| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمدة خميس

 

 

 

الأحد 22/3/ 2009



لماذا تكتب النساء
(تأملات في إشكالية إبداع المرأة)

حمدة خميس

لماذا نكتب !.. نحن النساء المنذورات ـكالقرابين ـ للغياب، القابضات على الغبار .. المرسومات بفرجار وفق زوايا منحنية ! نحن اللاتي صهرنا في قوالب أضيق من مساحة الكتابة و أفقر من ثرائها . قوالب مدججة بأقاويل غامضة تنتج ذاتها على مرّ العصور . قوالب متشابـهة تمّ تشكيلها وفق هيئة عامة تنتج أشكالا لا تختلف إلا بقدر يسير لا يعلن و لا يشي . تبدو معها كل النساء متشابهات ..مسيجات ضد أرواحهن ، وذواتـهن ، مبرمجات منذ الولادة حتى الموت وفق معطيات واحدة تتكرر على مدى الأزمان.. برمجة كلما أوشكت على الاهتراء أعيدت في أشكال جديدة. تماما مثل أغنية قديمة ظهرت في عصر بعيد وسجلت على تلك الأقراص السوداء الغليظة التي نسميها (الأسطوانات) التي تدار بلفوتوغراف اليدوي ..توضع في ذراعه إبرة صغيرة تشبه إبرة ماكينة الخياطة , تظل تنحت في القرص بينما هو يدور ويدور ..
وكلما تآكل سن الإبرة استبدلت بغيرها . لكن الأقراص تتطور في صنعها ،فتنقل الأغنية العتيقة إلى الأقراص الجديدة.. لتدار هذه المرة على أقراص أرق و أرق ، تدور على أجهزة تعمل بالكهرباء ..

ثم ترتقي التقنيات أكثر فتنقل الأغنية الهرمة إلى أقراص أكثر تطورا تعمل بالليزر ..على نمط (C.D) و رغم معالجة التشوشات في الأغنية المتآكلة إلا أن حشرجات الزمن تظل تنبعث منها ، لتشير إلى انتهاء صلاحيتها و عدم ملاءمتها لذائقة العصر المتبدلة!هكذا تماما تنتقل المعطيات ذاتها التي تصيغ كيان المرأة ، مستبدلة وسائلها كل مرة لتبقي على مضمونها الثابت . و الذي لا يمكن الخروج به نحو مساحة الإضاءة .. نحو مشرط الرؤية و النقد والتفكيك . لتعيد صياغة الكيانات الغائمة المبهمة وفق شروط العصر و التبدلات و الوضوح !
# # #

إذن لماذا نكتب و فعل الكتابة أصعب من طلق الولادة . هذه التي لا تميزنا ككائنات إنسانية بقدر ما تميز جميع الكائنات الولودة في الطبيعة عن ذكورها ! . لكن طلق الولادة وجع آني .. أما الكتابة فهي وجع ممتد …إذن لماذا نكتب و نحن ندرك أننا نضع أصابعنا –المنذورة للحناء- في أسيد الكتابة الحارق؟.
# # #

الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي يقول :(( الكتابة هي الإشارة للأعضاء كي تستأنف نبضها .. للجذور كي تعيد تأهيل قارة التاريخ .. للأيادي كي تستعيد وظيفتها الاستشفائية .. للعيون كي تستعيد قدرتها على الرؤية.. للكلام كي يهيكل من جديد عناصر الكيان المتناثرة ، و يعيد له ذاكرته الخاصة.. الكتابة معاناة جسدية مضنية..صراط حقيقي ..وفي الوقت نفسه بلسم وإكسير للانبعاث !))
هذا ما يقوله شاعر معروف و كاتب رجل ، صانع للثقافة منذ فجر التطور البشري ، داخل في نسيجها ، و حاضر في ساحاتها المتعددة . فماذا تقول المرأة التي تحاول النهوض بعد عصور من المناوشات الطويلة ، و ما زال عليها أن تناوش و تناوئ طويلا و شديدا حتى تثبّت أقدامها و لو كخيط رفيع في نسيج الثقافة .

