنية انبئتني اني غير كلكامش المبتأس، ولا خلي بأنكيدو الذي ارغمه الأله انليل على الرحيل الى ابدية صامتة، فها هي نبرات صوته المرهف تهيكله امامي بكل التفاصيل التي اعرف، يا رب السموات..
انه مهند، صديق العمر المتضامن، الذي ركبت واياه حافلة الترحال غيرالمتوقع ونحن ندنوا من اجل غير مسمى.. يا لمهند، صديقي الذي اصدقني كل الصدق وهو يحميني وغيري من الرفاق الأنصارمن طائشات جيشان اطلاقات الجند المسمرين على بنادقهم وعلى مفاتيح الطرق المستحكمة من قبلهم وفوهات اسلحتهم الفاغرة.
لم يتوقف مسيال كلماته المترنحة من سهل الى جبل، ومن نهير بارد ساكن الى آخر هادر، ومن قرية الى قرية ومن موقف ملتبس الى آخر يرسم تفاصيله الوضوح والألوان الرشيقة، ومن حقل الألغام الى حقل التفاح والخوخ المهجور من اصحابه، فيفطمنا بثمره عند كل حول كاننا أكثرمن هُمْ. امــتصــــــنا زمن رحيب ســـــــــــــاكن ، هو، بكل علامات التعجب التي مهــــدت وصوله الى ذاكرتي. وانا، بكل اقتحام التداعيـات المنفلتة مــن أسارها.. لقد كان زمن وجيز مسكون بالصمت، عندما نطقتُ اسم " يك ماله *". حتى ضاق ذاك السكون فتبدى بهيئة صرخة مكبوتة منه : يالله .. يك ماله.. واجتاحته اسماء الرفاق، بل حتى اسماء البغال المعدودة التي كُنيتْ عن عمد بمن نحب وبمن لا نحب، وكررالأسم الذي عاد به وبي الى اكثر من خمس وعشرين سنة خلت.
" يك ماله " تلك القرية التي لا يقطنها غير بيت واحد للأنصارالشيوعيين القادمين من مناح العراق العديدة، حاملين احلام الناس المضمخة بالحنق على نظام تطاول على كراماتهم، سارقا من بيوتاتهم الأمان ومن على وجوههم البسمة، حين اودعهم زنازينه المتربة بالرطوبة والقمل وبالموت المتربص.
كأن مهند قد امسك بلجام حديثه وراح يُرَهون بذاكرته الجامحة فمر على كل الأسماء التي حضرت طقس الذاكرة البكر، فلان وفلان وفلان وفجأة حرن لسانه على أسم له منزلة خاصة فاز بها عند جميع رفاقه.. انه " ابو كريم ".
أرغمني ذكر الأسم على لجم تداعياتي لأترجل على حواف مرآةِ ما كنا نرى انفسنا بها في تلك الأيام الرتيبة التي كنا نقضيها بلا سقف يتسع لكثرتنا المتناسلة. بقيت صانتا اتسمع لهودج كلمات محدثي. من هنا كلمة وكلمة من هناك لتتوازن في جمل وئيدة بالغة الرأفة والطيبة والأعتبار وهو يلهج باسم ابو كريم بذاك الصوت الشفيق، حتى حاصرت لسانه عبرة لم اجد نفسي بعدها إلا منساقا وراء صدى نشيجه المكظوم بشئ من صمت شاحب معقود بنشيج فتح علي كل تلك القنوات اللاهثة وراء نشيجه .
تطاولنا على ما سرى بنا من حزن انسانا إنا لم نر بعضنا منذ ربع قرن، فجديربنا ان نفتح ستارة ما غاب عن أحدنا الآخر طيلة تلك السنوات .
تابطنا سنواتنا تلك، التي تغيرت فيها خارطات كثير من الأشياء التي نسجناها معا. ولم أدري أي منا اقتحم سنواته قبل الآخر، فحينا كنا نتناوب الحديث واحيانا كنا نتحدث دفعة واحدة مثل حنجرة بصوتين أوفم بلسانين، كأننا خرجنا من قمقم صمت مطلق، فانطلقت صبواتنا تحصد من ارض حرام السنين التي مرت وحتى التي ستمر، كأن الراح كان ساقينا. دارت ولفت بنا الذكريات مدن وعواصم كثيرة هي أشبه بالمحطات المزهوة ببضاعاتها الجميلة . كانت شجرة الحديث بيننا قد حطت عليها كثير من اسماء النساء والرجال كعصافير وطيوروصقور ونوارس تتلاشى في ثناياها ثنائيات ازلية ، الحب والكره ، الخير والشر، الأبتسام والدموع، المرأة والرجل، الأمواه واليابسة، وثنائيات اخرى كنا نقولها بشئ من الخفوت المبطن بالكركرة حتى لا نفتضح على مسامع الزوجات والأبناء المزهوين بنا.
