| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمزة الجواهري

hjawahri@yahoo.com

 

 

 

 

الأثنين 18 / 12 / 2006

 

 

القطاع الخاص والخصخصة في الصناعة النفطية (1-6)


حمزة الجواهري

يبدو أننا سوف نسمع قريبا أن القانون الذي ينظم الملكية وعلاقات الإنتاج في الصناعة النفط والغاز قد قدم للبرلمان من أجل إقراره، وبالرغم من أن الموضوع بقي سرا على المالكين الشرعيين، أقصد الشعب العراقي، لحد الآن، وسوف يقدم للبرلمان على أنه الهيئة التي تمثل الشعب، دون أن يتركوا لنا فرصة لإبداء الرأي بهذا القانون، سامحهم الله، ولكن أجد نفسي مسؤولا عن تقديم رؤيتي التي تتعلق بهذا الموضوع بذات الوقت أدعوا جميع المتخصصين الآخرين لإبداء الرأي أيضا، لأننا نتحدث عن مستقبلنا جميعا.

في واقع الأمر إن هذا المقال من حيث الأساس كان الجزء الأعظم منه قد ظهر كمداخلة ساهمت بشرح مفردات مسودة برنامج الحزب الشيوعي العراقي المقدم لمؤتمره القادم، حاولت من خلالها وضع فهم واضح للقطاع الوطني أو الأجنبي الخاص، وإعطاء تصور صحيح لما نعيه بالخصخصة في القطاع النفطي، وربما باقي القطاعات الاقتصادية في البلد. حيث أسيء بشكل كبير لهذين المفهومين، أي القطاع الخاص والخصخصة، كنتيجة للتطبيق الخطأ لهما من قبل الأنظمة السابقة. ومن خلال هذا الفهم حاولت مراجعة احتياجات الصناعة النفطية على كل المستويات وفق منظور علمي، وعلى أساس قوانين اقتصاد السوق، من أجل وضع الأسس العلمية الصحية للنهوض بهذه الصناعة التي تعتبر المورد الأساسي للعراق.

كما هو معروف عن الصناعة النفطية، أنها كانت ومازالت تقدم خدماتها إلى نفسها بشكل ذاتي بعيدا عن تدخل القطاع الوطني الخاص، وهذه الحالة لها أسبابها التي سنوضحها من خلال السياق، ولكن في الوضع الجديد سيكون الأمر مختلفا في ظل نظام اقتصاد السوق.

السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن، أن كيف نستطيع تفسير التناقض القائم بين أن تبقى الملكية عامة للنفط وإشراك القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي في الصناعة النفطية؟

للإجابة على هذا السؤال الذي يبدو وكأنه إشكالية، لابد لنا من معرفة أن الصناعة النفطية كأي صناعة أخرى لها جانبين، الأول إدارة العمليات، كالإنتاج أو الاستكشاف أو إدارة مصنع، وجانب آخر وهو الجانب التنفيذي، أي العملياتي، وهي عمليات الإنتاج، وعمليات الاستكشاف، والمصانع والحقول الزراعية كلها تجري بها عمليات متنوعة تخصصية أو عامة. ففي العادة تكون إدارة المشروع، أي مشروع كان، بيد المالك الذي بذات يستعين بموظفين أكفاء ومخلصين في إدارته للمشروع، لكن الجانب الثاني من العملية، أي الجانب العملياتي، فإنه يمكن أن يكون بيد عمال وفنيين ثابتين أو مؤقتين وجهات أخرى كأن تكون مقاولين صغار أو كبار أو شركات تخصصية لتوفير الخدمات العملياتية أو التشغيلية الأخرى التي تجعل من عمليات الإنتاج متكاملة، وذلك وفق اتفاقات أو عقود لتوفير الخدمات المطلوبة مقابل تعهد مالي أو اتفاقية سعرية محددة، هذا الجانب، هو الجانب العملياتي والذي ليس بالضرورة أن يتم بيد المالك ولكن وفق مشيئته ورقابته وضوابطه.

وهنا، أي في الصناعة النفطية موضوع البحث، على الدولة أن تتمسك بإدارة العمليات الأساسية في الصناعة النفطية وترك الجانب العملياتي للشركات الخدمية، وهذه مساحة واسعة جدا للعمل تسمح بدخول القطاع الوطني الخاص والاستثمار الأجنبي. في حين يعتبر تمسك الدولة بالإدارة لهذه العمليات هو الضمان الأكيد لملكية الشعب لثرواته وعدم التجاوز على ثوابت الدستور.

يستطيع المالك أن يدير المشروع الذي يملكه بالكامل، وذلك باستخدام عقود أو اتفاقيات الخدمة لتوفير الخدمات المتنوعة، التخصصية والعامة، لتشغيل المصنع أو الحقل النفطي أو المزرعة، فإن استقدام شركات الخدمة سيوفر عليه الكثير، بهذا النوع من العلاقات الإنتاجية ستكون الإدارة بسيطة وغير معقدة فيما لو كان المشروع يقدم خدماته لنفسه. لنأخذ مثلا، فلو احتاج المصنع إلى شاحنة كبيرة، فإنه سوف يستخدمها بأقل من طاقتها التشغيلية، ويحتاج إلى سائق وخدمات وكراج وما إلى ذلك من مكملات تشغيل الشاحنة، وهذا الأمر ينطبق على جميع الخدمات المطلوبة التي تعد بالمئات، وهذا ما يجعل المؤسسة الإنتاجية متضخمة وكبيرة جدا، ومعظم العمالة فيها من نوع البطالة المقنعة، ويعتبر هذا النوع من الإدارة من أهم أسباب خسارة القطاع العام والفساد الإداري والمالي المعروفة لدينا في العراق، لكن بوجود شركات تقدم خدمات النقل فإنه ليس بحاجة لشراء وسائط النقل هذه، ويستطيع من خلال عقد خدمة مع شركة نقل عام أن يوفر لمصنعه كامل خدمات النقل بكفاءة أعلى وكلفة أقل، بذات الوقت ستربح شركة النقل لأن الشركة تقدم خدماتها لزبائن آخرين، وهذا ما سيزيد من الكفاءة التشغيلية فيها.

نبذة تاريخية عن الصناعة الخدمية في النفط :
في السابق، أي خلال النصف الثاني من القرن الماضي من تاريخ العراق الحديث، كان النفط، كقطاع، معزول تماما عن النشاط الاجتماعي والاقتصادي في البلد، حيث خلال المرحلة الأولى بعد تأسيس العراق الحديث أوائل القرن الماضي حاولت شركات النفط أن تعتمد على عقود للخدمة خارجية وبعيدة عن أي نشاط اقتصادي في البلد، فقد كانت جميع الشركات الخدمية المرتبطة بعقود مع شركات النفط، كانت أجنبية ومعظمها يقدم خدماته من الخارج، وإذا استدعى الأمر التدخل المباشر، فإنه سيكون محدود ومعزول عن البيئة العراقية بالكامل.

ربما كانت شركة نفط العراق أكثر كرما مع الشعب العراقي حين سمحت بالتعاقد مع شركات محلية لتقديم بعض الخدمات البسيطة كالنقل أو تجهيز المواد الغذائية وما إلى ذلك من خدمات بسيطة جدا ومحدودة، لكنها لم تساهم أبدا بتطوير منظومة شركات خدمية متكاملة تقدم كامل الخدمات التي تحتاجها هذه الصناعة، وبذات الوقت تساهم بتطوير الصناعة بشكل عام في البلد، ذلك لأن القانون لم يجبر الشركات منح عقود خدمة للشركات المحلية، وكذلك الشركات لم تكن ترغب بدمج المجتمع في عملها، لذا لم نسمع عن أي شركة عراقية تقدم خدمات نفطية تخصصية، مثل الحفر أو الخدمات المصاحبة لحفر الآبار كخدمات الطين أو الصيانة أو الفحوصات التخصصية لضمان النوعية وما إلى ذلك من خدمات تتعلق بهذه الصناعة، أي صناعة حفر الآبار، والتي تعتبر هي بحد ذاتها صناعة خدمية بالنسبة للنفط، لكن حين يكرس القانون من أجل هذا الموضوع، يكون لزاما على الشركات المنتجة إشراك شركات القطاع الخاص في الصناعة النفطية، وهذا ما يساعد على توسعها ونموها نموا متسارعا لكي تستطيع تلبية احتياجات الصناعة النفطية والصناعات البتروكيماوية وصناعة التكرير ومختلف احتياجات القطاعات الاقتصادية الأخرى في البلد، وهذا الأسلوب يعتبر أهم مظاهر اقتصاد السوق.