" " "
الروائية هدى بركات تقول في إجابتها على سؤال وجّه إلى عدد من النساء (( لمن تكتب المرأة ؟)) : (ربما أكتب للفراغ! .. وحين أكتب أبعث بما يشبه تلك الرسائل التي تودع زجاجة و تلقى في البحر . فلو كان المرسل على جزيرتها البعيدة مستتبا في يأسه الكامل لما أرسلها .. إنه على الحافة .. على الصراط الذي يجعله بين صورة القعر و صورة عينين تقرآن .

أعتقد أن الناس (الأولين) بدءوا الكتابة على جدران الكهوف حين لم تعد المشافهة تكفي !! و حين أرادوا أن يتذكروا الزمن و يثبّتوا المواسم . أنا أكتب لأملأ فراغ العالم مني .. لأمتد خارج جسدي القليل .. لأشغل مساحة أكبر من تلك التي لي .. وحين نكتب فكأننا نسافر كثيرا و يتعدد وجودنا في الأمكنة .. أكتب أيضا للبيت الذي ولدت فيه منذ أن عرفت أنني سأغادره يوما لأن البنت كائن لا يقيم .. كائن يسير و لا مكان له ..نحن النساء نكتب لندل على قوتنا على شدّة بأسنا في غيابنا و حضورنا .. على تأثيرنا و ضرورتنا !)

" " "
الروائية إميلي نصر الله تجيب : (.. ثمة فعل من أفعال العشق الغريب يقوم بيني و بين الكلمات . ندخل سويا الغرف السرية ، و نغوص في دهاليز لولا حفر الكتابة في الوعي لبقيت مظلمة ،و مطوية . و حين ندخل ، أبصر كيف تشعشع المصابيح ،و تضاء الأنوار في السراديب و الأقبية ، و كيف تتحول الكلمات إلى قناديل معلقة ، توزع الفرح ،تنشر الانشراح ، وتحرر الجسد والروح معا ، من كل قيد و ثقل .
و أنا نفسي ، عندما أدخل تلك الزوايا الحميمة ، الخفية، لا أبقى ترابية ، بل أحسّني صرت ملاكا أو من طينة بعض المخلوقات الأثيرية . لذا أشتاق تكرار المحاولة . و إن حالي ، مع تلك الزوايا المتوارية في أعماق الكيان ، و التي كلما أمعنت فيها نبشا ، ازدادت احتجابا-هي مثل أحوال العشق الصوفي ، لهبته أبدا ،مشتعلة ،و حرقته لا ترتوي ، ومداه بلا حدود . أما وجه الحبيب ، في البحث الصوفي ، فيمعن في التواري ، كلما شعرت منه اقترابا ).
## ## ##

مرة أخرى .. لماذا ينبغي أن تكتب المرأة ؟
لأجل أن تفرغ البرمجة المضادة لذاتها وكيانها .. في عقلها وروحها وكيانها .. من أجل أن تعيد برمجة ذاتها وفق شروطها هي وتطلعاتها هي ..وفق أحلامها و قواها الكامنة و قدراتها الخفية وجوهرها المتميز . المرأة لا تكتب لأنها لا تريد أن تسقط في النسيان بعد موتها أو لكي توقف الزمن و تسرمد اللحظة ، كما يجيب الرجال عندما يسألون عن أسباب الكتابة . المرأة تكتب كي تؤسس حضورها ،لا في الواقع الذي غيبت عنه طويلا فقط بل في الواقع الإنساني بشموليته ، الواقع الذي وضعت فيه في زاوية منحنية و منسية ! تكتب كي تعبر عن حركة وجودها ، كي تعلن أنها كائن إنساني وموجود .. كي تنهض بذاتها ..وبالحياة في أرقى أشكالهاو تجلياتها. الكتابة فعل ممارسة للحياة لكن الحياة في عمقها وتعقدها ، في حدتها وشفرتها .. الحياة في مائها وحركة تبدلاتها .
فعل الكتابة هو فعل انبعاث وصعود .. وهو فعل تهشيم للتهميش الذي حاق بالمرأة وفعل تأسيس في الآن ذاته .

