| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمدة خميس

 

 

 

الأحد 12/4/ 2009



المرأة ووعي الذات

حمدة خميس

رغم أن الوعي والذات مصطلحان يحيط بهما الالتباس حينا والغموض اكثر الاحيان لآن الذات كصفة للفرد لا تكون خالصة لاختلاط نسيجها منذ نشوء الانسان بذوات الجمع، وهي بذلك مركب بالغ التعقيد والاشتباك يصعب فرزها وتحديد تضاريسها الخاصة والمفردة. اما الوعي فإن غموض تحديده يكمن في قدرته على التماهي باللاوعي من جهة والوعي الجمعي الذي تشكله الايدلوجيا والقيم والاعراف والمؤسسة من جهة ثانية. فكيف يمكن فرز الوعي الخالص من مسيرة هذا التماهي؟

يتحدث الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون مطولا عن معنى الوعي بمنظور فلسفي عميق في دلالته،وفي ظاهرة يتماس مع الحياة في تجلياتها اليومية: ( فالوعي هو الذاكرة،وهو والانتباه للحياة ، وهواستشراف المستقبل.وهو ايضا الحرية والقدرة على الاختيار . لذا فان الوعي يبلغ ذروة الحيوية في لحظات الازمة الداخلية حين نتردد بين امرين نتخذهما،وحين نشعر ان مستقبلنا سوف يكون ما تصنعه ايدينا.)

عند هذه النقطة يمكننا ان نتأمل واقع المرأة ووعيها بذاتها وفيما اذا كانت تستطيع ان تفرز ذاتها الخالصة بوعي شديد الانتباه لواقعها كذاكرة وللحياة كاستشراف للمستقبل الذي تتوق الى صياغته بيديها ووفق وعيها الخالص وذاتها الخالصة،حين تقتحم ذلك العالم الصعب ،المركب ،والحر في الآن ذاته، عالم الكتابة بوصفها ابداعا واجتراحا وخلقا،وخروجا فادحا على المؤسسة .

اللغة كمادة للكتابة، والادب - اذا ما اخذنا هذا الجانب فقط- والثقافة كمحيط ومنجز، صنعت وتأسست خارج عالمها. وليس حضورها في هذا العالم الا بصفتها موصوفا،لا واصفا، ولا صفة. اي لا مبدعا ولا رمزا. والى اليوم يستنكف الرجل - رغم الدراسات الظاهراتية التي ترى ان الابداع هو الجانب الانثوي ( النفْس مقابل النَفَس) في الانسان- ان يقر بهذا التعريف،لا تفنيدا له ، بل تعاليا من ان يكون الرجل بوصفه الجنس البشري الاعلى والاذكى والاقوى، في مقام الجنس البشري الادنى في الطبيعة وفي المجتمع والقيم.. وقائمة كبيرة يصعب حصرها الآن.

لقد اقتضى منطق التعالي هذا ان يأخذ ابداع المرأة الادبي حيزا ادنى ورتبة اقل في مراتب الثقافة والابداع تحديدا،والمناهج النقدية والاقرار المتساوي مع ابداع الرجل/المؤسس/ الاعلى. واذ تخوض المرأة صراع المعيقات المشتبكة والواسعة الطيف لتفرض حضورها كعقل مبدع ،وطاقة انسانية نشطة ومنجزة،فأن التنحي قليلا عن حيز صغير في مشهد الواقع وايدلوجيا التطور وشكل من اشكال التنازل- رغم ان المرأة قد حصلت عليه بالصراع- سيبدو مكرمة أو تفضلا.لكن الواقع سيثبت ان هذا التنحي يضمر وعيا زائفا،اذ سوف يقصي هذا الكائن المتعالي ابداع المرأة عن مفهوم الانسانية وينفيه الى ذلك المجهول والملتبس الذي يسمى "النسوية" بمفهومها النضالي في الغرب،ومفهومها المتطرف والناشز في الشرق ذو النزعة الاصولية المتئبدة. وهذا المفهوم في القراءة النقدية المتيبسة سينطوي في تعريفه المضمر على اللاانساني ويصاغ هذا الاقصاء في سؤال مراوغ يقول:( كتابات المرأة..ادب نسائي ام أدب انساني؟) حسب ما ورد في احدى ندوات الابداع التي عقدت في إحدى العواصم العربية،ويرد دوما في كل مناسبة ثقافية تعنى بإبداع المرأة ،وفي كل مقابلة إعلامية تجرى مع أية كاتبة عربية في أي مكان وزمان ،بل حتى في القراءات النقدية أو الانطباعية رغم قلتها أو ندرتها. ومع ان السؤال يتخذ صياغات متباينة بين إعلامي وآخر، ووقت وآخر، ألا أن المضمون ودلالاته المضمرة تبقى واحدة.

