نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمزة الجواهري

hjawahri@yahoo.com

 

 

 

 

الخميس 12 / 10 / 2006

 

 

القطاع الخاص والخصخصة في الصناعة النفطية على ضوء برنامج الحزب الشيوعي العراقي


حمزة الجواهري

في هذه المداخلة نحاول أن نضع فهما واضحا لما نعنيه بالقطاع الوطني أو الأجنبي الخاص، وما الذي نعنيه بالخصخصة في القطاع النفطي، وربما باقي القطاعات الاقتصادية في البلد. حيث أسيء بشكل كبير لهذين المفهومين، القطاع الخاص والخصخصة، كنتيجة للتطبيق الخطأ لهما. ومن خلال هذا الفهم نراجع احتياجات هذه الصناعة على كل المستويات وفق منظور علمي، من أجل إعادة صياغة ما تمت صياغته في البرنامج أو إضافة ما هو ضروري لكي يكون البرنامج متكامل ويضع الأسس العلمية الصحية للنهوض بهذه الصناعة التي تعتبر المورد الأساسي للعراق.
لقد أولى البرنامج أهمية خاصة للقطاع النفطي والاستخراجي بحيث وضعها أولى القطاعات الاقتصادية والخدمية التي حدها البرنامج بأحد عشر قطاعا، وبمراجعة الفقرتين الثالثة والرابعة من أولا: القطاع النفط والاستخراجي والطاقة، نجد الآتي : "ضرورة قيام الدولة بوضع السياسات التعدينية الاستراتيجية للبلاد والمراقبة والإشراف على حسن تنفيذها من قبل القطاعين العام والخاص" و "الاستفادة من الاستثمارات الأجنبية مع ضرورة تحديد المجالات التي تدخل فيها على صعيد الاستخراج شرط عدم المساس بالمصالح الوطنية." وهذا يعني ضمنا أن البرنامج يعمل على إقامة قطاع وطني والسماح للاستثمار الأجنبي الخاص بالعمل في الصناعة النفطية، وهذه إحدى ضرورات اقتصاد السوق، لكنه بذات الوقت يجد أن هناك ضرورة لتحديد مجالات عمل القطاع الخاص الوطني والأجنبي، وهذا ما يحتاج إلى توضيح كامل.
وكما هو واضح من محتوى الفقرة الرابعة يشترط البرنامج عدم المساس بالمصالح الوطنية والتي هي من حيث الأساس الملكية للنفط من قبل الشعب العراقي ومسألة المصالح الوطنية بمفهومها العام في حال توظيف الاستثمارات الأجنبية في البلد. وهذا ما سنأتي أيضا عليه بالتوضيح من أجل وضع صياغة أفضل للفقرات المتعلقة بالعمل في هذا المجال. وأكتفي بهذا القدر من ذكر الفقرات الواردة في البرنامج تاركا مسألة إعادة الصياغة أو الإضافة للكادر المسؤول عنها، لكن بالطبع سأضع إصبعي على المفاصل الرئيسية في الموضوع والتي ينبغي معالجتها برنامجيا.
كما هو معروف أيضا عن الصناعة النفطية من أنها كانت ومازالت تقدم خدماتها إلى نفسها بشكل ذاتي بعيدا عن تدخل القطاع الوطني الخاص، وهذه الحالة لها أسبابها التي سنوضحها من خلال السياق، ولكن في الوضع الجديد سيكون الأمر مختلفا في ظل نظام اقتصاد السوق.
يبدو مما تقدم أن هناك أكثر من إشكالية، ولكن في واقع الأمر أجد البرنامج قد تجاوز كل الإشكاليات المتعلقة بهذا الموضوع بشكل مبدع، ولكن مع ذلك ما زلت أجد أن الأمر بحاجة إلى مزيد من التوضيح لتحاشي اللبس في هذا المجال.
لتفسير التناقض القائم بين أن تبقى الملكية عامة للنفط وإشراك القطاع الخاص في الصناعة النفطية، لابد لنا من معرفة أن الصناعة النفطية كأي صناعة أخرى لها جانبين، الأول إدارة العمليات، كالإنتاج أو الاستكشاف أو إدارة مصنع، وجانب آخر وهو الجانب التنفيذي، أي العملياتي، وهي عمليات الإنتاج، وعمليات الاستكشاف، والمصانع والحقول الزراعية كلها تجري بها عمليات متنوعة تخصصية أو عامة.
وهنا على الدولة أن تتمسك بإدارة العمليات الأساسية في الصناعة النفطية وترك الجانب العملياتي للشركات الخدمية، وهذه مساحة واسعة جدا للعمل تسمح بدخول القطاع الوطني الخاص والاستثمار الأجنبي. في حين يعتبر تمسك الدولة بالإدارة لهذه العمليات هو الضمان الأكيد لملكية الشعب للثروات.
يستطيع المالك أن يدير المشروع الذي يملكه بالكامل، وذلك بإستخدام عقود أو اتفاقيات الخدمة لتوفير الخدمات المتنوعة، التخصصية والعامة، لتشغيل المصنع أو الحقل النفطي أو المزرعة، فإن استقدام شركات الخدمة سيوفر عليه الكثير، بهذا النوع من العلاقات الإنتاجية ستكون الإدارة بسيطة وغير معقدة فيما لو كان المشروع يقدم خدماته لنفسه. لنأخذ مثلا، فلو احتاج المصنع إلى شاحنة كبيرة، فإنه سوف يستخدمها بأقل من طاقتها التشغيلية، ويحتاج إلى سائق وخدمات وكراج وما إلى ذلك من مكملات تشغيل الشاحنة ، وهذا الأمر ينطبق على جميع الخدمات المطلوبة التي تعد بالمئات، وهذا ما يجعل المؤسسة الإنتاجية متضخمة وكبيرة جدا، ومعظم العمالة فيها من نوع البطالة المقنعة، ويعتبر هذا النوع من الإدارة من أهم أسباب خسارة القطاع العام والفساد الإداري والمالي المعروفة لدينا في العراق، لكن بوجود شركات تقدم خدمات النقل فإنه ليس بحاجة لشراء وسائط النقل هذه، ويستطيع من خلال عقد خدمة مع شركة نقل عام أن يوفر لمصنعه كامل خدمات النقل بكفاءة أعلى وكلفة أقل، بذات الوقت ستربح شركة النقل لأن الشركة تقدم خدماتها لزبائن آخرين، وهذا ما سيزيد من الكفاءة التشغيلية فيها.