** ** ** ** ** **
الكتابة المبدعة إمكانية كل امرأة ، لأنها( فعل أنوثة ) كما يقول غاستون باشلار . الإبداع يعتمد الحدس والشفافية والطلاقة والعمق ، وهي جوهر الأنوثة وحقيقتها . والكتابة تنبعث من الاصطراع الداخلي بين المكبوت والمعلن ..بين الرغبة في التحقق والغياب المقنن بين التوق للتبدل والتغيير والسكون القسري . وهذا الاصطراع هو الواقع الذي تعيشه كل النساء بوعي أو بدونه!

** ** **
المرأة والكتابة
(
لقد بدأت الكتابة في الوقت الذي ترفو فيه النساء جوارب أحفادهن !)
هذا ما قالته الروائية اللاتينية ايزابيل الليندي حين سئلت عن بداياتها في الكتابة

* * * * * *
منذ سنوات كنت أحاول الكتابة في بحث يتناول إشكالية الإبداع عند المرأة العربية . يعتمد أساسا شهادات مسجلة لنساء يمارسن الكتابة الإبداعية أو مارسنها وتوقفن . كنت أجري مقابلات وفق سير الظروف في أقطار عربية هنا أو هناك . ألا أنني لم استكمل البحث بسبب حصار الضرورات والإحباط الذي يشل أية محاولة جادة فأرجأت البحث ككل الأحلام الجميلة في حياة النساء! لكنني وأثناء التحاور مع الكاتبات استخلصت عدة ملاحظات منها أنني أدركت القاسم المشترك الأكبر بين النساء في تعثرهن في مجال الكتابة! علما بأن كل النساء اللاتي قابلتهن يعملن في مجلات وظيفية مختلفة!
كنت قد قسمت النساء في البحث إلى ثلاث فئات : فئة مارست الكتابة وكانت نساؤها تواقات،طامحات للتطور في تجاربهن لكنهن توقفن عن الكتابة تماما بعد الزواج ،ولم يعاودنها بعد ذلك !
وفئة انقطعت عن الكتابة بعد الزواج ثم عادت إليها بعد سنوات ،بعد أن كبر الأولاد على حد قولهن .وفئة واصلت الكتابة بعد الزواج مع خوضهن صراعا دائما بين ما تتطلبه الكتابة وتطورها من شروط ،وبين ما تتطلبه العائلة من شروط مضادة. لكنهن انتصرن لتجربتهن الإبداعية وأكدن حضورهن في الساحة الثقافية!

# # #

لقد لاحظت أن عند هؤلاء النساء جميعهن كانت العائلة والمنظومة الخدماتية المنذورة لها المرأة وفق القيم السائدة في المجتمعات العربية تشكل سدا منيعا وعائقا حقيقيا وقاهرا ضد تجربة الكتابة ضد الإبداع و ضد تحقق الذات بالصيغ الانتقائية التي تحددها المرأة بنفسها!
العامل الثاني : القيم والتقاليد والأعراف و المحظورات التي صيغت عبر قرون واستمرت إلى اليوم ،ورغم اهتزاز الكثير منها عبر حركة التطور والتبدلات التي نالت الكثير من حيثيات تلك المفاهيم، إلا أن النساء جملة مازلن يرتعشن خوفا من اقتحام مجال الكتابة الأدبية باعتبارها أكثر الخروقات- تلك المنظومة من المفاهيم التي صيغت منذ عصور ولم تكن المرأة –قطعا- فداحة- لجدار ضمن من صاغوها !
هذا في العام الشمولي ، أما في الخصوصيات المتعددة للنساء اللاتي قابلتهن فان الفئة التي تركت الكتابة بعد الزواج تعللت نساؤها بكثرة الإنشغالات ، وما تتطلبه تربية الأولاد من جهد وطاقة ، ورضوخهن لاشتراطات الزواج الذي اعتبر الكتابة عملا لا يليق بزوجته وسمعته الاجتماعية !

