|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  31 / 7 / 2015                                 حامد الحمداني                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

من ذاكرة التاريخ :
تناول العديد من الكتاب والمؤرخين ثورة الرابع عشر من تموز 1958، منهم من تناولها بالتمجيد، ومنهم من تناولها بكل جوانبها الإيجابية والسلبية، ومنهم من تناولها بالتجريح وممجدين بالعهد الملكي وبنوري السعيد، بدعوى أن ذلك العهد قد اتصف بالاستقرار، متجاهلين إن ذلك العهد تخللته العديد من الثورات سواء في الجنوب، ثورات العشائر، أو الشمال، ثورة محمود الحفيد، وثورة الملا مصطفى البرزاني، وثورة الآشوريين وكذلك انتفاضات شعبية بدءً من وثبة كانون الثاني 1948، فوثبة تشرين الثاني 1952، فانتفاضة 31 تشرين الاول عام 1956، هذا بالاضافة إلى انقلاب بكر صدقي عام 1936، وانقلاب رشيد عالي الكيلاني عام 1941، والاحتلال البريطاني الثاني للعراق الذي اسقط حكم الكيلاني والعقداء الاربعة قادة الجيش آنذاك، واخيرا انقلاب نوري السعيد بدعم من العقداء الاربعة، قادة الجيش، ضد حكومة جميل المدفعي عام 1936، بالاضافة إلى العديد من الاضرابات والاحتجاجات على تدني مستوى حياة المواطنين، وخاصة ابان الحرب العالمية الثانية، والتي دعاها الشعب بزمن الخبز الأسود.

ولتوضيح الحقيقة عن ذلك العهد، وعن سياسة نوري السعيد وعبد الاله، وحكمهما بالذات، آليت على نفسي أن اتناول ذلك العهد بالتفصيل بكل جوانبه الإيجابية والسلبية لكي يكون المواطن العراقي خاصة والعربي عامة على بينة من الأمر.


نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الثا
لثة

حامد الحمداني  

جعفر العسكري يفشل في إقرار المعاهدة:

كان رئيس الوزراء السيد جعفر العسكري قد أخذ على عاتقه إقرار معاهدة 1930، حيث كان قد سافر إلى لندن لوضع مسودة المعاهدة والتوقيع عليها بالأحرف الأولى كي تعرض على البرلمان لإقرارها.

لكن العسكري وجد نفسه في موقف صعب بعد عودته إلى بغداد. فقد استقال كل من وزير الداخلية [رشيد عالي الكيلاني]، ووزير المالية [يسين الهاشمي]،كما وجد البلاد في حالة من الغليان الشديد احتجاجاً على تلك المعاهدة التي لم تختلف في جوهرها عن سابقاتها معاهدة 1922 ومعاهدة 1926.

فلازالت بريطانيا تقيد العراق بقيود ثقيلة في سائر المجالات العسكرية والاقتصادية والمالية، وتتدخل بشؤون العراق صغيرها وكبيرها، وهكذا وجد رئيس الوزراء أن مواجهة مجلس النواب بهذه المعاهدة قد بات أمراً صعباً للغاية، فلم يجد ُبد من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 8 كانون الثاني 1928، وقد تم قبول الاستقالة، وكلف الملك السيد عبد المحسن السعدون بتأليف وزارته الثالثة في 14 كانون الثاني 1928. (1)

ثانياً: عبد المحسن السعدون يفشل في إقرار المعاهدة وانتحاره

كان في مقدمة المهام الملقاة على عاتق هذه الحكومة بطبيعة الحال هو إقرار المعاهدة الجديدة في مجلس النواب، والشروع في مفاوضات لتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.

وحيث أن الحكومة الجديدة لا تضمن الأكثرية في المجلس، ولوجود معارضة قوية من قبل العديد من النواب للمعاهدة المذكورة، فقد طلب رئيس الوزراء من الملك فيصل إصدار الإرادة الملكية بحل المجلس، وإجراء انتخابات جديدة.

وتم للسعدون ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحل المجلس في 18كانون الثاني1928، وقامت الحكومة بحملة تنقلات واسعة في الجهاز الإداري بين كبار الموظفين قبل إجراء الانتخابات العامة لتأمين حصول الحكومة على الأكثرية اللازمة لإقرار المعاهدة.