نبذة تاريخية عن الصناعة الخدمية في النفط:
في السابق، أي في المراحل التاريخية التي مر بها العراق الحديث كان النفط كقطاع معزول تماما عن النشاط الإنساني في البلد ، حيث خلال المرحلة الأولى بعد تأسيس العراق الحديث أوائل القرن الماضي حاولت شركات النفط أن تعتمد على عقود للخدمة خارجية بعيدة عن أي نشاط اقتصادي في البلد، فقد كانت جميع الشركات الخدمية المرتبطة بعقود مع شركات النفط ، كانت أجنبية ومعظمها يقدم خدماته من الخارج، وإذا استدعى الأمر التدخل المباشر، فإنه سيكون محدود ومعزول عن البيئة العراقية بالكامل.
ربما كانت شركة نفط العراق أكثر كرما مع الشعب العراقي حين سمحت بالتعاقد مع شركات محلية لتقديم بعض الخدمات البسيطة كالنقل أو تجهيز المواد الغذائية وما إلى ذلك من خدمات بسيطة جدا ومحدودة، لكنها لم تساهم أبدا بتطوير منظومة شركات خدمية متكاملة تقدم كامل الخدمات التي تحتاجها هذه الصناعة، وبذات الوقت تساهم بتطوير الصناعة بشكل عام في البلد، ذلك لأن القانون لم يجبر الشركات منح عقود خدمة للشركات المحلية، وكذلك الشركات لم تكن ترغب بدمج المجتمع في عملها، لذا لم نسمع عن أي شركة عراقية تقدم خدمات نفطية تخصصية، سوى تلك الشركات المحدودة العدد التي مر ذكرها، لكن حين يكرس القانون من أجل هذا الموضوع ، يكون لزاما على الشركات إشراك شركات القطاع الخاص في الصناعة النفطية، وهذا ما يساعد على توسعها ونموها نموا متسارعا لكي تستطيع تلبية احتياجات الصناعة النفطية والصناعات البتروكيمياوية وصناعة التكرير ومختلف احتياجات القطاعات الاقتصادية في البلد.
هذه الشركات التخصصية تقدم خدمات تجهيز وصيانة وخدمات آبار متنوعة وخدمات استشارية في جميع المجالات الهندسية أو الإدارية أو الاقتصادية وشركات بناء وأخرى لتصنيع ما يمكن تصنيعه محليا بحيث يمكن إدخاله في عمليات التطوير المختلفة. الأمر لا يقف عند قطاع النفط ولكن بالضرورة، يمتد إلى قطاعات صناعية أخرى، لأن المكتب الهندسي الاستشاري الهندسي أو الحقوقي مثلا يستطيع تقديم خدمات استشارية إلى مختلف القطاعات في البلد كالصناعة والبناء والزراعة وما إلى ذلك من القطاعات الإنتاجية والخدمية أيضا، حيث تتداخل الحركة بشكل منسجم بين هذه القطاعات المختلفة بشكل عضوى بحيث لا تجد قطاع من القطاعات ليس له وشائج من العلاقات مع القطاعات الأخرى، ربما يحسب المرء أن ليس هناك علاقة يمكن أن تنشأ بين القطاع الزراعي مع القطاع النفطي، ولو عدنا إلى تفاصيل هذه القطاعات نجد مساحات من العمل المشترك كثيرة وواسعة جدا.
مثل هذه العلاقات بقيت بعيدة عن ذهن العراقي تماما لرغبة مشتركة بين الشركات العالمية آنذاك من ناحية، والدولة من ناحية أخرى، ربما السبب واضح جدا لكلا الطرفين، حيث أن النفط لما يحققه من موارد مالية ضخمة يشجع قيادات الدولة أن تستأثر به لوحدها، شرط أن يبقى بعيدا عن أعين الفضوليين من أبناء الشعب الطامعين بالاستئثار بشيء من هذه الثروة ، أما من ناحية الشركات فإنها على استعداد أن تقدم للشركات الأجنبية عشرة أضعاف ما تقدمه للشركة المحلية مقابل خدمة معينة لكي تبقى في البلد أمدا أطول من ناحية ، ومن ناحية أخرى، فإن ما تقدمه الشركة التي تمتلك حق التطوير إلى شركات الوطن الأم يعتبر ربحا إضافيا لأوطانها على حساب أصحاب الأرض الحقيقيين، هذا فضلا عن إبقاء أصحاب الأرض بعيدين عن ثقافة كل ما تتمخض عنه هذه العلاقات الإنتاجية، بلا شك، سيكون لصالحها.
كان هذا الأمر خلال المرحلة الأولى من تاريخ الدولة العراقية الحديثة، لكن خلال المراحل اللاحقة لم يكن الوضع أفضل من ذلك ، بل أسوأ بكثير، حيث بقيت هذه الصناعة بالكامل محتكرة من قبل الدولة، وفي مناطق بعيدة عن المدن، هي وجميع الخدمات التي تحتاجها، لأن شركة النفط الوطنية بقيت تقدم خدماتها لنفسها، حيث أن الشركة قد طورت أقسام خدمات كجزء من هيكلها، أي إن القطاع الخاص لم يكن له علاقة بالعمليات التي تجري ضمن هذا القطاع إلا بذلك القدر الذي كانت تسمح الشركات العالمية ، لذا لم يتطور قطاع خاص وطني يعمل في مجال النفط ، والشركات أيضا كانت تتعاقد مباشرة مع المجهزين والشركات التخصصية وما إلى ذلك أيضا بعيدا عن أعين الشعب، ويصدر النفط إلى الخارج دون أن تكترث الحكومة إلى تنمية قطاعات التصنيع المرتبطة بالصناعة النفطية، ما عدا التكرير الذي يسد حاجة الاستهلاك المحلي فقط ، وهكذا سترت الحكومة هذه الصناعة وراء حجب كثيفة، لكي تستأثر بعائداتها وتبقى الأموال تصب في الخزائن التي لم تمول سوى وسائل الموت والدمار للشعب، وبذات الوقت تملئ خزائن المتحكمين بالسلطة المركزية.
من الأمور التي لم تعد سرا على أحد، هو أن إشراك الشعب بإستثمار ثروته الوطنية سوف يقوض من أرباح الشركات الأجنبية، ويوزع الثروة على الشعب بشكل أكثر عدالة، ويفتح أبواب جهنم على الأنظمة الشمولية فيما إذا كان النظام شمولي ، فإننا لم نسمع يوما ما عن شركة عراقية أو أي شركة محلية في الأنظمة الشمولية المعروفة في المنطقة تقدم خدمات لهذا القطاع، حيث جميع الشركات تستقدم من الخارج ولا يسمح القانون أبدا بإشراك الشركات الوطنية لتقديم خدماتها لهذا القطاع المخيف بضخامة عوائده ، لأن من البديهيات لهذه الأنظمة أن يكون النفط بعيدا عن أعين الشعب وعن تدخله مهما كلف الأمر من جهود وهدر للثروة الوطنية. أي بمعنى أن وجود القطاع الوطني الخاص يساهم بنوع من الشفافية في هذا القطاع الخطير بعوائده، وهذا ما تخشاه حد الموت الأنظمة الشمولية.
إن إشراك القطاع الوطني الخاص يسمح بتطوير النفط بأيد وطنية بشكل أكيد، وليس شكليا على أنه وطني ، وهذا النموذج عرفناه في شركة النفط الوطنية العراقية المنحلة ، أي بشكلها السابق ، التي بنت سدا منيعا بينها وبين الشعب، ما عدا أولائك العاملين بالقطاع النفطي من فنيين وإداريين ، وغالبا ما كانوا معزولين عن باقي الناس في مجمعات سكنية بعيدة عن المدن ، وحتى هذه الفئة كانت لا تعرف من النفط إلا ذلك القدر البسيط الذي عفي عليه الزمن وتجاوزته التكنولوجيا بأشواط بعيدة جدا، لأن جميع الخدمات التخصصية أو عالية التخصص كانت تستقدم من الخارج لتحقيق الأهداف التي تحدثنا عنها، وكذلك من أجل أغراض سياسية محددة تعزز من سلطة الدولة الشمولية وتزيد من فرض هيمنتها على الشعب.