أما الفئة التي واصلت الكتابة بعد انقطاع طويل فقد ذكرن نفس الأسباب إلا أنهن عاودن الكتابة بعد أن كبر الأولاد ، واكتسب الزوج مرونة أو مهادنة بغية الحد من الاضطرابات العصبية والمشاكل الانفعالية التي تثيرها الزوجة بسبب حرمانها من مواصلة تجربتها التي تشعر أنها تعيش داخلها وأنها الصيغة الوحيدة التي تحقق بها ذاتها .
بعض تلك النساء قلن لي :أنهن شعرن وأدركن فيما بعد أن المؤسسة الزوجية والأطفال والعمل الوظيفي بالرغم مما يوفره من استقلال اقتصادي لم يمنحن الإحساس بتحقق الذات وظلت رغبة الكتابة في أعماقهن جمرة لا تنطفئ !

أما النساء اللواتي لم يتركن الكتابة أصلا ، فقد خضن صراعا يوميا مع الأسرة والزوج والمجتمع وحتى مؤسسات النشر و دور الصحف، وأنهى بعضهن الصراع بالخروج من مؤسسة الأسرة أو الحياة الزوجية (بالانفصال). أما اللواتي لم يخرجن من إطار السرة والحياة الزوجية فإن السبب يكمن –بالنسبة- لهن في تفهم الزوج وتشجيعه .
قلن لي :إن تشجيع الزوج وإيمانه بقيمة الكتابة واعتزازه بزوجته الكاتبة اكسبهن الشجاعة لمواجه تحديات القيم المحيطة والكامنة لا في المجتمع فقط بل في الذات نفسها!!

وفي هذا المثال تكمن فداحة الاتباع الذي عاشته المرأة ككائن موجود بغيره لا بذاته ..كما تكمن سطوة الرجل كممثل ومنفذ لقيم المجتمع واستلابه المرأة وتزييف وعيها.

إن الملاحظة التي تبعث على الأسى حقا هي أن اغلب النساء اللواتي قدمن من تجارب تتسم بشيء من التطور والنضوج قد تجاوزن سن الشباب ، ذلك العمر المفعم بالحيوية والتدفق والنشاط والحماس للحياة والقدرة على الابتكار وتوليد الأفكار . إذ بينما كان ينبغي أن يخلصن لتجاربهن في الكتابة و يستجبن لشروطها ويسرن بها نحو النضوج والتطور والإضافة المبدعة قضين أكثر تلك السنوات (الخضراء) في الصراع مع كل أشكال المعوقات المقنّعة والسافرة !

ولعل ايزابيل الليندي قد مرت بظروف مشابهة جعلتها تبدأ الكتابة بعد أن أنجزت مهمتها التاريخية !!

# # #

المرأة بين الذات والذات
لماذا يكمن في عمق لا وعي المرأة إحساس خفي بهامشية الكتابة (كتابتها) بثانويتها كقضية تقتضي الدفاع عنها والانتصار لها ؟ ولماذا تشعر اكثر النساء بخوف غامض وارتباك ممض من ممارسة الكتابة ؟ فيما يبدو لبعضهن أنها تتطلب شجاعة الفرسان القدامى في عصر السيوف!؟

# # #

لقد لاحظت أن النساء اللاتي تركن الكتابة بعد الزواج لم تتجاوز أحلامهن سقف البيت ! ولم تكن الكتابة بالنسبة لهن أكثر من لهو الصبا وممارسة لتزجية الفراغ في انتظار تحقق الحلم المثالي الذي يجدن مرجعيته في نمط التربية الأسرية والمجتمعية وكافة وسائل الإعلام! واللواتي عدن إليها بعد أن كبر الأولاد ، فقد شعرن أنهن بحاجة إلى إكساب حياتهن معنى آخر وقيمة غير تلك التي كرسن لها ! أما النساء اللاتي صارعن كل أشكال المعوقات في الحياة التقليدية ليبقين جذوة الإبداع متقدة وانتهين إما بالتوفيق بين شرط الإبداع وشرط العائلة ، أو بالقطيعة . فقد أكدن أهمية الكتابة ومركزيتها في حياتهن وانتصرن لها. لكن هؤلاء النساء قليلات حد الندرة، ويبدو كما لو أنهن يتمتعن بشجاعة فائقة!