كل ذلك الرحيل الملون الذي سافر بنا الى كل الأصقاع ، كان اشبه بحمام زاجل يلف ويلف ومن ثم يهتدي الى عشه حتى لو قطع البحر. وكنا كذلك فقد حطت زواجلنا على شجرة ابتداء حديثنا، يك ماله، وما يحيط بها من ترشحات الذاكرة العاصفة التي اخذت تصفى وتهدا شيئاً فشيئا.
استطال الحديث وطاب به ان نجلي فعائل من احببناهم حد الموت لأجلهم ، وأحبونا بذات القدرلأجلنا، ومن يدري، فأحتمال انهم كانوا شغوفين بنا اكثر من شغفنا بهم وارد جدا بامارات كثيرة، ربما اقلها ذلك الذي ذكرني به خلي مهند عن يك ماله وابو كريم الذي بكته عيوننا المستشرية بأحمرار السهر والتعب ونحن نخب سفح جبل متين المتطاول نحو الشمس بعد عملية انصارية نصف ناجحة على مطار بامرني العسكري الذي كانت تتحصن في ثناياه بعض المدرعات وثلة من جنود النظام وحراسه، تلك العملية العبوسة التي فقدنا بها ابو كريم شهيدأ.
استطرد مهند بوصف شمائل اولئك الرفاق المفطورين على محبة من طراز نادر، ميزانها ذو كف واحد، يعطي ولا يأخذ. ابو نضيله، ذلك المرغوب لوداعته وطرافة هيئته، وعصاميته المفرطه، ومعرفته لكل الأسماء اليانعة وغير اليانعة، التي عجت بها حقول الحركة الوطنية العراقية. عمودي الصبي الأكول الذي لم يبلغ بعد، المتحايل على الحزب بسنة من عمره كي يحصل على شرف عضويته، الراعي لبعض فحول العنز الذي اجبرها مرة على ان تدر حليبا.غابة من الأسماء الشاهقة التي لا يمكن للذاكرة ان تركنها رغم جفاف ينابيعها.
لما يزل مهند محكوم بألاهية تلك السنوات وما كانت تكتنف.. وسرح يطقطق بأصابع زمن الورد الذي لا يذبل، ليتوقف عند الشهيد ابو كريم ، ولا ادري كيف ان بوصلة حديثي قد اتجهت الى ذات ما كانت يتجه اليه سهم بوصلة تداعيات مهند.. اذكر يا صديقي كيف بنى لنا ابو كريم، وهو البناء الماهر، الغرفة الاولى في تلك الرقعة القصية من حواف الجبل والجليد، إمتحّنا استاذيته في البناء، فشمخت تلك الغرفة البدائية االمبنية من صخور الجبل وطين الأرض، لم يدرك ابو كريم ولا نحن ان طين الأرض غير اسمنت الحضارة المتماسك، فلما زمجرت ليالي الشتاء الباردة حد القسوة، وحلكت سمائها المفعمة بالغيوم الداكنة الثقيلة ، وهطل مطرها ذو الفحيح الضارب بعنف على جلد الرض، كأنه طبال في ليلة مبهمة. واتنانا شئ من قلق ممزوج بخوف غير ملحوظ بين بعضنا، اذ كان يكفننا الفراغ بقماشةٍ حالكة السواد، لا تنبئ بشئ غير الفجيعة . كل شئ كان يهدر، الريح والمطر والرعد والبرق، واصوات قصية اخرى يبعث صداها فينا وفي الفراغ المطبق الذي يحاصرنا من كل الأبعاد، هواجس وظنون تتلاشى عندما يغتال صوت اي منا ذلك الصمت الداخلي المخيم فينا. كل ما كان موحيا بالأغتيال قد فرش ادواته على خواصرغرفتنا الفتية. ورغم طمأنينتنا الظاهرة، كانت محفة الهواجس المنبئة بما لا ندريه تنفخ بأبواق نفيرها من حول غرفتنا ونحن بداخلها كخلية منعدمة المسافات والمساحات. كنا نقترب حد التلاصق مع بعضنا ونحن نتهامس غير مصدقين أن هذا مطرا وليس طوفانا سيجرفنا الى ما لا ندري اين!؟، اموات ام احياء لايهم، ولكن الى اين؟ لم يكن اي خوف من الموت قد تسرب الى دواخلنا، فقد تعاهدنا عليه وتصالحنا معه مُذ وطأت اول خطواتنا هذا التيه اللامتناهي من الطرقات الوعرة التي يجب ان تقطعها اقدامنا كل يوم. تضاعف صوت المطر الهارب من سماويته الى موطئ اقدامنا ، حتى اخذ يتوحل خريره السائح من سقف الغرفة المكتظة بنا وحوائجنا. اجتاحنا القلق حين داهمنا الرشح المضاعف من السقف، قلق مبرر، لا على شئ ، إلا على كيف سنقضي ليالينا التالية تحت ذاك السقف الذي هلهله المطرونخر حواشيه.