الغياب التام للقطاع الخدمي يشل عمليات التطوير:
لذا فإن البلد الآن في حيرة من أمره ولم يستطع أن يزيد الإنتاج ولو قطرة واحدة عما كان عليه قبل سقوط النظام، لأن لا يوجد لحد هذه الساعة قطاع وطني خاص يستطيع أن يمد يد العون لهذه الصناعة لأنه ببساطة غير موجود، بذات الوقت، الأجنبي لا يستطيع العمل في البيئة العراقية التي يعرفها الجميع حاليا، طبعا لا يستثنى من ذلك ما تحاول الولايات المتحدة تحقيقه للصناعة النفطية عندما قررت استثمار بضعة مليارات دولار في هذه الصناعة لإعادة المتهدم منها، لكن عمليات البناء والتطوير بقيت بعيدة أيضا عن العراقيين، والخدمات قد تم استقدامها من الكويت أو باقي دول الخليج. لذا بقيت الصناعة النفطية تراوح في مكانها كما هي ، والإنتاج يتناقص، وما تفقده المنشأة بسبب تقادم الزمن أو التخريب لا يمكن تعويضه بسهولة ، وما يزيد من الأمر سوءا هو أن هيكلة الوزارة بما فيها الشركات المنتجة تعتبر غاية بالتخلف لأنها أصلا كانت قد صممت لخدمة نظام دكتاتوري شمولي مقيت ، والموظف الذي يعمل حاليا في وزارة النفط الآن لا يستطيع التصرف وجلب التجهيزات المطلوبة ، ولا يستطيع بنائها، ولا يستطيع استقدام من يحل مشاكلها المستعصية ، ببساطة لأنه محكوم بنظام يشل حركته بالكامل، ولكن لو كان القطاع الوطني حاضرا في هذا المجال الحيوي لكان بإمكانه تجهيز القطاع النفطي بكل ما يريد لا يخشى شيئا كما هو الحال في باقي قطاعات العمل في العراق ، مثلا على ذلك ما يجري في قطاع البناء ، حيث مازالت الشركات العراقية تقدم خدمتها بكل حرية وهناك نشاط اقتصادي واسع في المناطق الآمنة من البلد.