هذه الشركات التخصصية تقدم خدمات تجهيز وصيانة وخدمات آبار متنوعة وخدمات استشارية في جميع المجالات الهندسية أو الإدارية أو الاقتصادية وشركات بناء وأخرى لتصنيع ما يمكن تصنيعه محليا بحيث يمكن إدخاله في عمليات التطوير المختلفة. هذا الأمر لا يقف عند قطاع النفط ولكن بالضرورة، يمتد إلى قطاعات صناعية أخرى، لأن المكتب الاستشاري الهندسي أو الحقوقي مثلا يستطيع تقديم خدمات استشارية إلى مختلف القطاعات في البلد كالصناعة والبناء والزراعة وما إلى ذلك من القطاعات الإنتاجية والخدمية أيضا، حيث تتداخل الحركة بشكل منسجم بين هذه القطاعات المختلفة بشكل عضوى بحيث لا تجد قطاع من القطاعات ليس له وشائج من العلاقات مع القطاعات الأخرى، ربما يحسب المرء أن ليس هناك علاقة يمكن أن تنشأ بين القطاع الزراعي مع القطاع النفطي، ولو عدنا إلى تفاصيل هذه القطاعات نجد مساحات من العمل المشترك كثيرة وواسعة جدا.

مثل هذه العلاقات بقيت بعيدة عن ذهن العراقي تماما لرغبة مشتركة بين الشركات العالمية آنذاك من ناحية، والدولة من ناحية أخرى، ربما السبب واضح جدا لكلا الطرفين، حيث أن النفط لما يحققه من موارد مالية ضخمة يشجع قيادات الدولة أن تستأثر به لوحدها، شرط أن يبقى بعيدا عن أعين الفضوليين من أبناء الشعب الطامعين بالاستئثار بشيء من هذه الثروة، أما من ناحية الشركات فإنها على استعداد أن تقدم للشركات الأجنبية عشرة أضعاف ما تقدمه للشركة المحلية مقابل خدمة معينة لكي تبقى في البلد أمدا أطول من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن ما تقدمه الشركة التي تمتلك حق التطوير إلى شركات الوطن الأم يعتبر ربحا إضافيا لأوطانها على حساب أصحاب الأرض الحقيقيين، هذا فضلا عن إبقاء أصحاب الأرض بعيدين عن الثقافة النفطية، وخصوصا الخدمية منها، وغياب كل ما تتمخض عنه هذه العلاقات الإنتاجية، بلا شك، سيكون لصالحها وصالح بلدانها حين يبقى أصاب الأرض لا يدركون ما يجري لثروتهم، سوى تلك المجموعة من الناس المتخصصة في هذه الصناعة بحيث يمكن رشوتها أو ابتزازها وشل حركتها بسهولة، وبالتالي الاستحواذ على خيرات البلد بسهولة أكثر. ومن مفارقات الزمن، أننا نرى اليوم أن العراقي الذي بقي بعيدا عن الصناعة النفطية يراهن على كتابة قانون ينظم الاستثمار في الصناعة النفطية بما يضمن حقوق الشعب بملكية النفط، بذات الوقت نجد أن بعض أعضاء اللجنة المكلفة بكتابة هذا القانون لا تعرف عن هذه الصناعة شيء، ربما يوجد بينهم متخصص واحد أو اثنين، أما الحشد الذي سوف يرفعوا أياديهم للتصويت على القانون، معظمهم لم يرى لحد الآن لون النفط الخام، وهذا ليس استصغار بقدر النائب في البرلمان، ولكن هو قول حق ينبغي أن يحسب له حساب قبل أن تطرح مسودة القانون للقراءة الأولى في البرلمان. السبب هو أن الضغوط التي يسلطها الإرهاب بعملياته يجعل من العضو البرلماني مسلوب الإرادة إلى حد بعيد، وهو على استعداد أن يقدم أي تنازل مهما كان من أجل استعادة الاستقرار والسيادة للبلد غير مدرك لما يقوم به من جوانب أخرى قد تكون أكثر تخريبا لحاضره ولمستقبله.

كان هذا الأمر خلال المرحلة الأولى من تاريخ الدولة العراقية الحديثة، لكن خلال المراحل اللاحقة لم يكن الوضع أفضل من ذلك، بل أسوأ بكثير، حيث بقيت هذه الصناعة بالكامل محتكرة من قبل الدولة، وفي مناطق بعيدة عن المدن، هي وجميع الخدمات التي تحتاجها، لأن شركة النفط الوطنية بقيت تقدم خدماتها لنفسها، حيث أن الشركة قد طورت أقسام خدمات كجزء من هيكلها، أي إن القطاع الخاص لم يكن له علاقة بالعمليات التي تجري ضمن هذا القطاع إلا بذلك القدر الذي كانت تسمح الشركات الوطنية التي تملك النفط، لذا لم يتطور قطاع خاص وطني يعمل في مجال النفط، والشركات أيضا كانت تتعاقد مباشرة مع المجهزين والشركات التخصصية وما إلى ذلك أيضا بعيدا عن أعين الشعب، ويصدر النفط إلى الخارج دون أن تكترث الحكومة إلى تنمية قطاعات التصنيع المرتبطة بالصناعة النفطية، ما عدا التكرير الذي يسد حاجة الاستهلاك المحلي فقط، وهكذا سترت الحكومة هذه الصناعة وراء حجب كثيفة، لكي تستأثر بعائداتها وتبقى الأموال تصب في الخزائن التي لم تمول سوى وسائل الموت والدمار للشعب، وبذات الوقت تملئ خزائن المتحكمين بالسلطة المركزية.

من الأمور التي لم تعد سرا على أحد، هو أن إشراك الشعب باستثمار ثروته الوطنية سوف يقوض من أرباح الشركات الأجنبية، ويوزع الثروة على الشعب بشكل أكثر عدالة، ويفتح أبواب جهنم على الأنظمة الشمولية فيما إذا كان النظام شمولي، فإننا لم نسمع يوما ما عن شركة عراقية أو أي شركة محلية في الأنظمة الشمولية المعروفة في المنطقة تقدم خدمات لهذا القطاع، حيث جميع الشركات تستقدم من الخارج ولا يسمح القانون أبدا بإشراك الشركات الوطنية لتقديم خدماتها لهذا القطاع المخيف بضخامة عوائده، لأن من البديهيات لهذه الأنظمة أن يكون النفط بعيدا عن أعين الشعب وعن تدخله مهما كلف الأمر من جهود وهدر للثروة الوطنية.

أي بمعنى أن وجود القطاع الوطني الخاص يساهم بنوع من الشفافية في هذا القطاع الخطير بعوائده، وهذا ما تخشاه حد الموت الأنظمة الشمولية.

إن إشراك القطاع الوطني الخاص يسمح بتطوير النفط بأيد وطنية بشكل أكيد، وليس شكليا على أنه وطني، وهذا النموذج عرفناه في شركة النفط الوطنية العراقية المنحلة، أي بشكلها السابق، التي بنت سدا منيعا بينها وبين الشعب، ما عدا أولاك العاملين بالقطاع النفطي من فنيين وإداريين، وغالبا ما كانوا معزولين عن باقي الناس في مجمعات سكنية بعيدة عن المدن، وحتى هذه الفئة كانت لا تعرف من النفط إلا ذلك القدر البسيط الذي عفي عليه الزمن وتجاوزته التكنولوجيا بأشواط بعيدة جدا، لأن جميع الخدمات التخصصية أو عالية التخصص كانت تستقدم من الخارج لتحقيق الأهداف التي تحدثنا عنها، وكذلك من أجل أغراض سياسية محددة تعزز من سلطة الدولة الشمولية وتزيد من فرض هيمنتها على الشعب.

الغياب التام للقطاع الخدمي يشل عمليات التطوير :
لذا فإن البلد الآن في حيرة من أمره ولم يستطع زيادة الإنتاج ولو قطرة واحدة عما كان عليه قبل سقوط النظام، لأن لا يوجد لحد هذه الساعة قطاع وطني خاص يستطيع أن يمد يد العون لهذه الصناعة لأنه ببساطة غير موجود، بذات الوقت، الأجنبي لا يستطيع العمل في البيئة العراقية التي يعرفها الجميع حاليا، طبعا لا يستثنى من ذلك ما تحاول الولايات المتحدة تحقيقه للصناعة النفطية عندما قررت استثمار بضعة مليارات دولار في هذه الصناعة لإعادة المتهدم منها، لكن عمليات البناء والتطوير بقيت بعيدة أيضا عن العراقيين، والخدمات قد تم استقدامها من الكويت أو باقي دول الخليج. وهكذا بقيت الصناعة النفطية تراوح في مكانها كما هي، والإنتاج يتناقص، وما تفقده المنشأة بسبب تقادم الزمن أو التخريب لا يمكن تعويضه بسهولة، وما يزيد من الأمر سوءا هو أن هيكلة الوزارة بما فيها الشركات المنتجة تعتبر غاية بالتخلف لأنها أصلا كانت قد صممت لخدمة نظام دكتاتوري شمولي مقيت، والموظف الذي يعمل حاليا في وزارة النفط الآن لا يستطيع التصرف وجلب التجهيزات المطلوبة، ولا يستطيع بنائها، ولا يستطيع استقدام من يحل مشاكلها المستعصية، ببساطة لأنه محكوم بنظام يشل حركته بالكامل.

لكن لو كان القطاع الوطني حاضرا في هذا المجال الحيوي لكان بإمكانه تجهيز القطاع النفطي بكل ما يريد لا يخشى شيئا كما هو الحال في باقي قطاعات العمل في العراق، مثلا على ذلك ما يجري في قطاع البناء، حيث مازالت الشركات العراقية تقدم خدمتها بكل حرية وهناك نشاط اقتصادي واسع في المناطق الآمنة من البلد.