يا لذاكرتك مهند من حافظة لكل ذاك التفصيل الذي يخرج من فيك بهذا التوالي الرشيق . وقبل أن يرد، وهو لما يزل يمسك بأطار صورة ذلك الحدث وشخوصها السبعة بلحمهم وشحمهم ، حَجَرَ دموعه الجافه في محاجر مآقيه. لكني كنت اشم اريجها واسمع صهيلها المتبدي من لحظات الصمت التي كانت تتراقص على ايقاعاتها جُمَلِهِ المتكسرة وهو يقول اسماء رفاقه بذلك الحنو الدافق كشلالِ عطاءِ محبةٍ يحرك كل دواليب القلب وتجاويفه بتلك الجلبه التي اسمع صداها من سرعة انفاسه ، ابو سعد مدرس اللغة الانكليزية المجتهد غير الموحي بشكله الأنيق المتراتب بانه ابن الثلاينيات، هذا النحيل القادم من عمارة الجنوب الزاخرة بالنخيل والقصب والمضايف الخالية مقدماتها من الأبواب، إلا من المواقد متوقدات الجمر ودلال القهوة الساخنة. ابو هيمن، المهندس الحالم بغد افضل للناس. ابو سحر النجفي المشتعل البياض، الوديع المتساهل حداً لا يطاق . عواد ناصر شاعر النرجس وأوان الورد. تذكرهم بكل التفاصيل كأنه في مارثون بلا نهاية.
لم اجد فيه حديثا عاديا ذلك الذي كنت اسمعه، لقد كان يكتب وينحت تلك التفاصيل المستخلصة من ذاكرةٍ حوراء تشع منها تلك التشظيات الأليفة .
من جديد راح يطقطق اصابع الزمن المسكون بالهواجس والخلاصات الحائرة كالدموع التي تحرن رغم كل الحاجة الى البكاء ، ليحط على أيكة الحديث المفعم بالرهبة والأنبهار رغم واقعيته التي عاشها وغيره من الأنصار.
في اليوم التالي حينما جف ضرع السماء واشرقت الشمس قوية، كنا نحتمي في ركن من اركان الغرفة التي تهاطل علينا سقفها دفعة واحدة بعدما أذاب المطرالعنود كل الطين الذي كان يمسك بالجلاميد. لقد انهار السقف بكل جذوع الأشجار التي قطعناها لينسدح عليها سقف غرفتنا التي بقيت شامخة ، ولكن بلا سقف. ذاب قلقنا بين طيات ضحكنا الذي تواصل بكل قهقهات الامان والتطامن، بعد ان عرفنا ان أي منا لم يصب بأذى. تواصلت طرائفنا وضحكاتنا الدافئة غير الشامتة برفيقنا البناء، ونحن ننزوي كباقة من النعناع الذي ينثر الأريج في ذلك الركن المظلم من بقايا غرفتنا التي كانت غرفة قبيل سويعات.
في ذلك الصباح المشمس لم يكن ابو كريم بين من كانوا في بقايا الغرفة. خفف مهند من ايقاع حديثه المتسارع ، وكأنه امام منعطف يقتضيه التريث، وزفر متنهدا : لقد كان ابو كريم مغتاظا وقد جفى عينيه الكرى فحرس المكان بدل الجميع الذين انهكهم البلل والبرد وفاجعة انهيارالسقف فناموا ملء الجفون. وقبل ذلك الرقاد الثقيل لم يفلح أي منا في نزع فتيل فكرة اخذت تشتعل في رأس ابو كريم ذو الوجه المبتسم بسحنته الذابلة؛ ماذا لو مات واحد منا ؟! ألا أكون أنا المسؤول؟ ألم اكن انا الذي صف ذلك الصخر ووضع تلك الجذوع الثقيلة ، ومهدت بالطين لذلك حتى وصلنا السقف. اذاً انا المسؤول عما كان سيحدث من كارثة او فاجعة .
ثم صمت وكانه يعاقب نفسه عن ذنب لم يقع اصلا. صمت وغاب في دوامةٍ تتآكل فيها اجتياحات تلك الساعات الثقيلة المتثاقلة وهو يمسك ببندقيته، حارسا لنومنا ولغرفتنا التي بلا سقف ولكل تفاصيل المكان المقتحم من تلك الظلمة الساكنة. وقف بليلا كأنه يتطهر بمطرأشرق علينا من باب سماوية غالبة العتمة، جارفا في مساراته كل ورق الخريف المحمر الذي فارق اغصانه...