إعادة الهيكلة للقطاع النفطي :
لذا نجد البرنامج يضع أسس إعادة الهيكلة للقطاع النفطي والاستخراجي منه بالذات، في مقدمة أولوياته ، لكنه في الوقت الذي يدعو إلى إعادة تأسيس شركة النفط الوطنية لتمثل الشعب العراقي بملكية الثروات الهايدروكاربونية، لكنه لم يوضح مصير الشركات الحالية التي تعمل في الجنوب والشمال والوسط ، وربما سيكون هناك شركات أخرى كشركة نفط كوردستان ، والتي يجب أن تكون كشركات عاملة وتابعة للشركة الأم وهي شركة النفط الوطنية، لكن مفصولة عنها ماليا وإداريا ، ولم يوضح البرنامج مصير أقسام الشركات الخدمية التي تعمل حاليا في هذه الشركات. لذا من الضروري أن يحدد البرنامج هذا المصير، أو بالأحرى أن ينادي بإعادة الهيكلة للقطاع النفطي برمته ومنه شركة النفط الوطنية وباقي الشركات المنتجة.
إن إعادة هيكلة كاملة للقطاع النفطي أعتقد يجب أن تكون ليس فقط على مستوى الشركة الأم، شركة النفط الوطنية، ولكن وضع الهيكلة اللازمة لتأسيس ودمج القطاع الخاص الوطني والأجنبي والمشترك في عمليات الاستكشاف والتطوير والإنتاج ، وذلك بفصل الأقسام الخدمية عن الشركات الأم ، وتأسيس شركات خدمية تابعة للقطاع العام ، لأن الحزب الشيوعي كحزب اشتراكي ، يعتبر دائما أن القطاع العام هو الضمان الأكيدة لمصالح الجماهير وهو الذي سيحد من جشع الرأسمال الخاص ، سواء كان وطني أم أجنبي.
كما ويجب أيضا أن يتم ترقية العمل في هذه الشركات، أي شركات القطاع العام الخدمية ، وذلك من خلال عقد شراكة مع شركات عالمية تعمل في هذا المجال من أجل نقل التكنولوجيا المتقدمة ونقل قيم العمل الراقية وأساليب الإدارة الحديثة، بالطبع هذا الأمر يحتاج إلى رؤوس أموال إضافية تضخ لدعم القطاع الخدمي العام. هذه الخطوة يجب ان تسبق عملية تأسيس أو تشجيع القطاع الخاص الوطني والأجنبي بالدخول وتقديم الخدمات للصناعة النفطية أو باقي الصناعات.
القطاع الوطني العام يجب أن يعمل وفق معايير الربحية، وأن يمنح فرص متكافئة مع القطاع الخاص ، أي وفق علاقات الإنتاج الرأسمالية، وهذا ما يشكل الضمانة الأكيدة لاستمراره بالعمل بقوة ، وأن لا يترهل كباقي شركات القطاع العام الفاسدة إداريا وماليا، لأننا اليوم نرى ، على سبيل المثال، مركز بحوث النفط الصغير جدا، والذي لا يجب أن يزيد عدد العاملين به على عشرة أشخاص ، زجت به الأحزاب الإسلامية 125 موظفا لا يجدون الأماكن التي ينبغي الجلوس فيها، ولا أين يعملون، لذا معظمهم بقي في بيته يستلم في نهاية الشهر راتبه ، وهذا يعني أن المركز يقدم رواتب شهرية لجيش من العاطلين تزيد على مليون دولار سنويا بدون إنتاج ، والبلد قد خسر قوة عمل 115 إنسان بحجة القضاء على البطالة ، هذا فضلا عن الخسارة المالية التي يتحملها المركز، الذي لا يعمل شيء ، تقريبا على الإطلاق.
في الحقيقة ، هذا ما نقصد به بالخصخصة ، أي ليس بيع ممتلكات القطاع العام كخردة للقطاع الخاص والبقاء تحت رحمة الجشعين منهم، لأن في مثل هذه القطاعات يسهل التنسيق فيما بين الشركات من أجل المزيد من الابتزاز، وهذا يتم في العادة عند تقديم العروض على العطاءات لمثل هذه العقود، فيجتمع الفرقاء المتنافسين ويضعون حدودا للتنافس فيما بينهم، بحيث تسمح لهم هذه الحدود من وضع أسعارهم العالية جدا في العطاءات لجني أرباح فاحشة لا يقبلها عقل. لذا فإن وجود قطاع خدمي عام كفيء ومتطور يعمل معهم كمنافس ، لا يمكن لمثل هذه الأساليب أن تعمل، وتبقى الصناعة النفطية وباقي القطاعات في مأمن من الابتزاز أو جني الأرباح الفاحشة.
وجود مثل هذا التوضيح في البرنامج أمر لا يجب التنازل عنه ، خصوصا وأن البرنامج يخص حزب اشتراكي ليس طارئ على العراق ويعتبر من أكبر المدافعين عن مصالح الشعب.

مجالات عمل القطاع الخاص الوطني والأجنبي :
ومن ناحية أخرى يدعو البرنامج إلى تحديد المجالات التي يعمل فيها القطاع الخاص الوطني والأجنبي ، وهذه بالنسبة لي دعوة للدولة لإعادة الهيكلة الشاملة ولكن بشكل غير مباشر. لكن من ناحية أخرى تعبر هذه الدعوة من الحزب عن تحديد المساحات التي يجب أن يعمل بها المستثمر الخاص بحيث لا يكون لعمله مساس بالسيادة أو الملكية العامة للشعب ، حيث لا يمكن أن نعطي القطاع الخاص أو المستثمر الأجنبي حقوق تشبه حقوق الملكية إلى حد بعيد مهما كانت صفته ، وطني أم أجنبي ، على سبيل المثال ، لا يمكن إعطاء الشركات عقود المشاركة بالإنتاج لأنه يعتبر نوعا من الالتفاف على ما نص عليه الدستور، لذا من الضروري أن تكون هناك شركات عاملة، وهي ذات الشركات الحالية، تكون تابعة للشركة الأم، شركة النفط الوطنية والتي ستكون مهمتها المراقبة والمحاسبة ووضع الإستراتيجيات ورسم السياسات النفطية وتسويق النفط والغاز وأن تتحمل مسؤولية كامل التعاقدات ومراقبتها ومراجعة الإنجاز وما إلى ذلك. وهذه النقطة قد وردت في برنامج الحزب بشكل واضح لكن غير مفصل، وهنا مطلوب شيئا من التفصيل لتحاشي اللبس والتأويل الخاطئ ، أي تحديد صلاحيات الشركة الأم ومسؤولياتها، وكذلك تحديد صلاحيات وواجبات الشركات العاملة والمنتجة للنفط وكذلك المساحات التي يعمل بها المستثمر المحلي والأجنبي.
كما ولا يجب أن نقع أسيري الحالة الأمنية المتردية في العراق حاليا عند معالجة أي موضوع من مواضيع الاقتصاد كما لاحظنا من خلال الصياغة الجديدة لبعض فقرات قانون الاستثمار والتي انتقدها الأستاذ حميد موسى مباشرة بعد أن وقع المشرع تحت وطأت الحالة العراقية التي بسببها يعرض المستثمر عن العمل في العراق اليوم، وذلك بسبب وضع أمني متردي ينبغي أن يكون طارئ.