إعادة الهيكلة للقطاع النفطي :
لذا من الضروري جدا وضع برنامج يوضح أسس إعادة الهيكلة للقطاع النفطي والاستخراجي منه بالذات. يضع البرنامج في مقدمة أولوياته، تثبيت ملكية النفط بيد واحدة تمثل الشعب بكل أطيافه، ومن غير وزارة النفط لهذه المهمة التي يجب أن تبقى أيضا تحت رقابة برلمانية صارمة لمراجعة كل ما يمكنه الإخلال بمعنى ملكية الشعب العامة للنفط والثروات الأخرى في باطن الأرض، أما تلك الدعوات والتي غالبا ما كانت مخلصة والتي تدعو إلى إعادة تأسيس شركة النفط الوطنية لتمثل الشعب العراقي بملكية الثروات الهايدروكاربونية، فإني أرى أنها غير مدروسة بشكل علمي، لأن الشركات في العادة ذات طبيعة تنفيذية، وأحيانا تنفيذية صرف، لذا فإنها سوف تنظر للجانب التنفيذي على أنه يمثل الأولوية لها، ولكن لو كان حق تمثيل الملكية نيابة عن الشعب بيد الوزارة، فإن هذه الجهة وإن كانت ذات طبيعة تنفيذية، لكنها أقرب للمشرع والذي سوف يكون له دور رقابي مباشر على الوزارة بما يتعلق بموضوع الملكية حصريا. بعد الانتهاء من مسألة الملكية، يجب أن ينظر لمسألة إعادة الهيكلة على أساس الدستور والذي ينص على إشراك الأقاليم بالعمليات الإنتاجية، وبالرغم من أن الدستور سوف يعيد النظر بهذه الفقرات لأنها موضوع خلاف بين المركز والأقاليم ورغبات بعض أطياف الشعب العراقي، لكن بالنتيجة سوف يكون لدينا دستور بفقرات واضحة في هذا الخصوص، وهي التي سوف تكون الأساس لتحديد المسؤولية القانونية والوظيفية للشركات المنتجة، أي هو الذي يحدد مصير الشركات الحالية التي تعمل في الجنوب والشمال والوسط، وربما سيكون هناك شركات أخرى كشركة نفط كوردستان أو شركة نفط الغرب العراقي، والتي يجب أن تكون كشركات عاملة وتابعة للشركة الأم وهي شركة النفط الوطنية في حال إعادة تأسيسها لدواعي التنسيق بين الأقاليم بما يتعلق الأمر بخطط التطوير، ووضع الضوابط القانونية للتعاقد ووضع نظم العمل المتطورة والموحدة بين الأقاليم والمحافظة على البيئة والسلامة العامة والسلامة الصناعية التي تعتبر هي الرائد في الصناعة النفطية هذه الأيام على المستوى العالمي، لكن بالطبع يجب أن تبقى مفصولة عنها ماليا وإداريا بما يضمن أدائها لعملها بحرية كاملة دون التجاوز على الثوابت المشتركة للبلد، سواء كان على مستوى تطبيق بنود الدستور تطبيقا مبدعا أو على مستوى القوانين وضمان تطبيقها بشكل سليم أو النظم المشتركة التي تعمل على أساس منها هذه الشركات العاملة في مجال الإنتاج في أقاليمها. كما ويجب أن يوضح البرنامج مصير أقسام الشركات الخدمية التي تعمل حاليا في هذه الشركات، لذا من الضروري أن يحدد البرنامج هذا المصير، أو بالأحرى أن ينادي بإعادة الهيكلة للقطاع النفطي برمته ومنه شركة النفط الوطنية وباقي الشركات المنتجة وخلق الشريك الذي يجب أن يبقى شريكا أزليا وفاعلا ألا وهو القطاع الخدمي الخاص والقطاع الاستثماري الأجنبي الذي يعبر اليوم الأكثر أهمية من غيره لأسباب موضوعية لا تخفى على أحد.

إن إعادة هيكلة كاملة للقطاع النفطي يجب أن لا تكون فقط على مستوى الشركة الأم، شركة النفط الوطنية، ولكن وضع الهيكلة اللازمة لتأسيس ودمج القطاع الخاص الوطني والأجنبي والمشترك في عمليات الاستكشاف والتطوير والإنتاج، وذلك بفصل الأقسام الخدمية عن الشركات الأم، وتأسيس شركات خدمية تابعة للقطاع العام، لأن القطاع العام هو الضمان الأكيدة لمصالح الجماهير وهو الذي سيحد من جشع الرأسمال الخاص، سواء كان وطني أم أجنبي.

كما ويجب أيضا أن يتم ترقية العمل في هذه الشركات، أي شركات القطاع العام الخدمية، وذلك من خلال عقد شراكة مع شركات عالمية تعمل في هذا المجال من أجل نقل التكنولوجيا المتقدمة ونقل قيم العمل الراقية وأساليب الإدارة الحديثة، بالطبع هذا الأمر يحتاج إلى رؤوس أموال إضافية تضخ لدعم القطاع الخدمي العام. هذه الخطوة يجب أن تسبق عملية تأسيس أو تشجيع القطاع الخاص الوطني والأجنبي بالدخول وتقديم الخدمات للصناعة النفطية أو باقي الصناعات.

القطاع الوطني العام يجب أن يعمل وفق معايير الربحية، وأن يمنح فرص متكافئة مع القطاع الخاص، أي وفق علاقات الإنتاج الرأسمالية، وهذا ما يشكل الضمانة الأكيدة لاستمراره بالعمل بقوة، وأن لا يترهل كباقي شركات القطاع العام الفاسدة إداريا وماليا، لأننا اليوم نرى، على سبيل المثال، مركز بحوث النفط الصغير جدا، والذي لا يجب أن يزيد عدد العاملين به على عشرة أشخاص، زجت به الأحزاب التي تمسك بالسلطة125موظفا لا يجدون الأماكن التي ينبغي الجلوس فيها، ولا أين يعملون، لذا معظمهم بقي في بيته يستلم في نهاية الشهر راتبه، وهذا يعني أن المركز يقدم رواتب شهرية لجيش من العاطلين تزيد على مليون دولار سنويا بدون إنتاج، والبلد قد خسر قوة عمل ل115إنسان بحجة القضاء على البطالة، هذا فضلا عن الخسارة المالية التي يتحملها المركز، الذي لا يعمل شيء، تقريبا على الإطلاق.

في الحقيقة، هذا ما نقصد به بالخصخصة، أي ليس بيع ممتلكات القطاع العام كخردة للقطاع الخاص والبقاء تحت رحمة الجشعين منهم، لأن في مثل هذه القطاعات، يسهل التنسيق فيما بين الشركات من أجل المزيد من الابتزاز، وهذا يتم في العادة عند تقديم العروض على العطاءات لمثل هذه العقود، فيجتمع الفرقاء المتنافسين ويضعون حدودا للتنافس فيما بينهم، بحيث تسمح لهم هذه الحدود من وضع أسعارهم العالية جدا في العطاءات لجني أرباح فاحشة لا يقبلها عقل. لذا فإن وجود قطاع خدمي عام كفء ومتطور يعمل معهم كمنافس، لا يمكن لمثل هذه الأساليب أن تعمل، وتبقى الصناعة النفطية وباقي القطاعات في مأمن من الابتزاز أو جني الأرباح الفاحشة.

وجود مثل هذه الضوابط في البرنامج أمر لا يجب التنازل عنه، خصوصا وأن البرنامج يتعلق بمصالح الشعب العليا وإقرار للحق وإن موضوع النفط يعتبر المحك الأساسي لمدى تمسك الأطراف السياسية في البلد بالدستور والشرعية الدستورية، لأن النفط، فضلا عن كونه يعتبر المورد الأساسي للشعب العراقي والدولة، فإنه يعتبر أيضا أهم مقومات السيادة الوطنية، ففي حال بقاء النفط مملوكا من قبل وزارة النفط السيادية بالكامل، سوف توصد جميع الأبواب بوجه كل من يريد التحايل على هذه الملكية للاستحواذ عليها، مما يقوض سيادة القانون والدولة.

مجالات عمل القطاع الخاص الوطني والأجنبي :
إن الدعوة لتحديد المجالات التي يعمل فيها القطاع الخاص الوطني والأجنبي، يعد بمثابة دعوة للدولة إلى إعادة الهيكلة الشاملة ولكن بشكل غير مباشر. من ناحية أخرى يجب تحديد المساحات التي يجب أن يعمل فيها المستثمر الخاص بحيث لا يكون لعمله مساس بالسيادة أو الملكية العامة للشعب، حيث لا يمكن أن نعطي القطاع الخاص أو المستثمر الأجنبي حقوق تشبه حقوق الملكية إلى حد بعيد مهما كانت صفته، وطني أم أجنبي ، على سبيل المثال، لا يمكن إعطاء الشركات عقود المشاركة بالإنتاج لأنه يعتبر نوعا من الالتفاف على ما نص عليه الدستور، لذا من الضروري أن تكون هناك شركات عاملة، وهي ذات الشركات الحالية، تكون تابعة للشركة الأم، شركة النفط الوطنية والتي ستكون مهمتها المراقبة والمحاسبة ووضع الإستراتيجيات ورسم السياسات النفطية وتسويق النفط والغاز وأن تتحمل مسؤولية كامل التعاقدات ومراقبتها ومراجعة الإنجاز وما إلى ذلك. وعليه مطلوب من الدولة الكثير من التفصيل لتحاشي اللبس أو التأويل الخاطئ، أي تحديد صلاحيات الشركة الأم ومسؤولياتها، وكذلك تحديد صلاحيات وواجبات الشركات العاملة والمنتجة للنفط وكذلك المساحات التي يعمل بها المستثمر المحلي والأجنبي.