# # #

إن التهميش الذي تمارسه المرأة ضد ذاتها المبدعة تتجلى في حيثيات كثيرة في حياتها ، لا يعود أكثرها إلى عوامل خارجية(المجتمع بمسبباته المختلفة) بقدر ما يعود الجزء الأكبر منه والأعمق إلى المرأة ذاتها ودرجة وعيها وتحصيلها الثقافي وليس الأكاديمي فقط!

فالمرأة الكاتبة لا تجعل من الكتابة قضية مركزية في حياتها، تدور حولها وتصب فيها كل تجاربها وثقافتها وعلاقاتها الاجتماعية والأسرية، كما يفعل الرجل المبدع الذي يجعل من إبداعه قضية مركزية في عمق وجوده الإنساني ،ومحورا تدور حوله كل تجاربه وثقافته وعلاقاته الاجتماعية والأسرية.. بل كل حركة وجوده، وتصب فيها.

إذ أن الكتابة عند المرأة ليست أكثر من جملة في مقال حياتها القصير ! لذا يصبح من البديهي أن لا تسعى المرأة الكاتبة لتذليل العقبات التي تحول بينها و بين ممارسة الكتابة أو الخلوص لها و تطويرها .
إن شروط الكتابة كثيرة تحتاج إلى عمر كامل لإيفائها ، منها شرط العزلة ،الوقت ، الثقافة العميقة و الشمولية، الإيمان العميق بجدواها و قيمتها لا في حياة الفرد فقط بل في حياة المجتمع الواحد و المجتمعات البشرية كلها !

# # #

فيما كنت أعمل في بحثي ( حول معوقات الإبداع عند المرأة ) لحظت أن المرأة العربية التي تمارس الكتابة مبدعة كانت أم باحثة لا تملك غرفة أو زاوية خاصة في بيتها تتوحد فيها بالكتابة و القراءة . بعكس البيوت التي يكون الكاتب أو الباحث هو الرجل .
أما المرأة التي سمحت لها ظروفها الاقتصادية و درجتها الأكاديمية العالية و خصصت لها (بسببهما) غرفة مكتبة . فإنها أكدت لي (بلهجة المتذمر و إحساس الضحية) أنها لم تدخل غرفتها لا للقراءة و لا للكتابة منذ زمن طويل . لأن مشاغلها في البيت و الوظيفة و التزاماتها الاجتماعية لا تمنحها فرصة الدخول إلى مكتبتها! و قد تجلى صدقها باكتظاظ المكتبة بلعب الأطفال و زوائد البيت !لكن حتى المرأة التي تشعر باحترام أكبر لكونها باحثة أو كاتبة فإنها لا تملك القدرة على قفل باب غرفتها و فرض طقس الكتابة على طقس المجاملات الاجتماعية و طلبات العائلة ! التي باتت تضطلع بها الخادمات في مجتمعاتنا الثرية!!
هكذا إذن تنتصر المرأة التقليدية ( الأم - الأخت - الزوجة - الشخصية الاجتماعية - الموظفة) على المرأة المبدعة الباحثة في ذات المرأة نفسها!

# # #

نادرات هن النساء اللاتي يعلين الذات المبدعة في أنفسهن على الذات التقليدية دون أن يشعرن أن الأولى تنحي الثانية أو تلغيها ، كما تفعل الذات التقليدية بالذات المبدعة!