ورغم انني اعتقدت ان الزمن والمحن التي تمر بها (الامة) العربية قد عملت ( من منطلق قاعدة التراكم على الاقل)على ايقاظ الوعي حول مفهوم الانساني والنسائي،وهذا الفرق القصدي والملتبس في الآن ذاته حولهما، الآ انني كنت واهمة شأني دائما! لكنني سأطرح سؤالا واضحا لا التباس فيه:هل المرأة انسان اما لا؟ وهل ان المنهج النقدي الذي يأخذ بالمفهوم الانساني قد فصل على ادب الرجل وحده؟-رغم انه كذلك في منشأة- وكيف يكون هذا الادب انسانيا اذا اقصيت المرأة / الانسان، منه؟

عندما تسأل الكاتبات حول رأيهن في مفهوم الأدب النسائي، ينفين بشدة هذه (التهمة!) ،ويؤكدن على أن إبداعهن ينتمي إلى مفهوم الأدب الإنساني!! في الشق الثاني هن يؤكدن الحقيقة البديهية. وفي الشق الاول يتبدى غياب الوعي بالذات الأنثوية كقيمة ثمينة.
إن هذا النفي وهذا التأكيد يضمران رغبتين: نفي الدونية الذي ينطوي عليه مفهوم النسوية. والطموح للارتقاء إلى رتبة الإنسانية(!!!).

هنا أتساءل : ما هو هذا الأدب ذو القضايا الإنسانية هذه التي لا تدخل المرأة ومعاناتها وقهرها وأحلامها وكينونتها، بندا محوريا هاما وخطرا في بنودها؟ هل انا كأمرأة عندما استلب جسدا ووعيا وطموحا وعقلا فان هذا الاستلاب الشامل والفادح لا يعد حين اصرخ به في ادبي، من القضايا الانسانية ؟ ثم ما هي هذه القضايا الانسانية؟ الجوع والتشريد والقتل والحروب واللامساواة والتمييز الجنسي والعنصري والقمع ومصادرة الحريات والحقوق العامة والخاصة والطبقية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و..و..الى آخر القائمة الطويلة التي لا يبدو انها ستتناقص ابدا! هذه القضايا الانسانية وفق المصطلح السائد، هل هي معاناة الرجل وحده ام انها معاناة الجنس البشري برمته ؟ الا يتحدث المنظرون ( الفطاحل) عن ان معاناة المرأة وقهرها مزدوجان؟ اذن .. واذا قبلنا بهذا التنظير،الا تصبح قضايا المرأة وبالتالي ادبها او ابداعها الذي يتناول هذه القضايا اشد او اكثر انسانية وفق منطق الرياضيات فحسب والذي يقول ان العدد المزدوج اكبر في القيمة من العدد الفردي.وبناء عليه يصبح الادب الذي تبدعه المرأة انسانيا مرتين.وبناء عليه ايضا تصبح رواية او قصيدة تبدعها المرأة في القيمة الادبية والانسانية تساوي روايتين او قصيدتين يبدعها الرجل!!