كما ولا يجب أن نقع أسيري الحالة الأمنية المتردية في العراق حاليا عند معالجة أي موضوع من مواضيع الاقتصاد كما لاحظنا من خلال الصياغة الجديدة لبعض فقرات قانون الاستثمار والتي انتقدها الكثير من المتخصصين والسياسيين مباشرة بعد أن وقع المشرع تحت وطأت الحالة العراقية التي بسببها يعرض المستثمر عن العمل في العراق اليوم، وذلك بسبب وضع أمني متردي ينبغي أن يكون طارئ، فقد سمعت أحد الساسة العراقيين والمشتركين بالتشريع يقول، إنهم يضعون ضوابط على المستثمر وكأن المستثمرين يقفون على الأبواب طوابير طويلة! مثل هذا القول لسياسي يشارك بكتابة التشريع الذي سوف يبقى العمل به مستمرا بعد استتباب الأمن واستقرار البلد سياسيا، هذا السياسي قد وقع تحت تأثير الحالة الشاذة التي يمر بها العراق حاليا، وربما يكون السبب الرئيسي من وراء إبقاء العراق يعيش تحت هذه الحالة الشاذة هو ابتزاز القوانين المتساهلة والتي تفرط بحقوق الشعب العراقي في محاولة من السياسي للخروج بالبلد من حالة التدهور الأمني، وهذا ما أخشاه أن يكون شعور كتاب قانون الهايدروكاربون في العراق وأن يفرطوا بمكتسبات الشعب تحت وطأة الضربات القاسية من قبل الإرهاب النشط على الساحة العراقية.

مثال دول الخليج :
ربما يعتقد المرء أن هذا النموذج غير مناسب، هذا صحيح بما يتعلق بالامتيازات النفطية التي مازالت سارية المفعول، ولكن بما يتعلق بالصناعة الخدمية المصاحبة للصناعة النفطية وباقي القطاعات الاقتصادية، فهي متطورة وتشبه إلى حد بعيد ما نطمح له، حيث إن وجود قطاع وطني خاص يساهم في الصناعة النفطية أمر درجت عليه جميع الأنظمة الحديثة بدون استثناء، وقد أثبت هذا القطاع وجوده وجدارته في السنوات الأولى التي بدأت فيها دولة الإمارات، على سبيل المثال، من خلال مشاركته مع الشركات العالمية الباحثة دائما عن أسواق لتصريف بضاعتها، سواء كانت تكنولوجيا أو بضاعة معرفية في مجالات مختلفة، لذا نجد أن الشركات الوطنية الخاصة قد بدأت بالعمل من يومها الأول في هذه الدولة واكتسبت خبرات واسعة في مجالات عملها، حتى أنها اليوم تستطيع أن تنافس الدول الكبرى في هذا المجال، هذا فضلا عن تقديمها خدمات على مستوى المحيط الإقليمي، وقد استطاعت بعض الشركات أن تنافس الأمريكية في أمريكا، وحصلت إحداها على عقد خدمة لإدارة الموانئ الأمريكية، وهذه الشركة الخدمية نفسها قد استطاعت أن تنافس الشركات الآسيوية أيضا وتفوز بعقد لإدارة الموانئ السنغافورية، واستطاعت شركات خدمية أخرى في مجال النفط، أن تعمل تحديدا في مجال "التدخلات في الآبار" من الحصول على عقود في أوربا، وكان العراق من أول المستفيدين من خدماتها وكذلك إيران وباكستان وسوريا والسودان وليبيا وغيرها من دول المنطقة، ذلك أن هذه البلدان كانت ومازالت تنهج نهج الدولة العراقية قبل سقوط النظام الدكتاتوري، حيث أبقت هذه الصناعة كما أسلفنا بعيدة عن أعين شعوبها وأيديهم إلا بالقدر الذي هم يحددوه. بالمقابل نجد في دول الخليج الأمر معكوسا، وأن آخر أزمة كانت بين الحكومة والبرلمان في الكويت تتمثل بمساهمة الشركات المحلية بتطوير الحقول الشمالية فيها، حيث الشركات كانت تطالب بشدة أن تكون هي التي تأخذ على عاتقها مسألة التطوير وليس الاستثمارات الأجنبية، لكن الحكومة كانت مصرة على أن يكون للاستثمار الأجنبي الدور الأول في عملية التطوير، وأن عقود المشاركة بالإنتاج يجب أن تمنح للشركات الأجنبية، العائدة للدول الكبرى، تحديدا أمريكا، لأسباب سياسية بحتة، وذلك كون الحقول الشمالية فيها الكثير من الحساسية مع الجارة الكبرى العراق، وأن معظم هذه الحقول مشتركة بين البلدين ولم يحسم أمرها بشكل قطعي، لذا فإن الدولة كانت تبغي من وراء مشاركة الأمريكان وإعطائهم حصة من النفط، تعزيزا لموقفها مع العراق، الضعيف أمام الأمريكان حاليا. فلو لم تكن الشركات الوطنية الكويتية بهذه القوة والجدارة لما استطاعت أن تضع الحكومة في هذا المأزق الحرج، وحسب علمي، هي بالفعل كفء لذلك. صحيح أن المسألة قد حلت داخليا، لكن المؤكد هو أن شركات القطاع الخاص الوطنية هي التي ستقوم بمهمة التطوير عمليا لصالح الشركات الغربية، وذلك من خلال عقود الخدمة، لأن الشركات الغربية سوف لن يكون لها أكثر من مكتب بسيط تقوم من خلاله بالتنسيق وإدارة مشاريع التطوير التي عهدت لها، وهذا ما نستطيع أن نفعله في العراق بالضبط، أي إننا نستطيع أن نسارع بإشراك القطاع الخاص في عمليات التطوير وأن يكون هو الرائد في هذه العملية وما على الدولة سوى أن تفتح مكتبا بسيطا كما تفعل الشركات الغربية في الكويت لتدير من خلاله عمليات التطوير، وحتى لو لم يكن لدى الدولة من هو مؤهل لمثل هذه المهمة، فإنها تستطيع أن تستقدم شركات استشارية أجنبية، أو محلية بمشاركة أجنبية، لتؤدي الدور بدلا منها، أما باقي الشركات الخدمية العائدة للقطاع الخاص فإنها تستطيع العمل منذ اليوم الأول لتأسيسها ولا تحتاج إلى وقت طويل لتكون فاعلة، لأن الخبرة الأجنبية سوف تجنبها جميع المشقات والسفر الطويل من أجل اكتساب المعرفة اللازمة لتأدية عملها.

ملاحظات هامة :
وهنا لي بعض الملاحظات قبل المضي في الموضوع إلى نهايته، وهي:

1. ملاحظة مهمة هنا يجب الانتباه لها، وهي أن هذا الأسلوب في التطوير معمول به في العالم أجمع، وحتى لو تم منح شركة ما عالمية عقد مشاركة بالإنتاج من أجل التطوير، فإن هذه الشركة سوف لن تقوم بأكثر مما تعمله الحكومة من خلال مؤسسة المشاريع النفطية ذات الخبرة الواسعة والشبه معطلة حاليا.

2. ومن الملاحظ أيضا أن الشركات العالمية التي يراد لها أن تدخل كشريك في الإنتاج مقابل القيام بالتطوير فإنها سوف تحتاج إلى هذه البيئة الخدمية المتخصصة للبدء بالتطوير، وفي حال عدم توفر قطاع وطني خاص يقدم هذه الخدمات، فإنها سوف تستقدم هذه الشركات من الخارج وتطلب منها هذه الخدمات، وهذا يعني أن الكلف ستكون عالية جدا، ربما عشرة أضعاف الكلف التي يجب أن تقدمها للشركات الوطنية الخاصة الموجودة أصلا في البلد، وهذا يعني أنها أيضا ستطلب نسبة عالية جدا كحصة لها من خلال عقود المشاركة بالإنتاج، فيما لو رضخ العراقي وإجبر على القبول بهذا النوع من العقود لأنه يعيش تحت تأثير الحالة، أي حالة الفلتان الأمني والتي يكون أكبر ضحية لها هو الثروات والسيادة الوطنية، لذا أكاد أكون جازما أن من يقف وراء العنف المسلح في العراق هم ألائك الذين يجدون بالكعكة العراقية أكثر من مبرر كافي لقتل العراقيين بوقوفهم وراء البهائم التي تعمل بشكل مباشر على إشاعة الإرهاب في البلد، أي أنهم مسخرين، ويوم تستوفى الحاجة من وجودهم ويأخذ من يريد أن يأخذ ما هو غير مشروع، سيكون التعامل مع هذه الجهات المسلحة مختلفا تماما.