مثال دول الخليج :
ربما يعتقد المرء أن هذا النموذج غير مناسب، هذا صحيح بما يتعلق بالامتيازات النفطية التي مازالت سارية المفعول، ولكن بما يتعلق بالصناعة الخدمية المصاحبة للصناعة النفطية وباقي القطاعات الاقتصادية، فهي متطورة وتشبه إلى حد بعيد ما نطمح له وما أراه واضحا من خلال البرنامج ، إن وجود قطاع وطني خاص يساهم في الصناعة النفطية أمر درجت عليه جميع الأنظمة الحديثة بدون استثناء، فقد أثبت هذا القطاع وجوده وجدارته في السنوات الأولى التي بدأت فيها دولة الإمارات ، على سبيل المثال ، من خلال مشاركته مع الشركات العالمية الباحثة دائما عن أسواق لتصريف بضاعتها، سواء كانت تكنولوجيا أو بضاعة معرفية في مجالات مختلفة ، لذا نجد أن الشركات الوطنية الخاصة قد بدأت بالعمل من يومها الأول في هذه الدولة واكتسبت خبرات واسعة في مجالات عملها، حتى أنها اليوم تستطيع أن تنافس الدول الكبرى في هذا المجال ، هذا فضلا عن تقديمها خدمات على مستوى المحيط الإقليمي ، وقد استطاعت بعض الشركات أن تنافس الأمريكية في أمريكا، وحصلت إحداها على عقد خدمة لإدارة الموانئ الأمريكية ، وهذه الشركة الخدمية نفسها قد استطاعت أن تنافس الشركات الآسيوية أيضا وتفوز بعقد لإدارة الموانئ السنغافورية ، واستطاعت شركات خدمية أخرى في مجال النفط ، أن تعمل تحديدا في مجال "التدخلات في الآبار" من الحصول على عقود في أوربا ، وكان العراق من أول المستفيدين من خدماتها وكذلك إيران وباكستان وسوريا والسودان وليبيا وغيرها من دول المنطقة، ذلك أن هذه البلدان كانت ومازالت تنهج نهج الدولة العراقية قبل سقوط النظام الدكتاتوري ، حيث أبقت هذه الصناعة كما أسلفنا بعيدة عن أعين شعوبها وأيديهم إلا بالقدر الذي هم يحددوه. بالمقابل نجد في دول الخليج الأمر معكوسا، وأن آخر أزمة كانت بين الحكومة والبرلمان في الكويت تتمثل بمساهمة الشركات المحلية بتطوير الحقول الشمالية فيها، حيث الشركات كانت تطالب بشدة أن تكون هي التي تأخذ على عاتقها مسألة التطوير وليس الاستثمارات الأجنبية ، لكن الحكومة كانت مصرة على أن يكون للاستثمار الأجنبي الدور الأول في عملية التطوير، وأن عقود المشاركة بالإنتاج يجب أن تمنح للشركات الأجنبية، العائدة للدول الكبرى ، تحديدا أمريكا، لأسباب سياسية بحتة، وذلك كون الحقول الشمالية فيها الكثير من الحساسية مع الجارة الكبرى العراق ، لأن معظم هذه الحقول مشتركة بين البلدين ولم يحسم أمرها بشكل قطعي ، لذا فإن الدولة كانت تبغي من وراء مشاركة الأمريكان وإعطائهم حصة من النفط ، تعزيزا لموقفها مع العراق ، الضعيف أمام الأمريكان حاليا. فلولا أن الشركات الوطنية الكويتية كانت بهذه القوة والجدارة لما استطاعت أن تضع الحكومة في هذا المأزق الحرج ، وحسب علمي ، هي بالفعل كفئ لذلك. صحيح أن المسألة قد حلت داخليا، لكن المؤكد هو أن شركات القطاع الخاص الوطنية هي التي ستقوم بمهمة التطوير عمليا لصالح الشركات الغربية، وذلك من خلال عقود الخدمة ، لأن الشركات الغربية سوف لن يكون لها أكثر من مكتب بسيط تقوم من خلاله بالتنسيق وإدارة مشاريع التطوير التي عهدت لها، وهذا ما نستطيع أن نفعله في العراق بالضبط ، أي إننا نستطيع أن نسارع بإشراك القطاع الخاص في عمليات التطوير وأن يكون هو الرائد في هذه العملية وما على الدولة سوى أن تفتح مكتبا بسيطا كما تفعل الشركات الغربية في الكويت لتدير من خلاله عمليات التطوير، وحتى لو لم يكن لدى الدولة من هو مؤهل لمثل هذه المهمة ، فإنها تستطيع أن تستقدم شركات استشارية أجنبية ، أو محلية بمشاركة أجنبية ، لتؤدي الدور بدلا منها، أما باقي الشركات الخدمية العائدة للقطاع الخاص فإنها تستطيع العمل منذ اليوم الأول لتأسيسها ولا تحتاج إلى وقت طويل لتكون فاعلة ، لأن الخبرة الأجنبية سوف تجنبها جميع المشقات والسفر الطويل من أجل اكتساب المعرفة اللازمة لتأدية عملها.