إن سطوة الذات التقليدية تكمن في سهولة تعاطيها ، فإن تكون المرأة أما و زوجة أو شخصية اجتماعية أو موظفة في مجال روتيني أمر ليتطلب شروطا خاصة و ثقافة عميقة أو تفكير مجهد أو سعي حثيث لتطوير الوعي بالذات و الوعي بالخارج ، أو اشتراطات أخرى كالعزلة و الوقت و الهدوء …الخ مما يحتاجه الكاتب كي ينجز عمله!
ألا يبدو أن الإبداع / الكتابة / طموح أعلى من السقوف الوطيئة التي يؤسسها الواقع اليومي الفج؟

إنه مشرط حاد للكشف عن جوهر النفس و تشذيبها من التشوهات التي تعلق بكينونتها الإنسانية ، إنه تطهير للحواس و الروح من كثافة الاتّباع و غلظة المقولات التي نسلم لها حياتنا الإنسانية الثمينة!

# # #

نحن نرى في جميع المظاهر اليومية أن الواقع يعلي من شأن الذات التقليدية عند المرأة و الرجل على حد سواء ، لكن لأن السياج المحيط بامرأة أكثر صلابة و كثافة ، فإن التسليم للذات التقليدية و الاستجابة لدعوة الواقع أكثر يسرا و أسهل ممارسة و أكسب للرضى و المباركة ، بل أكثر حصدا للمنافع الصغيرة في المجتمع ! لكن ماذا تكسب الذات المبدعة في انتصارها ، أكثر من الفرح العميق الذي يمنحه الإنسان لنفسه ؟ و أكثر من الإحساس بالتعالي على الصغائر ؟
أهذا ثمن بخس؟

نصف الأدب .. نصف التاريخ
أنجزت الكثيرات من النساء في العقود الأخيرة من هذا القرن بعض شروط وجودهن ككائنات إنسانية تتمتع بقدرات و طاقات موازية و متساوية لما يتمتع بها الرجل . فدخلن عصب الحياة الاقتصادية كقوة عاملة . و نلن الاعتراف ببعض حقوقهن في المجالات التشريعية . وأفسحت لهن المجالات التشريعية. و أفسحت لهن المجالات المختلفة للإسهام في مشاريع التنمية . و برزن في مجالات العلوم الإنسانية المتنوعة ، و اقتحمن الحياة السياسية و شاركن في صنع القرار بأعلى مستوياته المصيرية في بعض دول العالم . و في بعض البلدان العربية نلن الاعتراف بحقوقهن السياسية كأعلى شرط تنص عليه الدساتير عامة لاكتمال المواطنة.

# # #

ضمن هذه التحققات ، تدخل المرأة نسيج الحياة الثقافية كقوة مبدعة و مجددة في مجالات الفنون و الأدب . إلا أن الملاحظ أن النساء اللاتي تحققن على هذا النحو قليلات حد الندرة . فمازالت الساحة الأدبية و الفنية ، و تفعيل الحياة الثقافية بتعدد وجودها و أغراضها مناطة بالرجل و ما زال قلمه يجري وحيدا في رصد الوقائع أو التأسيس لها ضمن منظور واحد و قيم واحدية . الأمر الذي يجعل من هذا المنظور و تلك القيم عسيرة على التبدلات الجذرية، عصية على الاستجابة لمعايير التجدد!

# # #

إذا ما اعتمدنا الدقة الموضوعية ،وانطلاقا من قاعدة أن النساء نصف أي مجتمع فسنصل إلى أن تفعيل الحياة الثقافية يقوم على نصف المجتمع فقط . لذا سيظل ذلك القلم وذلك المنظور و تلك القيم دون شرط التكامل أبدا.

# # #

نحن نقرأ أن الأدب مرآة الأمة ، و المعبر عن وجدان عصرها و تاريخها ، فإذا كان نصف الأمة غائبا عن ساحة التعبير هذه ، فكيف نعتبره مرآة صادقة تعكس وجدان الأمة كلها ؟. ألسنا هنا أمام مسألة حسابية ملتبسة ؟. فإذا كان الرجل + المرأة = الكل. أو النصف + النصف = 1 (الكل) فكيف يمكن أن يكون النصف وحده مساويا الكل ؟. ألا يبدو أننا نقرأ نصف الأدب ، و نصف التاريخ و نصف الوقائع … الخ . و مع ذلك نرى أن الواقع اليومي في تفاصيله الدقيقة يجعل المعادلة الموضوعية معادلة افتراضية ، أو رمزية فالرجل يرمز للمجتمع كله ، بينما لا يشار إلى المرأة حتى على أنها نصف المجتمع إلا في صفحات بعض الصحف ، و بعض صيغ المجاملات الاجتماعية الأخرى !