3. هذه البيئة الخدمية غير الموجودة في العراق، هي شبكة كبيرة وواسعة تصل إلى عدة آلاف من الشركات، فعلى سبيل المثال نجد في الدنمارك الدولة المنتجة التي تعتبر صغيرة مقارنة بالعراق، يوجد فيها أربعة آلاف شركة تقدم خدماتها للصناعة النفطية ويعمل فيها مئات الآلاف من المهندسين والفنيين والاستشاريين في كل المجالات، وعدد مماثل في دولة الإمارات أو قطر، أما المملكة المتحدة، فإن العدد يفوق ذلك بكثير. هذه البيئة، وكما أسلفنا، غير موجودة في العراق، ربما يوجد منها ما هو قليل جدا ولا يسد شيء من حاجة هذه الصناعة.

4. ملاحظة رابعة وهي أن جميع المعدات التي تدخل في عملية التطوير تبقى باستمرار بحاجة إلى خدمات تخصصية تقدمها الشركات المنتجة لتلك التكنولوجيا، ومنها تقديم المشورة التشغيلية أو تقديم الأدوات الاحتياطية أو مستلزمات لاستهلاك تلك المعدات أو الأجهزة، هذا فضلا عن الخدمات التي تتعلق بالصيانة الدورية أو الصيانة العامة في حال حصول توقفات مفاجئة غير متوقعة. وهذه لا يمكن تقديمها بشكل مناسب وسليم ما لم يكون هناك وكيل مجهز للشركة المصنعة يفترض به أن يكون مهيأ لتقديم مثل هذه الخدمات.

5. أما أهم ملاحظة يمكن أن نقرأها هنا، وهي أن ليس كل ما يتعلق بالصناعة الاستخراجية لا يمكن أن يدخل به القطاع الخاص سواء كان وطني أو عالمي، فهي تسمح بدخول كل شيء ما عدا إدارة العملية الإنتاجية والتي تعني استقدام هذه الشركات للعمل وتقديم الخدمات وفق عقود أو اتفاقيات خدمة يمكن أن نتحدث عنها وعن طبيعتها في مجال آخر، هذا فضلا عن العديد من الدراسات والمقالات التي قدمتها جهات تخصصية عالمية ومحلية تعتبر كافية جدا ويجب مراجعتها قبل وضع المسودة النهائية للقانون الجديد الذي ينظم الملكية والعلاقات الإنتاجية والخدمية في الصناعة النفطية الواسعة جدا والتي تعتبر هي الأساس في الاقتصاد العراقي حاضرا ومستقبلا.

القطاع الخدمي في الصناعة النفطية :
على الحكومة أن تضع الإطار العام لتطوير الصناعة النفطية وإعادة بناء المتهدم منها وإعادة تأهيل الجانب الذي تقادم عليه الزمن والاهتمام بالمكامن النفطية التي أنتجت بهمجية خلال العقود الماضية التي امتدت إلى ثمانية عقود بالنسبة لبعض الحقول كحقل كركوك العملاق.

يمكن القول أن البيئة غير الآمنة بالعراق تعتبر اليوم أهم سبب يعرقل جهود التطوير والإنتاج في العراق، وهذا صحيح إلى حد بعيد في مناطق معينة من البلد، ولكن المناطق الآمنة قد تمثل أكثر من ثلثي مساحة العراق، لذا فإن الأسباب الأمنية أجدها مجرد ذرائع واهية لا تقف على أرض صلبة، صحيح أن التهويل الإعلامي للعنف في العراق يمنع ذهاب الشركات العالمية للعمل في العراق، مثلا في كوردستان الآمنة جدا، بل والأكثر أمنا حتى من دول الجوار للعراق جميعها، كان ينبغي على حكومة كوردستان أن تطور بيئة خدمية محلية يساهم بها المستثمر المحلي والقطاع العام من خلال إقامة شراكة مع الشركات العالمية المتخصصة في مجالها والتي تخدم هذه الصناعة، وهذا الأمر ينطبق على معظم مناطق العراق الآمنة الأخرى، هذا فضلا عن أن معظم مراحل العمل في أي عملية تطوير يمكن أن تجري حتى خارج العراق، ويمكن تقديم الكثير من الخدمات والتجهيز لما تحتاجه هذه الصناعة من الخارج أيضا، ذلك أن العالم قد أصبح عبارة عن قرية صغيرة، لكن من خلال شركات مسجلة لدى الشركات المنتجة أو الوزارة، وتعمل وفق ضوابط تعاقدية وسعرية محددة وضمن نطاق زمني معين وحجم عمل محدد ومتفق عليه.

أمثلة حسية على أهمية القطاع الخدمي الخاص :
قبل أن أنتقل للنقطة القادمة علي أن أعطي مثال عملي لما يجري في كوردستان مثلا، إحدى الشركات الخدمية الإماراتية كانت قد تعاقدت مع الشركات التي تقوم بالتنقيب عن النفط في كوردستان، وبسبب التهويل الإعلامي العربي لما يجري في العراق، فإن الشركة اضطرت أن تعطي وتمنح العاملين أرقاما فلكية لإغرائهم على العمل في العراق، في حين أن كوردستان أكثر أمنا من أي دولة مجاورة، فقد وصل أجر العامل الفني إلى 800 دولار يوميا للقيام بخدمة غاية بالبساطة، لا يتقاضى عليا أحرا في أماكن أخرى في المنطقة أكثر من50دولار يوميا.

وشركة هاليبرتون التي عملت مع الأمريكان على صيانة آبار الجنوب، كانت قد قدمت إغراءات مالية ضخمة لتشجيعهم على العمل في العراق، وهذا ما جعل من الكلف النهائية أن تكون خرافية بمقاييس الصناعة الخدمية في المنطقة، بحيث وصلت إلى مليون دولار للخدمة الواحدة، في حين يجب أن لا تتجاوز المئة ألف دولار مهما كبرت الخدمة، وقرأت في الصحف عن عقد مع شركة خدمية أجنبية في كوردستان لحفر ثلاثة آبار فقط بمبلغ مئة مليون دولار!! في حين يمكن حفرها بأقل من10ملايين دولار، كل هذا بسبب عدم توفر البيئة الخدمية التي تدعم الصناعة النفطية في جميع مراحلها.

قانون الاستثمار في الصناعة الهايدروكربونية :
هنا يأتي دور قانون الاستثمار حيث هو الذي يحدد الإطار القانوني الذي تعمل على أساس منه هذه الشركات الوطنية للقطاع العام أو الخاص أو المشترك، سواء بشراكة أجنبية أم لا، لذا يمكن اعتبار مسألة عدم صدور قانون الاستثمار لحد الآن يعتبر معوق للقيام بعمليات التطوير، أو هو المسؤول عن ارتفاع أسعار التطوير لتصل إلى أرقام فلكية غير مقبولة في أي مكان آخر في العالم، حيث أن بعض الشركات التي تقوم بالتطوير على أساس من المشاركة بالإنتاج، وبالرغم من عدم شرعية ومقبولية هذا النوع من التعاقد، إلا أن الشركات قد طلبت أرقاما فاقت حدود التصور، حيث أن نسبة المشاركة التي لا يجب أن تتعدى الثلاثة % ، قيل من خلال وسائل الإعلام أنها وصلت في عقود كوردستان إلى40% ، لو صحت هذه الأرقام ، فإن هذا التعاقد مجحف إلى حد بعيد بالنسبة للعراقي أينما كان، وليس في كوردستان فقط .

إن عدم وجود قانون للاستثمار في الصناعات الهيدروكربونية يعيق عمليات التطوير التي تحتاج إلى استثمارات كبيرة في الصناعة النفطية، لكن وكما أسلفنا، فإن الصناعة الاستخراجية لا تحتاج إلى رؤوس أموال أجنبية بالإضافة إلى أن القانون العراقي لا يسمح بذلك، حيث أن الدستور يعتبر النفط ملك للشعب العراقي ولا يمكن التفريط بهذا المنجز الكبير، لأن حين يدخل الاستثمار الأجنبي في صناعة الاستخراج، وكما هو مطروح هذه الأيام، من خلال عقود المشاركة بالإنتاج، فإن هذه العقود تعتبر نوعا من التحايل والالتفاف على ما نص عليه الدستور في هذا المجال.

لذا فإن الخصخصة يجب أن تكون بعيدة تماما عن المشاركة بأي شكل بالإنتاج.