ملاحظات هامة:
وهنا لي بعض الملاحظات قبل المضي في الموضوع إلى نهايته، وهي :
1. ملاحظة مهمة هنا يجب الانتباه لها، وهي أن هذا الأسلوب في التطوير معمول به في العالم أجمع ، وحتى لو تم منح شركة ما عالمية عقد مشاركة بالإنتاج من أجل التطوير، فإن هذه الشركة سوف لن تقوم بأكثر مما تعمله الحكومة من خلال مؤسسة المشاريع النفطية ذات الخبرة الواسعة والشبه معطلة حاليا.
2. ومن الملاحظ أيضا أن الشركات العالمية التي يراد لها أن تدخل كشريك في الإنتاج مقابل القيام بالتطوير فإنها سوف تحتاج إلى هذه البيئة الخدمية المتخصصة للبدء بالتطوير، وفي حال عدم توفر قطاع وطني خاص يقدم هذه الخدمات، فإنها سوف تستقدم هذه الشركات من الخارج وتطلب منها هذه الخدمات، وهذا يعني أن الكلف ستكون عالية جدا، ربما عشرة أضعاف الكلف التي يجب أن تقدمها للشركات الوطنية الخاصة الموجودة أصلا في البلد ، وهذا يعني أنها ستطلب نسبة عالية جدا كحصة لها من خلال عقود المشاركة بالإنتاج.
3. هذه البيئة الخدمية غير الموجودة في العراق ، هي شبكة كبيرة وواسعة تصل إلى عدة آلاف من الشركات، فعلى سبيل المثال نجد في الدنمارك الدولة المنتجة التي تعتبر صغيرة مقارنة بالعراق ، يوجد فيها أربعة آلاف شركة تقدم خدماتها للصناعة النفطية ويعمل فيها مئات الآلاف من المهندسين والفنيين والاستشاريين في كل المجالات، وعدد مماثل في دولة الإمارات أو قطر ، أما المملكة المتحدة ، فإن العدد يفوق ذلك بكثير. هذه البيئة ، وكما أسلفنا، غير موجودة في العراق ، ربما يوجد منها ما هو قليل جدا ولا يسد شيء من حاجة هذه الصناعة.
4. ملاحظة رابعة وهي أن جميع المعدات التي تدخل في عملية التطوير تبقى بإستمرار بحاجة إلى خدمات تخصصية تقدمها الشركات المنتجة لتلك التكنولوجيا، ومنها تقديم المشورة التشغيلية أو تقديم الأدوات الاحتياطية أو مستلزمات لاستهلاك تلك المعدات أو الأجهزة، هذا فضلا عن الخدمات التي تتعلق بالصيانة الدورية أو الصيانة العامة في حال حصول توقفات مفاجئة غير متوقعة. وهذه لا يمكن تقديمها بشكل مناسب وسليم ما لم يكون هناك وكيل مجهز للشركة المصنعة يفترض به أن يكون مهيأ لتقديم مثل هذه الخدمات.
5. أما أهم ملاحظة يمكن أن نقرأها هنا ، وهي أن ليس كل ما يتعلق بالصناعة الاستخراجية لا يمكن أن يدخل به القطاع الخاص سواء كان وطني أو عالمي ، فهي تسمح بدخول كل شيء ما عدا إدارة العملية الإنتاجية والتي تعني استقدام هذه الشركات للعمل وتقديم الخدمات وفق عقود أو اتفاقيات خدمة يمكن أن نتحدث عنها وعن طبيعتها في مجال آخر. حيث ما هو مهم في هذه الصناعة هو أن تكون إدارة الإنتاج بيد مؤسسات الدولة لأن ملكية النفط ملكية عامة للشعب.

ما العمل:
على برنامج الحزب أن يضع الإطار العام لتطوير الصناعة النفطية وإعادة بناء المتهدم منها وإعادة تأهيل الجانب الذي تقادم عليه الزمن والاهتمام بالمكامن النفطية التي أنتجت بهمجية خلال العقود الماضية التي امتدت إلى ثمانية عقود بالنسبة لبعض الحقول كحقل كركوك العملاق ، وذلك من خلال إعادة صياغة البنود التي وردت في البرنامج لتشمل كل ما تقدم وما سيلي بوضوح.
يمكن القول أن البيئة غير الآمنة بالعراق تعتبر اليوم أهم سبب يعرقل جهود التطوير والإنتاج في العراق ، وهذا صحيح إلى حد بعيد في مناطق معينة في العراق ، ولكن المناطق الآمنة قد تمثل أكثر من ثلثي مساحة العراق ، لذا فإن الأسباب الأمنية أجدها مجرد ذرائع واهية لا تقف على أرض صلبة، صحيح أن التهويل الإعلامي للعنف في العراق يمنع ذهاب الشركات العالمية للعمل في العراق ، مثلا في كوردستان الآمنة جدا، بل والأكثر أمنا حتى من دول الجوار للعراق جميعها، كان ينبغي على حكومة كوردستان أن تطور بيئة خدمية محلية يساهم بها المستثمر المحلي والقطاع العام من خلال إقامة شراكة مع الشركات العالمية المتخصصة في مجالها والتي تخدم هذه الصناعة ، وهذا الأمر ينطبق على معظم مناطق العراق الآمنة الأخرى ، هذا فضلا عن أن معظم مراحل العمل في أي عملية تطوير يمكن أن تجري حتى خارج العراق، ويمكن تقديم الكثير من الخدمات والتجهيز لما تحتاجه هذه الصناعة من الخارج أيضا، ذلك أن العالم قد أصبح عبارة عن قرية صغيرة ، لكن من خلال شركات مسجلة لدى الشركات المنتجة أو الوزارة ، وتعمل وفق ضوابط تعاقدية وسعرية محددة وضمن نطاق زمني معين وحجم عمل محدد ومتفق عليه.

أمثلة حسية على أهمية القطاع الخدمي الخاص:
قبل أن أنتقل للنقطة القادمة علي أن أعطي مثال عملي لما يجري في كوردستان مثلا ، شركة المنصوري الإماراتية كانت قد تعاقدت مع الشركات التي يقوم بالتنقيب عن النفط في كوردستان ، وبسبب التهويل الإعلامي العربي لما يجري في العراق ، فإن الشركة اضطرت أن تعطي وتمنح العاملين أرقاما فلكية لإغرائهم على العمل في العراق ، في حين أن كوردستان أكثر أمنا من أي دولة مجاورة ، فقد وصل أجر العامل الفني إلى 800 دولار يوميا للقيام بخدمة غاية بالبساطة.
وشركة هاليبرتون التي عملت مع الأمريكان على صيانة آبار الجنوب، كانت قد قدمت إغراءات مالية ضخمة لتشجيعهم على العمل في العراق ، وهذا ما جعل من الكلف النهائية أن تكون خرافية بمقاييس الصناعة الخدمية في المنطقة ، بحيث وصلت إلى مليون دولار للخدمة الواحدة ، في حين يجب أن لا تتجاوز المئة ألف دولار مهما كبرت الخدمة ، وقرأت في الصحف عن عقد مع شركة خدمية أجنبية في كوردستان لحفر ثلاثة آبار فقط بمبلغ مئة مليون دولار!!!!!! في حين يمكن حفرها بأقل من عشرة ملايين دولار، كل هذا لعدم توفر البيئة الخدمية لدعم الصناعة النفطية في جميع مراحلها.