لاح للجميع أثر حذاءه المطاطي على الوحول اللزجة غير المسلوكة التي غلفت الطريق المؤدي الى مقر القاطع، والذي يبعد عن موقع يك ماله قرابة الساعة مشيا على هذا الطريق الموحل، رغم انه لا يكلفنا اكثر من نصف ساعة في نهارات الصحو واللاوحل.
وتابع مهند بوتيرة اوحت لي بأنه يشارك في مشهدٍ بصري حي لتلك اللحظات الغافية في دفاتر ايامنا الخوالي التي نغرف من معينها الآن ذياك الرحيق الذي لقح نفوسنا بهذا الصفاء الذي يشبه العسل.
لم ندرك حجم ما كان قد نسج خيال ابو كريم من هم ناخ بوجدانه المرهف طيلة تلك الليلة الليلاء، ولم ندرك أي وهم كانت تدوفه افكاره التي لم تبرح لحظات انهيار السقف. لقد عاش الليل واقفا في زحمة من غابة المطر تتقفز في حواشي رأسه المفجوج من جبهته، فكرة انه مسؤول عن الذي حدث، والذي ربما كان سيكون سببا في موت رفيق ، كأن فكرة موت رفيق لم تكن من فيض التوهم، بل كان يتعامل معها على انها حقيق يرجوه. لقد تمترست هذه الفكرة على تلافيف مخه فأستحالت جدارا كونكريتيا تمنع عن وجهه المبتسم أن يبتسم. فقد جسدتها حواسه ومشاعرة على انها حقيقة وقعت. لاحقا حدثونا الرفاق في مقرالقاطع عن جريرة ابو كريم التي لم تقع . ففي ذلك النهارالمتراقص بنور الشمس ووسط عراءه الرطب فاضت عيون ابو كريم أمام حشد من الرفاق بتلك الدموع المعتذرة التي لا يسفكها ابن الريف بالمجان. كان يتطهر بتلك الدموع من وهم سكنه بلا مبرركما كنا نرى. لكنا بدوام تعايشنا مع ابو كريم كل ذلك الزمن المشاكس، ادركنا فيه حجم الحب الذي يرتع في بحره، وايضا أدركنا من هو ذاك البَنّاء البسيط الذي لفضه ريف متخم بالجوع الى احشاء المدينة الفاسدة بابناء عاقين على الأسياد الذين كدهم كم الأفواه وتسييد من لايرحم على لقمة العيش، وهو بذلك قد عزز فينا ما كنا نرى فيه وغيره من حب للناس، ربما يراه البعض الذي لم يذق شهد هذه الخصيصة الأنسانية المجانية، انه حب فيه من المبالغة غير المبررة.
لقد كان ابو كريم المتضاحك والهازل من كل شي يعلوعلى كرامة الانسان ولو اصبعا واحد، مطبوعا بذلك اللون الوردي وهو يمسك بفرشاة ألوانه حين يروي لنا حكايته عن الحياة، فيردد: هي غابة من بشر. فيها بشرمثمر كالنخل. وفيها ايضا دغل كسول بلا ثمر يعيش مسترخيا في ظلال ذلك النخيل. ...........
غرقنا في صمت واحد حتى رسى قارب كلماتي المنشغلة على صيوان اذنه: ما قلته يا مهند كأنه سفين في يم ابحر بي بعيدا الى ذلك الزمن الزاهد، والى دواخل اولئك النساك الذين حاكوا لنا تاريخا بخيوط فقيرة من كل أنا ومن كل بريق يضبب البصيرة. حاول ان يقول اكثر مما قال، فنهيته عن ذلك لأن ما تحدث به قد طفحت به زوادتي . فدمت للخير واهله.
بعد ان ودعته، وضعت السماعة في مكانها واستكملت مع نفسي تلك الحكاية التي لا تنتهي عن تلك الغرفة القصية في ارجاء الجبل وهي التي أستقبلت مئات النصيرات والأنصار الذين تجحفلوا بحلم من سبقوهم ممن مشوا فوق الماء، وهم يحتمون تحت سقفها من البلل والبرد وطاعون الحشرات.
وعلى حواف جفر نيران الشتاء المشعة بالدفء كان يروي الأنصار حكاية يك ماله، البيت الواحد الذي انهار سقفه. وعندما جففت الشمس الندى من على بقية الاوراق الصفراء الذابلة على الشجر المباغت من خريف سنوي لا نهائي، بنى الماشون فوق الماء سقف غرفتهم من جديد، غرفتهم التي ترقد الآن اطلالا قرب نهير الخابورعلى حدود تركيا في الشمال العراقي.


* يك ماله تعني بالكردية البيت الواحد. وما قرأتموه حقيقة واقعة اضفت لها حواشي وصفية اتمنى اني كنت موفقا بزجها في متن النص.