نعم الصناعة التي تسمى بالداون ستريم هي التي بحاجة إلى استثمارات أجنبية، وهي الصناعة التي تقوم بتصنيع النفط أو الغاز، فهي صناعة واسعة جدا يمكن للشركات العالمية الاستثمار فيها، لأنها لا تتجاوز على ملكية النفط أولا، وثانيا تحتاج إلى رؤوس أموال لا طاقة للعراق عليها، وكذلك تحتاج إلى خبرات في جميع مراحلها يفتقر لها العراق بالكامل في الوقت الحالي. لذا يجب حصر الاستثمار الأجنبي للشركات الكبرى بتصنيع النفط والغاز، كإقامة مصافي منتجاتها للتصدير، أو أن تقوم بإنشاء مصانع بتروكيماوية، وهكذا، هذه الصناعة تحتاج إلى مبالغ طائلة جدا لا طاقة للعراق بها على مدى العقدين أو الثلاثة القادمة، وليس لدينا ذلك الكادر المتطور الذي يستطيع النهوض بهذه الصناعات العالية التطور.

أن قانون الاستثمار لا يكفي :

ثم أن قانون الاستثمار لا يكفي، لأن يجب أن يكون هناك قوانين أخرى لحماية البيئة من التلوث وأخرى للصحة والسلامة العامة والسلامة الصناعية للعاملين بهذه الصناعة لأن الصناعة النفطية تعتبر من أكبر الملوثات للبيئة وفيها مخاطر كبيرة على السلامة العامة، مثل هذه القوانين تكون أساس في جميع التعاقدات ومن أي نوع، وعلى جميع الشركات احترامها سواء كانت وطنية أم أجنبية.

دور الدولة بخلق القطاع الخاص :
يتوجب على الحكومة خلق البيئة الخدمية التي تحدثنا عنها بإسهاب، فلم تؤسس الحكومة لحد الآن مكتب خاص لتشجيع القطاع الوطني الخاص على العمل في هذه الصناعة المربحة جدا، ولم تقدم لها الدعم الكافي من رأسمال أو قروض ميسرة أو حتى معفاة من الضرائب، ولم تقدم لها الأراضي التي تقيم عليها مكاتبها وساحات عملها (اليارد)، ولم تجد هذه الشركات أي دعم من قطاعها الوطني الخاص، فلا توجد شركة للتأمين على ممتلكاتها من الأخطار المحتملة، ولم تجد من يمنحها العقود المضمونة للعمل، بل ولا توجد بيئة وثقافة خدمية متطورة تعمل بها، فالعقد الذي تعمل عليه الشركة يجب أن يتوفر قبل شراء المعدات، والمقاول يجب أن يتوفر له عقد خدمة مع الشركة التي تطور الحقول أو التي تدير عمليات إنتاج النفط ، تكون العقود بقيمة معينة خلال فترة تمتد لعدة سنوات، خلال هذه الفترة تستطيع الشركة إن تسترد رأس المال الموظف لمثل هذا النوع من الاستثمار. بوجود عقد مع الشركة الخدمية الخاصة أو العامة، يمكن لها أن تقيم شراكة مع الشركات العالمية التي تدخل كشريك أو كمقاول ثانوي، لأن هذه الشركات يجب أن تدرس أولا البيئة التي ستعمل بها، وأول سؤال يأتيك منها، هل يوجد عقد يغطي رأس المال وكلف التشغيل خلال فترة العقد؟ وهل توجد شركات تأمين لها مصداقية عالية؟ وهل توجد أيدي عاملة متخصصة في هذا المجال؟ وهل يوجد قانون للاستثمار يحمي المستثمر الأجنبي؟ وهل توجد بيئة آمنة للعمل؟ هذه وغيرها من مفردات البيئة التي تعمل بها الشركات يجب أن تكون متوفرة قبل الإقدام على أي عملية تطوير للحقول العراقية، لأن الدخول بدون هذه المقدمات التي يدخل بها القطاع الوطني الخاص يمكن أن يعتبر مغامرة محفوفة بالمخاطر القاتلة.

لذا يجب العمل من الآن على خلق هذه البيئة الخدمية، لأنه أمر لا مفر منه وهو الأساس قبل الدخول بأي تحدي آخر، أما الخطوات العملية لخلق هذه البيئة فهي كالتالي :

- من الواجب أن يتم إنشاء مكتب في الوزارة وأخرى في الشركات المنتجة للنفط والغاز تساهم بها وزارة التجارة والغرف التجارية والصناعية في البلد، وهي التي تضع الأسس الفاعلة لانطلاق هذا القطاع انطلاقة فاعلة وقوية مدعومة من قبل الدولة لكي يستطيع أن يقوم بدوره المنوط به ويساهم بتطوير هذه الصناعة التي سيتكالب عليها المستثمرون من كل حدب وصوب فيما لو توفرت حقا هذه البيئة.

- كما وأن الحكومة يجب أن تعمل على وجود القطاع المشترك بين الدولة والقطاع الوطني الخاص الذي يعمل بهذه الصناعة، حيث هذا القطاع ضروري جدا لأن الكثير من هذه الخدمات تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة، والبنوك العراقية لا تستطيع توفير رأس المال ما لم يكون مع جهة مضمونة كالدولة. حيث أن وجود هذا القطاع المالي سوف يساهم بتشجيع القطاع الوطني الخاص على التوسع وتقديم أفضل الخدمات لما سيجده من تنافسية عالية من المنافس الأجنبي.

- كما وأن إعادة الهيكلة تعني أن القطاع العام هو الآخر يجب أن يساهم بهذه البيئة الخدمية، وذلك من خلال فصل الخدمات عن الشركات المنتجة الأم حاليا، كما أسلفنا وتشكيل شركات خدمية بشراكة أجنبية متطورة.

- وفي حال وجود قانون للاستثمار، يتشجع المستثمر الأجنبي للدخول كشريك مع المستثمر العراقي في القطاع الخاص، لان بغياب هذا القانون لا توجد ضمانات تحمي المستثمر الأجنبي من تعسف المستثمر المحلي في حال التحايل أو نشوب خلاف بين الطرفين.

- في الواقع هي البداية التي يجب أن تكون لأي قطاع محلي، سواء كان خاص أو عام، يجب أن تكون مع الشريك الأجنبي ذو الخبرة الواسعة في مجال عمله، حيث أن المسألة لها أكثر من بعد كما أسلفنا.

ضمان النوعية :
الكيان الخاص في الوزارة، والذي يهتم بتطوير القطاع الخاص، يجب أن يكون أيضا مسؤول عن مستوى الخدمات التي تقدمها هذه الشركات، وهو الذي يضع المعايير التي يجب إتباعها لتأهيل أي شركة كونها كفء لتقديم الخدمة المطلوبة منها أم لا؟ وهذه مهمة يجب أن تتفرد بها الوزارة على مستوى العراق بالكامل، أو الشركات المستفيدة من الخدمات، أي الشركات التي تقوم بإدارة العمليات الإنتاجية أو الشركات التي تستثمر في تصنيع النفط والغاز "أي صناعة الداون ستريم"، إذ ليس من المعقول توقيع عقد مع شركة ما لتقديم خدمة معينة وهي لا تستطيع أن تقوم بذلك، سواء من ناحية مستوى التكنولوجيا، أو مستوى تطور الكادر الذي يدير العمل، أو تكاملية نظام إدارة، أو خبرة الشركة التي يجب أن تكون واسعة في المجال الذي تعاقدت عليه. هذه المعايير وغيرها يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند تسجيل أي شركة لدى الوزارة أو الشركات المنتجة، وذلك لضمان استمرار الشركات بتقديم خدماتها، أو إيقافها عن العمل بسبب تدني مستواها أو عدم رفعها لمستواها. لذا يجب أن تكون لدينا معايير لضمان النوعية ومواصفات هندسية حديثة ودائمة التحديث لتقديم الأفضل والاستمرار بمواكبة القفزات التكنولوجية الهائلة في هذه الصناعة.

الإنسان أثمن رأسمال :
إن مهمة الوزارة لا تنتهي عند هذا الحد لكي نستطيع القول أن البيئة التطويرية قد أصبحت متكاملة، لأن العنصر البشري الوطني سيكون هو العامل الحاسم في نهاية المطاف، فهو المسؤول عن أي عملية ارتقاء لهذه الصناعة أو تكامليتها، لذا فإن إدارة التطوير والتدريب المستمر يجب أن تكون مهمة وطنية مركزية وتديرها الوزارة بالتعاون مع الشركات الوطنية الخاصة، ويجب أن تضمن الوزارة والشركات المنتجة وجود عراقيين عاملين في المستويات المختلفة من العمل في الشركات الخدمية بما يكفي لكي تستطيع أن تقف الشركة على قدميها فيما لو تركها الشريك الأجنبي، ولكي تستطيع بعد فترة من الزمن أن تقدم خدماتها كاملة لوحدها دون الاعتماد عليه، بالرغم من ضرورة بقاء الشريك الأجنبي في الكثير من الحالات لأنه سيضمن استمرار مواكبة الشركة لمستوى تطور التكنولوجيا عالميا، لأن في حال توقف الشركة عن التطور والمواكبة، فإنها في غفلة قصيرة من الزمن ستجد نفسها متخلفة وبحاجة إلى تحديث في نظم عملها والتكنولوجيات التي تستعملها ورفع مستوى تطور العاملين فيها.

الاستثمار الأجنبي في الصناعة النفطية والغازية :
هذا الفصل بالكامل كان قد نشر سابقا في مقالة مستقلة بعنوان " النفط والدستور - الاستثمار في الصناعة النفطية والغازية" خلال شهر حزيران من العام2005 . وفي الواقع اكتفيت بإعادة صياغة بعض العبارات التي يجب أن تتغير موضوعيا سبب المستجدات على الساحة.