قانون الاستثمار في الصناعة الهايدروكربونية :
هنا يأتي دور قانون الاستثمار حيث هو الذي يحدد الإطار القانوني الذي تعمل على أساس منه هذه الشركات الوطنية للقطاع العام أو الخاص أو المشترك ، سواء بشراكة أجنبية أم لا ، لذا يمكن اعتبار مسألة عدم صدور قانون الاستثمار لحد الآن يعتبر معوق للقيام بعمليات التطوير، أو هو المسؤول عن ارتفاع أسعار التطوير لتصل إلى أرقام فلكية غير مقبولة في أي مكان آخر في العالم ، حيث أن بعض الشركات التي تقوم بالتطوير على أساس من المشاركة بالإنتاج ، وبالرغم من عدم شرعية ومقبولية هذا النوع من التعاقد ، إلا أن الشركات قد طلبت أرقاما فاقت حدود التصور ، حيث أن نسبة المشاركة التي لا يجب أن تتعدى الثلاثة % ، قيل من خلال وسائل الإعلام أنها وصلت في عقود كوردستان إلى40% ، لو صحت هذه الأرقام ، فإن هذا التعاقد مجحف إلى حد بعيد بالنسبة للعراقي أينما كان ، وليس في كوردستان فقط .
إن عدم وجود قانون للاستثمار في الصناعات الهيدروكربونية يعيق عمليات التطوير التي تحتاج إلى استثمارات كبيرة في الصناعة النفطية ، لكن وكما أسلفنا، فإن الصناعة الاستخراجية لا تحتاج إلى رؤوس أموال أجنبية بالإضافة إلى أن القانون العراقي لا يسمح بذلك ، حيث أن الدستور يعتبر النفط ملك للشعب العراقي ولا يمكن التفريط بهذا المنجز الكبير، لأن حين يدخل الاستثمار الأجنبي في صناعة الاستخراج ، وكما هو مطروح هذه الأيام ، من خلال عقود المشاركة بالإنتاج ، فإن هذه العقود تعتبر نوعا من التحايل والالتفاف على ما نص عليه الدستور في هذا المجال . لذا فإن الخصخصة يجب أن تكون بعيدة تماما عن المشاركة بأي شكل بالإنتاج.
نعم الصناعة التي تسمى بالداون ستريم هي التي بحاجة إلى استثمارات أجنبية ، وهي الصناعة التي تقوم بتصنيع النفط أو الغاز، فهي صناعة واسعة جدا يمكن للشركات العالمية الاستثمار فيها، لأنها لا تتجاوز على ملكية النفط أولا ، وثانيا تحتاج إلى رؤوس أموال لا طاقة للعراق عليها ، وكذلك تحتاج إلى خبرات في جميع مراحلها يفتقر لها العراق بالكامل في الوقت الحالي . لذا يجب حصر الاستثمار الأجنبي للشركات الكبرى بتصنيع النفط والغاز، كإقامة مصافي منتجاتها للتصدير، أو أن تقوم بإنشاء مصانع بتروكيماوية ، وهكذا ، هذه الصناعة تحتاج إلى مبالغ طائلة جدا لا طاقة للعراق بها على مدى العقدين أو الثلاثة القادمة ، وليس لدينا ذلك الكادر المتطور الذي يستطيع النهوض بهذه الصناعات العالية التطور.

أن قانون الاستثمار لا يكفي :
ثم أن قانون الاستثمار لا يكفي ، لأن يجب أن يكون هناك قوانين أخرى لحماية البيئة من التلوث وأخرى للصحة والسلامة العامة والسلامة الصناعية للعاملين بهذه الصناعة لأن الصناعة النفطية تعتبر من أكبر الملوثات للبيئة وفيها مخاطر كبيرة على السلامة العامة ، مثل هذه القوانين تكون أساس في جميع التعاقدات ومن أي نوع ، وعلى جميع الشركات احترامها سواء كانت وطنية أم أجنبية.