هل سنتحدث بهذا المنطق ام ان النقاد (الانسانيون جدا) سينتبهون الى هذا الوعي المبهم والزائف الذي يدورون فيه ويقيسون به الادب الذي تبدعه النساء؟
وهل اذا قلنا بالادب النسوي ستنتفي منه صفة الانسانية؟ أليس هذا تقسيم يدعو الى مراتبية ، تدعو بدورها الى السخرية؟.ولماذا تستعر النساء من نسويتهن ليؤكدن انسانيتهن؟ اليست النساء كائنات بشرية،والانسانية قيمة تصف كل البشر؟ فلماذا انفي خصوصيتي لأثبت ما هو طبيعي وبديهي؟
الا يعبر نفي الخصوصية عن غياب الوعي بالخصوصية ،وبالذات الخالصة في حريتها المفردة؟

ان وعي الذات الخالصة امر صعب بالنسبة للانسان الذي تحكمه قيم الجماعة بشروطها واحكامها المتباينة والمشتبكة، والتي تشكل الشخصية الانسانية.فمنذ الولادة وعبر مسار العمر تصاغ الذات المفردة بصيغ الجماعة ويصبح صوتها حتى في اعماق اللاوعي ليس الا صدى ذلك الصوت الجمعي حتى في اشد الحالات التي تصطرع فيها الذات الخالصة بذات الجمع لتنفرد بالخصوصية والافتراق والمغايرة. ولا يتساوى الناس كلهم في هذا الاصطراع اذ يخضع البعض خضوعا تاما لذات الجماعة رغم توهمها الفرز والاختيار،فحين لا تكون الحرية بيئة شاسعة يتلقى فيها الانسان تربية تنطلق من الاحترام البالغ لكينونته الانسانية منذ طفولته الباكرة، وما تنطوي عليه هذه الكينونة من طاقات وقدرات وذكاء وتفرد، تضمر الذات الخالصة وتضمحل امام سطوة صوت الذات الجمعي ، وتفقد القدرة على الوعي بالماضي لاستشراف المستقبل، والانتباه للحياة كمصدر للمعرفة ،لإذكاء النشاط الخلاق للعقل،والاختيار كتعبير عن الحرية والتفرد والاختلاف ،ويصبح كل فرد هو نسخة عن الآخر وكل رأي يصدر عنه هو تعبير عن رأي الجماعة ،وكل سعي يقوم به انما يهدف الى اكتساب رضى الجماعة واستحسانها خوف ان يفرد المرء "كالبعير الاجرب" وفق البلاغة العربية.ولأن عين كل فرد على عين الجماعة يصبح الخروج من هذه الرقابة نشوزا ومروقا وتعارضا وضدية ،و الذات الخالصة لا سلطة لها حين لا يكون لأنسانها الحق في الاختلاف والاختيار ،اما سلطة الجماعة فإن مصادرها عديدة ،وليست كل بنودها مسطر في كتاب.وهذا الخفاء الذي تتماهى به بعض مصادر سلطة الجماعة يكون اشد قوة وابلغ تأثيرا في مصادرة الذات الخالصة وإسكات صوتها المنفرد والحر.

اذا كان هذا هو حال كل إنسان بصفة عامة في المجتمعات ذات السلطات الشمولية والقيم المتيبسة،فإن حال المرأة يكون أسوأ مرتين. فالمرأة تتلقى نمطا خاصا من التربية الاستلابية،تعمل على الدوام إلى إلغائها كذات حرة ومنفردة لتصبح ذاتا قائمة بغيرها لا سلطة قرار لها ولا حرية اختيار ، وهي في مقامها المتدني هذا، تصير تابعا أبدا وتصير حياتها وعالمها هامشيا ، فاهتماماتها سطحية وحديثها ثرثرة فارغة (كلام نسوان). وعلى الرغم مما تنطوي عليه حياتها من العذابات والآلام والاضطهاد والاستلاب ، لا يحق لها إعلان صوتها،والمجاهرة باحتجاجها. وان أعلن هذا الصوت وهذا الاحتجاج، فان أحدا لا ينصت ا ليه، و لا يلقى اهتماما ولا قبولا.من هنا يصبح أدب المرأة وكتاباتها اجتراحا ونشوزا تظل تدفع ثمنه على الدوام ،في عيشها وعلاقاتها ووجودها.