إن جميع الاستثمارات في مجال النفط والغاز، ما عدا الاستخراجية منها، تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة جدا، عشرات، بل مئات المليارات، والتي لا قبل للعراق بها، خصوصا في هذه المرحلة، وحتى ولو كان العراق لديه رؤوس الأموال هذه، فإنه من الأفضل أن تكون أجنبية لأنها ستضيف للعراق ولن تنقص منه مادمنا نتمسك بالثوابت الوطنية لدخول الاستثمار، والتي هي موضوع بحثنا. فالرأسمال في العادة يحصن نفسه من أي نوع من أنواع الخسارة، لذا يترتب عليه أن يدخل وهو محصن باستعماله أرقى أنواع التكنولوجيا والإدارة الحكيمة والأسواق المفتوحة في بلدانه ولا يسمح بأي نوع من أنواع التسيب أو الإهمال أو التضخم الوظيفي وإلى آخره من أمراض المشاريع الاستثمارية التي تدار وطنيا والتي تسبب في معظم الأحوال خسارة تلك المشاريع. فدخول رؤوس الأموال في الاستثمار في العراق هي ما يجب أن نبحث عنه ونسعى إليه كما تسعى له جميع دول العالم، لأن تعلم إدارة المشاريع بشكل سليم أهم بكثير من باقي عناصر الموضوع، إضافة إلى إنه يمنحنا الفرصة لتوظيف الأموال التي لدينا في مجالات التنمية البشرية والعمرانية والتخلص من الديون المتراكمة على العراق. في الواقع، ما كان علي أن أضيف هذه النقطة إلى الثوابت لولا حاجة العراق إلى هذه الأموال الضخمة، فإنه بدونها سيبقى النفط والغاز تحت الأرض ولا نستطيع الاستفادة منه إلا بحدود ما تسمح الأوبك به من حصة، وهو قليل نسبة لما لدينا من ثروات نفطية. فالعراق باستطاعته أن ينتج أكثر من عشرة ملايين برميل يوميا من النفط الخام، ولكن لا يستطيع بيعها، فما الفائدة إذا من زيادة الإنتاج إذا لم تكن هناك مشاريع استثمارية أجنبية تصنع هذه الكميات في العراق وتكون خارجة عن حصص الأوبك؟ إذا فالاستثمار الذي لا يدفع به العراق شيئا من رأس المال يكون أفضل بكثير من ذلك الذي يأتي على أساس المشاركة، هذا فضلا عن أنه يسمح بإنتاج كميات كبيرة من النفط خارجة عن حصة الأوبك.

كون أن النفط والغاز ملك للشعب العراقي لا ينبغي لأي جهة التلاعب بحق الملكية، لذا لابد أن يكون استثماره بشكل مباشر من قبل العراقيين أمر لا مناص منه، ولكن وبذات الوقت ندعو الحكومة والمشرع للعمل على وضع مسودة قانون للاستثمار فيها حوافز مجدية للمستثمر الأجنبي الذي يبغي العمل في صناعة النفط والغاز العراقية، تحديدا مجال الصناعات البتروكيماوية والتكرير، وهو ما يسمى بصناعة الداون ستريم، فهذه الصناعة المجدية جدا للعراق وللمستثمرين يمكن أن ترفع من شأن العراق وتجعل من عائداته أرقاما فلكية تعود بالرفاهة على أبناء الشعب العراقي ومستقبل أجياله، والتي هي أيضا مجدية أكثر للرأسمال المالي العالمي الذي لا يتطلع لصناعة الاستخراج للنفط والغاز لفقرها، من ناحية حجم الاستثمارات وليس العائدات، وحساسيتها السياسية والاجتماعية.

إن دخول راس المال سيف ذو حدين، فمن ناحية نسعى له لأنه يرتقي بالبلدان من جميع النواحي، ولكن من الناحية الأخرى يمكن أن يخل بالسيادة الوطنية ويستبيح البلد وثرواته وينهب ما استطاع أن ينهب ويتآمر ما استطاع أن يتآمر ويشتري الذمم ما استطاع أن يشتري من أجل مزيد من الربح والتحكم بمقادير البلد. من هذا الجانب الثاني أصبح رأس المال من الشرور التي تحاول الكثير من الدول الابتعاد عنها لكي تتحاشى الوقوع بشراكها، ولكن لو كان هناك ثوابت وطنية لا يمكن التنازل عنها من قبل السلطة الوطنية والمجتمع المدني، سيكون بهذه الطريقة، الأمر تحت سيطرة العراقي، هكذا يمكن الاطمئنان لدخول رأسمال من أجل الاستثمار الذي نحن الآن أحوج ما نكون إليه.

لذا علينا تقصي وتحديد أهم الثوابت الوطنية التي يجب التمسك بها، وهي ما يجب أن يكرس لها بنود القانون الجديد وقوانين أخرى فاعلة تنظم عمل الاستثمار الأجنبي من دون المس بالسيادة الوطنية، من أجل أن نجني الفوائد ونتحاشى السلبيات المتوقعة، وذلك لكي نخرج من حالة التردد التي نحن بها من أجل فتح السوق العراقية للاستثمار في مجال النفط الذي يتطير الكثيرين منه، بل وحتى مجرد الحديث فيه.

الثوابت الوطنية التي تتعلق بهذا الملف من حيث الأساس ذات طبيعة اقتصادية وسياسية واجتماعية وبيئية والتي بمجملها تشكل من ناحية ثوابت وطنية معظمها ملزم، وأن لا يتم تجاوزها، وفي النهاية، بمجملها تشكل أولا الضابط لحركة الاستثمار وكذا المعيار الحقيقي للحكم على أي ملف يتعلق بالنفط، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يشكل البيئة النظيفة للتحاور من خلالها في كل ما يتعلق بهذا الملف الشائك، وذلك من أجل وضع الحكم الصحيح والمعيار للمحاسبة والشفافية وأخيرا يمكن أن تشكل الآلية لتقييم أي ملف يتعلق بالنفط.

مفهوم السيادة الوطنية :
ولكي نكون أكثر وضوحا في هذا المجال لابد من مراجعة مفهوم السيادة الوطنية، فقد أسس النظام البعثي المقبور مفهوما مشوها للسيادة الوطنية، ففي الوقت الذي كان البلد فيه مستباحا ولا سيادة للحكومة على أراضيه خلال الحصار بعد غزو دولة الكويت، حيث الجزء الكوردي من العراق تماما خارج سيطرة الحكومة المركزية وتحت حماية دولية بالكامل، كان أيضا الجزء الجنوبي من العراق يمنع فيه على العراق استعمال أجواءه ووسائل الرصد الأرضية للأجواء، وغياب كامل للسلطة التنفيذية والقضاء القانون، والعودة لقانون التحكيم العشائري الذي كان متبعا أيام الحكم العثماني، والنفط ينتج ويباع تحت سيطرة الأمم المتحدة لتوفير ما يسد رمق العراقي من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء، حيث هدر من أموال العراق الكثير على سبيل السرقة أو سوء التصرف، وإلخ من مظاهر فقدان السيادة الوطنية، في ظل هذا الوضع كان النظام المقبور يتحدث عن السيادة الوطنية والتي أختزل معناها الكبير بغرفة نوم الدكتاتور، حيث دخول هذا المكان فقط ما كان يعتبره النظام خرقا للسيادة الوطنية.

في الواقع إن السيادة الوطنية تعني أن هناك قوانين وأجهزة تنفيذية وأجهزة تشريعية وقضاء، فيما لو تم التجاوز على أي منها يعتبر خرقا للسيادة الوطنية، وما يهمنا هنا هو منظومة القوانين التي تنظم الاستثمار في البلد بحيث لا يمكن أن يسيء للوطن بشيء، بل ما سيجنيه الوطن هو الفائدة من هذا الاستثمار. فالقوانين المطلوبة لذلك كثيرة والتشريعات الدستورية التي تتعلق بهذا الأمر أيضا كثيرة، إذ لابد أن يكون هناك تشريع دستوري بهذا الشأن وقانون يحمي ملكية النفط العراقي ويعيدها إلى مالكها الحقيقي وهو الشعب العراقي، ويحميها من الهدر وأن يتم إنتاج النفط وفق أرقى المعايير الهندسية باستعمال التكنولوجيا الأكثر تطورا، والتي يجب تجديدها مع تطور التكنولوجيا الذي لا يمكن أن يتوقف، وهذا ما لا يمكن أن يوفره المستثمر الذي يهدف للربح السريع قبل انتهاء مدة العقد الاستثماري، وهذه الأمور كنا قد تطرقنا لها في أكثر من مكان في هذا المقال للتأكيد على أهميتها، وأن يكون لدينا قانون يحمي البيئة العراقية التي يمكن أن يستبيحها المستثمر لعدم وجود قانون صارم، وذلك لكون هذه الصناعة من أكبر الملوثات للبيئة، وليس لدينا قوانين للسلامة العامة والسلامة الصناعية يعتد به بما يتماشى مع متطلبات هذه الصناعة، ولا يوجد لدينا نظام لمتابعة برامج حماية البيئة والسلامة الصناعية أو العامة والتي تستمد بنودها من القوانين السابقة الذكر، وليس لدينا قانون يحدد الضرائب التي على المستثمر أن يدفعها، وليس لدينا قانون متطور يحمي العاملين في الاستثمار الأجنبي والمحلي من القطاعين الخاص والعام، وليس لدينا قضاء متخصص للفصل في القضايا التي تتعلق بهذه القضايا، حيث من أهم متطلبات السيادة الوطنية أن تكون المحاكم العراقية هي المرجعية في حال وجود نزاع ما أو شكوى من أي جهة كانت.