دور الدولة بخلق القطاع الخاص:
يتوجب على الحكومة خلق البيئة الخدمية التي تحدثنا عنها بإسهاب، فلم تؤسس الحكومة لحد الآن مكتب خاص لتشجيع القطاع الوطني الخاص على العمل في هذه الصناعة المربحة جدا، ولم تقدم لها الدعم الكافي من رأسمال أو قروض ميسرة أو حتى معفاة من الضرائب ، ولم تقدم لها الأراضي التي تقيم عليها مكاتبها وساحات عملها (اليارد) ، ولم تجد هذه الشركات أي دعم من قطاعها الوطني الخاص ، فلا توجد شركة للتأمين على ممتلكاتها من الأخطار المحتملة ، ولم تجد من يمنحها العقود المضمونة للعمل ، بل ولا توجد بيئة وثقافة خدمية متطورة تعمل بها، فالعقد الذي تعمل عليه الشركة يجب أن يتوفر قبل شراء المعدات ، فالمقاول يجب أن يتوفر له عقد خدمة مع الشركة التي تطور الحقول أو التي تدير عمليات إنتاج النفط ، تكون العقود بقيمة معينة خلال فترة تمتد لعدة سنوات، خلال هذه الفترة تستطيع الشركة إن تسترد رأس المال الموظف لمثل هذا النوع من الاستثمار. بوجود عقد مع الشركة الخدمية الخاصة أو العامة ، يمكن لها أن تقيم شراكة مع الشركات العالمية التي تدخل كشريك أو كمقاول ثانوي ، لأن هذه الشركات يجب أن تدرس أولا البيئة التي ستعمل بها، وأول سؤال يأتيك منها، هل يوجد عقد يغطي رأس المال وكلف التشغيل خلال فترة العقد ؟ وهل توجد شركات تأمين لها مصداقية عالية ؟ وهل توجد أيدي عاملة متخصصة في هذا المجال ؟ وهل يوجد قانون للاستثمار يحمي المستثمر الأجنبي؟ وهل توجد بيئة آمنة للعمل؟ هذه وغيرها من مفردات البيئة التي تعمل بها الشركات يجب أن تكون متوفرة قبل الإقدام على أي عملية تطوير للحقول العراقية ، لأن الدخول بدون هذه المقدمات التي يدخل بها القطاع الوطني الخاص يمكن أن يعتبر مغامرة محفوفة بالمخاطر القاتلة. لذا يجب العمل من الآن على خلق هذه البيئة الخدمية ، لأنه أمر لا مفر منه وهو الأساس قبل الدخول بأي تحدي آخر.
لذا من الواجب أولا أن يتم إنشاء مكتب في الوزارة وأخرى في الشركات المنتجة للنفط والغاز تساهم بها وزارة التجارة والغرف التجارية والصناعية في البلد ، وهي التي تضع الأسس الفاعلة لانطلاق هذا القطاع انطلاقة فاعلة وقوية مدعومة من قبل الدولة لكي يستطيع أن يقوم بدوره المنوط به ويساهم بتطوير هذه الصناعة التي سيتكالب عليها المستثمرون من كل حدب وصوب فيما لو توفرت حقا هذه البيئة. كما وأن الحكومة يجب أن تعمل على وجود القطاع المشترك بين الدولة والقطاع الوطني الخاص الذي يعمل بهذه الصناعة ، حيث هذا القطاع ضروري جدا لأن الكثير من هذه الخدمات تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة ، والبنوك العراقية لا تستطيع توفير رأس المال ما لم يكون مع جهة مضمونة كالدولة. إن هذا القطاع سوف يساهم بتشجيع القطاع الوطني الخاص على التوسع وتقديم أفضل الخدمات لما سيجده من تنافسية عالية من هذا القطاع.
كما وأن إعادة الهيكلة تعني أن القطاع العام هو الآخر يجب أن يساهم بهذه البيئة الخدمية ، وذلك من خلال فصل الخدمات عن الشركات المنتجة الأم حاليا، كما أسلفنا.
وفي حال وجود قانون للاستثمار، يتشجع المستثمر الأجنبي للدخول كشريك مع المستثمر العراقي في القطاع الخاص ، لان بغياب هذا القانون لا توجد ضمانات تحمي المستثمر الأجنبي من تعسف المستثمر المحلي في حال التحايل أو نشوب خلاف بين الطرفين. في الواقع هي البداية التي يجب أن تكون لأي قطاع محلي ، سواء كان خاص أو عام ، يجب أن تكون مع الشريك الأجنبي ذو الخبرة الواسعة في مجال عمله، حيث أن المسألة لها أكثر من بعد كما أسلفنا.

ضمان النوعية:
الكيان الخاص في الوزارة والذي يهتم بتطوير القطاع الخاص ، يجب أن يكون أيضا مسؤول عن مستوى الخدمات التي تقدمها هذه الشركات، وهو الذي يضع المعايير التي يجب إتباعها لتأهيل أي شركة كونها كفء لتقديم الخدمة المطلوبة منها أم لا ؟ وهذه مهمة يجب أن تتفرد بها الوزارة على مستوى العراق بالكامل ، أو الشركات المستفيدة من الخدمات ، أي الشركات التي تقوم بإدارة العمليات الإنتاجية أو الشركات التي تستثمر في تصنيع النفط والغاز "أي صناعة الداون ستريم"، إذ ليس من المعقول توقيع عقد مع شركة ما لتقديم خدمة معينة وهي لا تستطيع أن تقوم بذلك ، سواء من ناحية مستوى التكنولوجيا ، أو مستوى تطور الكادر الذي يدير العمل، أو تكاملية نظام إدارة، أو خبرة الشركة التي يجب أن تكون واسعة في المجال الذي تعاقدت عليه . هذه المعايير وغيرها يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند تسجيل أي شركة لدى الوزارة أو الشركات المنتجة ، وذلك لضمان استمرار الشركات بتقديم خدماتها، أو إيقافها عن العمل بسبب تدني مستواها أو عدم رفعها لمستواها . لذا يجب أن تكون لدينا معايير لضمان النوعية ومواصفات هندسية حديثة ودائمة التحديث لتقديم الأفضل والاستمرار بمواكبة القفزات التكنولوجية الهائلة في هذه الصناعة. هذه النقطة بالذات يجب أن تكون موجودة في البرنامج أولا ، كما ويجب أن تكون واضحة جدا.

الإنسان أثمن رأسمال:
إن مهمة الوزارة لا تنتهي عند هذا الحد لكي نستطيع القول أن البيئة التطويرية قد أصبحت متكاملة ، لأن العنصر البشري الوطني سيكون هو العامل الحاسم في نهاية المطاف ، فهو المسؤول عن أي عملية ارتقاء لهذه الصناعة أو تكامليتها، لذا فإن إدارة التطوير والتدريب المستمر يجب أن تكون مهمة وطنية مركزية وتديرها الوزارة بالتعاون مع الشركات الوطنية الخاصة ، ويجب أن تضمن الوزارة والشركات المنتجة وجود عراقيين عاملين في المستويات المختلفة من العمل في الشركات الخدمية بما يكفي لكي تستطيع أن تقف الشركة على قدميها فيما لو تركها الشريك الأجنبي ، ولكي تستطيع بعد فترة من الزمن أن تقدم خدماتها كاملة لوحدها دون الاعتماد عليه، بالرغم من ضرورة بقاء الشريك الأجنبي في الكثير من الحالات لأنه سيضمن استمرار مواكبة الشركة لمستوى تطور التكنولوجيا عالميا ، لأن في حال توقف الشركة عن التطور والمواكبة ، فإنها في غفلة قصيرة من الزمن ستجد نفسها متخلفة وبحاجة إلى تحديث في نظم عملها والتكنولوجيات التي تستعملها ورفع مستوى تطور العاملين فيها. ولم يهمل برنامج الحزب هذه المسألة بل شدد على أهميتها.