# # #

لكن هل حقا أن هذا الافتراض أو هذا الرمز مجاف للوقائع و متعد عليها؟ باستقراء سريع سندرك أن هذه المعادلة الرمزية حقيقية و موضوعية جدا ، إذ أن المجتمع كقيم و قوانين و حركة و تفعيل طاقة .. المجتمع بمفهوم سياسي و مفهوم اقتصادي ومفهوم تاريخي ومفهوم ثقافي ، وما يندرج ويتفرع بين هذه المفاهيم ومنها هو من إنجاز الرجل الذي سيصبح بسبب من ذلك الإنجاز هو المجتمع كله، في غياب المرأة عن ذلك التفعيل وانسحابها إلى الوراء.لذا سيظل الأدب- كمثال-وحيد القلم والمنظور والقيم .وإنها لوحدة قاسية أن يبقى الرجل مضطلعا بكل هذه الاعباء الجسام ، عابرا في سبيل إنجازها بكل المنعطفات الوعرة مستلهما في أكثر الأحيان قيم عصر الصيد حين كانت النساء يقبعن – لحماية صغارهن من الافتراس –في الكهوف ويقمن في علاقة رحمية مع الأم الأولى – الطبيعة – ليتغذين بثمارها أو يعدن إنتاجها في إطار حركتهن المقيدة بالصغار ، بينما يمضي الرجل وحيدا-قاتلا ومقتولا- في البحث عن غذائه !

# # #

تلك أزمنة ولت في سيرورة التطور البشري الهائل، و لم يعد بالإمكان الاتكاء على مبدأ تقسيم العمل الذي انحدر من ذلك العصر . هل يبدو ذلك ممكنا بعد أكثر من سبعة آلاف عام !

# # #

وإذا ما كان الرجل هو الذي أنجز كل هذا التطور البالغ الدهشة، و إذا ما مضى في وحدته القاسية يؤسس هذه الحضارات، أليس من البديهي أن يتم إسقاط ذلك الشعور العميق بالوحدة في نظرة دونية لعالم المرأة و كيانها ؟!!
أو ليس ذلك الإنجاز الفائق هو الذي منح الرجل الإحساس بالقوة و السيادة و الجبروت؟ ألا يشعر الإنسان صغيرا كان أم كبيرا امرأة أم رجلا بالفخر و الاعتزاز و التفوق و الثقة بالنفس و القوة حين ينجز عملا عظيما قيما في نظر الذات و الآخر ؟. أليست هذه طبائع الأمور و المشاعر ؟.

# # #

حدثتني صديقة تعمل في مجال التحليل النفسي، إنها لاحظت في تجربتها مع النساء اللاتي ترددن على عيادتها، إن المرأة تعيش إحساسا خفيا بكونها ضحية!و هي تستمتع بهذا الإحساس الذي يصبغ سلوكها و حياتها و تقييمها لنفسها ، و يمنحها في الوقت نفسه فرصة التنحي عن تفعيل حياتها و يعفيها من الشعور العميق بالمسؤولية تجاه ذاتها و قدراتها و التحديات التي تواجه أي نشاط غير تقليدي تمارسه.. بل إنها تجد في هذا الشعور تبريرا لمخاوفها و انسحابها . و أكدت ، أن أغلب النساء لا يشعرن في أعماقهن الخفية بالمسؤولية حتى تجاه أدوارهن التقليدية . إذ أنهن يشعرن أن هذه الأدوار ليست خيارهن الوحيد ، و في الأغلب مقسرات على القيام بها!
هنا ينهض سؤال آخر : كيف يمكن للإنسان أن يشعر بالمسؤولية تجاه أمر لم يختره و لم يصنع قوانينه و أطره؟.




 

free web counter