إذا كان العراق خاليا من كل هذه القوانين ويسمح بدخول الاستثمار، فهذا يعني إن البلد سوف يكون مستباحا بالكامل من قبل الاستثمار الذي يمكن أن يعتبر، دائما، طرفا قويا في أي نزاع وفي ظل منظومة قوانين تتحكم بحركته على الأرض، فما بالك بعدم وجود هذه المنظومة من القوانين بالكامل؟

هناك أيضا ثوابت وطنية أخرى يعتد بها تكون كما الأسس لصياغة أي عقد استثماري، وهي على سبيل المثال وليس الحصر:

أولا: ملكية النفط والغاز:
مما لا شك فيه إن أول الثوابت التي لا يجب المساس بها في أي استثمار هي مسألة ملكية النفط من قبل الشعب العراقي.

ثانيا: الصحة والسلامة والبيئة:
إن من المعروف أن الصناعة النفطية بكل مراحلها تعتبر من ألد أعداء البيئة، في حين أن لدينا أنهار وبحيرات وأهوار ومياه جوفية وهواء نظيف وبساتين واسعة، كلها قريبة من مصادر التلوث البيئي التي يمكن أن تنتج عن هذه الصناعات، ولدينا عمال عراقيون يعملون في مع الشركات الاستثمارية، لذا يجب أن يكون لدينا أولا قوانين وأنظمة للسلامة الصناعية وأخرى لإدارة الرقابة البيئية والسلامة الصناعية وفق معايير عالمية ملزمة للمستثمرين. وهي من الأمور ذات الطبيعة الملزمة والتي يجب أن تراعى في أي استثمار نفطي أو غير نفطي، وذلك من خلال قوانين تنفذ طيلة العقد ولا يمكن التراخي عنها، وذلك من خلال نظام رقابي صارم ومحدد المعايير والثوابت. فالعالم المتقدم يضع تلك القوانين كمرفق يلازم أي عقد من أي نوع كان، كي لا يكون هناك التباس في هذا المجال، بحيث يكون قابلا للتحديث من دون أن يكون هناك تعويضات مالية ما لم يكون ما يبرر ذلك.

ثالثا: الارتقاء بمستوى وسائل الإنتاج:
من الثوابت التي يجب أن تبقى كمعيار أساسي، هو أن يكون مستوى تطور التكنولوجيا الداخلة في الاستثمار عاليا، وذلك لضمان نقل التكنولوجيا الحديثة للعراق، ذلك لأن التكنولوجيا سريعة التطور بشكل مذهل هذه الأيام بحيث لا يمكن للمتابع أن يعرف كل ما هو جديد فيها وخصوصا تلك المتعلقة بمجال الصناعة النفطية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، إمكانية التحديث للأجهزة والمعدات في المستقبل للارتقاء بها دائما إلى المستويات المطلوبة من التطور، ويجب إن يبقى هذا المعيار من أهم المعايير لتقييم وقبول المشروع الاستثماري.

رابعا: نقل قيم العمل المتطورة والإنسانية:
يعتبر من أهم المعايير لدى دول العالم النامي في استقبال المشاريع الاستثمارية سواء كانت في النفط أو في أي مجال آخر، فالإدارة المتطورة التي ترتقي بالعمل وتنقل القيم المتطورة من خلال إدارة حكيمة وعلى أسس علمية، هو في الواقع من أهم ما نحتاجه لبناء البلد، حيث أن العراق مازال في مصاف الدول النامية والنصف متطورة، وعلينا أن نعترف بحقيقة إن من أهم مشاكل العالم النامي هو الإدارة الفاشلة للمشاريع والتي تؤدي إلى خسارتها في أغلب الأحيان، ألا يتفق معي الجميع إن المشاريع التي تدار بأيدينا في بلدان العالم النامي، معظمها لا يحقق الربحية وفيه من الأمراض المستعصية و ما لا يمكن حله على الإطلاق؟ قيم العمل الجديدة الإدارة المتطورة ستكون هي الحل الوحيد والتي بدورها ستنقل إلينا تلك القيم التي جعلت من العالم المتحضر يسير بخطى لو نظرنا لها لأصبنا على الفور بالإحباط وشعرنا بالتقزم. إن هذا النوع من الثوابت يجب أن يكون ملزما للجهات التي تستثمر في البلد، بحيث تأتي بإدارة متطورة وعلى أساس المقاييس العالمية المعروفة للجودة.

خامسا: تطوير القوى العراقية المنتجة:
هو من الثوابت التي لا يجب التخلي عنها عند إدخال أي استثمار للعراق، فتطوير القوى العاملة العراقية سيكون في نهاية المطاف هدفا أساسيا حتى أكثر أهمية من الربح المادي، فالاستثمار في الإنسان هو من أسمى أنواع الاستثمار على الإطلاق. ببساطة نستطيع القول أن الاستثمار الذي لا يعطى للعراقي الفرصة بالعمل والتطور من خلال إدارة متطورة وتكنولوجيا متطورة وقيم عمل متطورة وفرصا للتعلم ومواصلة التعلم، لا يمكن أن يغني البلد بشيء إلا من بعض النواحي الآنية التي تزول بسرعة بزوال المؤثر. أن اكتساب المهارات العالية في العمل، لا يمكن أن تأتي كإشراق رباني عبقري كإشراقات السهروردي أو كشيطان الشعر، فهذه لها أصولها وقواعدها المادية وضوابطها التي لا يمكن تجاهلها. لذا فإن برامج التطوير التي ترافق الاستثمار الأجنبي ينبغي أن تكون معيارا لتقييم أهمية الاستثمار للمواطن العراقي وبالنهاية مستقبل الوطن.

سادسا: الشفافية وحقوق الرقابة:
الشفافية بالتعامل مع أي ملف نفطي سيجعل من الهاجس حقيقة ويكشف كل ما هو مستور في الحال، لأن الشفافية من سمات المجتمع الديمقراطي، وبدون هذه الشفافية سيكون الأمر مريبا برمته، لذا فإن أي استثمار يجب أن يخضع للرقابة على مختلف الأصعدة للتأكد من سلامة تطبيق القوانين ومبادئ السيادة الوطنية، وأن تتضمن عقود الاستثمار حق الدولة والأجهزة الرقابية في أداء دورها في أي مشروع استثماري.

وعلينا أن لا ننسى أن هناك دائما عوامل جيوستراتيجية أو سياسية مهمة يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار لتعطي للبلد دعما سياسيا أو دعما لمكانته على مستويات مختلفة. فلو كان الاستثمار من النوع الذي يضعف هذا الدور أو المكانة فإنه ينبغي معالجة الأمر في مراحله الأولى قبل الدخول في أي عقد من العقود.

قطاع توزيع المشتقات النفطية :
لم تكن مهمة توزيع المشتقات النفطية قبل أربعون عام مسؤولية الدولة العراقية، حيث كانت الدولة توزع هذه المشتقات على محطات تعبئة الوقود المملوكة من قبل القطاع الخاص، وهذا هو شأنها تقريبا في العالم أجمع، وحتى صهاريج نقل الوقود في الكثير من الدول مملوكة لشركات القطاع الخاص أيضا، لذا من الضروري العودة لهذا الأسلوب بأسرع وقت ممكن لتجاوز الكثير من الأزمات التي يسببها الفساد الإداري والمالي الذي استشرى في أوصال الدولة، وإن أي هيكلة إدارية تشل قدرات المفسدين يجب أن يكون لها شأن عظيم في العراق.

كما وأن مسألة الارتقاء بمستوى الخدمات التي تقدمها هذه المحطات للزبائن لا يمكن أن تقدمها المحطات المملوكة من قبل الدولة، لكن تلك المحطات المملوكة من قبل القطاع الخاص يمكن أن تدخل مع بعضها البعض في منافسة تجارية حرة مما يرفع من مستوى الخدمات التي تقدمها، هذا فضلا عن الضوابط التي تفرضها الدولة على مالكي محطات التعبئة يجب أن تكون متطورة وتتماشى مع المستويات العالمية.

المواصفات والمقاييس التي يتم على أساس منها إنشاء هذه المحطات مهمة يجب أن تتولاها الوزارة، وهي المسؤولة عن بناء المحطة وتجهيزها بالكامل، ومن ثم بيعها للقطاع الخاص وفق عقد لضمان النوعية وتحديد مستوى الأسعار بما يضمن الربح المعقول لرأس المال الموظف في هذه العملية التجارية.