ولكن.. لأن المرأة في العقود الأخيرة من القرن الماضي قد اكتسبت بعض الحقوق في مجال التعليم لإعدادها كيد عاملة تسهم في التنمية الاقتصادية (إذا سمحت لها رموز العائلة) تبقى دوما دون مستوى الرجل مهما كانت درجتها العلمية ومهارتها المهنية، كما تبقى أدنى موقعا على الدوام في السلم الوظيفي ،والخبرة العلمية ،ودون مستوى صنع القرار بالتأكيد،أو حتى صياغة بيان في ندوة أو اجتماع تكون هي وعالمها محوره . ويمكننا ملاحظة هذا في الندوات واللقاءات التي تعقد هنا وهناك من الوطن العربي حيث يكون الرجل هو الذي يرأس الاجتماع ويقرر الندوة ويشرف على ضبط مسارها كما يدخل عنصرا هاما في أوراق عملها إذ أن الرجل (أدرى بمكة وشعابها!!) ويصوغ بيانها النهائي في أكثر الأحيان ،أو يرفع إليه البيان لتدقيقة وتوقيعه. .ولي في هذا الشأن تجارب واسعة شملت جميع مجالات السياسة والعمل و الثقافة وشؤون النساء وحقوقهن. لذا فأن أدب المرأة لابد أن تفرض عليه الوصاية،الخفية قبل المعلنة.وان بلغت المرأة قدرا من الجرأة لرفض هذه الوصاية باعتبار نفسها كائنا راجحا راشدا مكتمل العقل،فأن الوصاية سوف تتخفى بأقنعة النقد ،ومعايير الأدب الإنساني لتخرج المرأة من هذا الكمال كله وتعود إلى عالمها الهامشي أو في صيغة أخرى النسوي.

قليلات هن النساء الكاتبات اللاتي وعين ذاتهن الخالصة، طبعا، بعد دفع ما يسمى بالثمن (!) وخسارة الامتيازات الاجتماعية وربما الأسرية والمعيشية.ورفضن استبدال النسوية بالإنسانية لعدم جواز المقارنة قطعيا.

تقول الكاتبة سلوى النعيمي وهي من القلائل التي تضع نسويتها في مقام الامتياز وصوت الاختلاف(ربما لأنها تعيش في فرنسا،ولهذا مغزاه):إن حلمي ككاتبة أن اكتب نصا يكتشف القارئ منه إنني امرأة، لأنني أظن أن أنوثتي جزء من هويتي ولا بد من أن أتلقى العالم على مستوياته المختلفة بهذا الجزء،ولذلك فكتابتي لا بد أن تكون مختلفة عن كتابة الرجل..)هذا وقد اعترضت على رفض بعض الكاتبات والكتاب تمييز الكتابة النسوية عن الكتابة الرجالية مؤكدة أن هذا الاعتراض لا يريد للمرأة أن توضع في المكانة المميزة والخاصة التي تستحقها،ويسعى الى تصفية وجود المرأة المبدعة . وان الشيء المؤكد أن هناك كتابة نسائية لها خصائص وسمات فنية وموضوعية وجمالية تميزها عن الكتابة الرجالية.

ان هذا الوعي بالذات الخالصة وصوتها الإبداعي ليس سائدا بين الكثير من النساء الكاتبات مع الأسف،فحين يطرح هذا السؤال الساذج والغامض القصد( هل ان كتابة المرأة أدب نسائي أم إنساني على الكاتبات، يسارعن إلى نفي تهمة النسوية آو الأنثوية على الأصح ليؤكدن أنهن يكتبن أدبا إنسانيا ،دون أن ينتبهن إلى فخ الدونية التي يراد لهن أن يؤكدنها من خلال نفي النسوية عن أدبهن وإلحاقه بالأدب الإنساني.كما لو أنهن لا ينتمين إلى فصيل الإنسان، وليست معاناتهن وقضاياهن قضايا إنسانية!!

لكن ما هي صفات الأدب الإنساني هذا، وما هي مقاييس نقده البالغة التفوق تلك ؟؟

هل ثمة من مجيب على هذا السؤال ؟؟


 

free web counter