لكن أحداث خطيرة وقعت في العراق في أول عهد الوزارة، فقد قبضت الحكومة على الشيخ [ضاري الشعلان] الذي اتهم هو وأولاده بقتل الكولونيل [ لجمان ] بعد قرار السلطات البريطانية بالقبض عليه ومحاكمته أبان ثورة العشرين، واضطر الشيخ ضاري إلى الهرب، لكنه وقع في قبضة الحكومة في 3 تشرين الثاني 1927 نتيجة وشاية، فأحيل إلى المحاكمة وهو في حالة صحية سيئة، وحكم عليه بالإعدام ثم جرى تخفيض الحكم إلى السجن المؤبد، ولم يمضِ على سجن الشيخ ضاري سوى بضعة أيام حتى فارق الحياة في سجنه.

أدى موت الشيخ ضاري إلى هياج الجماهير الشعبية التي خرجت في مظاهرات صاخبة واقتحمت المستشفى، وانتزعت جثة الفقيد، وسارت به في مظاهرة عارمة وهي تندد بالحكومة وبالاستعمار البريطاني، وكان ذلك أول صدمة تلقتها الحكومة السعدونية.(2)

وجاءت زيارة الصهيوني البريطاني المعروف [السير الفرد موند] إلى العراق في 8 شباط 1928، واستقباله من قبل المندوب السامي، وكبار الشخصيات اليهودية المتحمسة للحركة الصهيونية لتزيد في الطين بله، فقد أثار مقدمه إلى العراق موجة من السخط العارم لدى أبناء الشعب الذين هبوا في مظاهرة صاخبة منددين بالصهيونية والاستعمار البريطاني وبالحكومة، واستخدمت الحكومة القوة لتفريق المتظاهرين فوقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، وأصيب خلال المصادمات العديد من المتظاهرين وأفراد الشرطة.(3)

لقد كانت المظاهرة من السعة بحيث ضمت أكثر من عشرين ألفاً سارت نحو محطة قطار الكرخ، حيث كان من المقرر أن يمر من هناك موكب الزائر الصهيوني، واضطرت الحكومة إلى تغير مسار الموكب نحو الكاظمية فالأعظمية، حيث نزل [الفرد موند] عند المندوب السامي البريطاني، وقامت الحكومة بحملة واسعة ضد العناصر الوطنية التي ساهمت في المظاهرة، وأغلقت [نادي التضامن] الذي اتهمت الحكومة المشرفين عليه بالتحريض على التظاهر، وأصدرت أمراً بمنع التجمعات والمظاهرات بدون موافقة السلطة.

كما قررت وزارة المعارف طرد عدد كبير من الطلاب والمدرسين وأحالت قسم منهم إلى المحاكمة، وأعلن وزير المعارف [ توفيق السويدي] أن الحكومة عازمة على منع المظاهرات حتى ولو تطلب الأمر إطلاق الرصاص على الطلاب المتظاهرين المخالفين للقرار.

أما المندوب السامي فقد قدم احتجاجاً للملك على قيام المظاهرات المنددة بالصهيونية وببريطانيا، لكن المظاهرات تجددت يوم 10 شباط حيث انطلقت من جامع [الحيدرخانه] مظاهرة كبيرة تهتف بسقوط الصهيونية، وسقوط وعد [بلفور]، والاستعمار البريطاني، وجرى صدام عنيف مع رجال الشرطة التي استطاعت تفريق المظاهرة بعد جهد كبير، واعتقلت عدد من الخطباء وإحالتهم إلى المحاكمة.

ولما كان مجلس النواب قد حُلّ، ولإصرار الحكومة على إعادة الأمن وقمع المظاهرات فقد لجأت إلى إصدار المراسيم العقابية ضد كل من يحاول التظاهر، ونصت تلك المراسيم على جلد المتظاهرين، ووضعهم تحت مراقبة الشرطة، والطرد من المدارس والوظائف، والأبعاد والنفي وغيرها من المراسيم المنافية لروح الدستور، وقد أثارت هذه المراسيم موجة احتجاجات عاتية من قبل الأحزاب السياسية والصحافة التي وصفتها بأنها مراسيم جائرة.

وعلى أثر ذلك استقال وزير العدل [ حكمت سليمان ] من منصبه احتجاجاً على حضور المستشار البريطاني لوزارة العدل جلسة مجلس الوزراء، والتي قرر خلالها المجلس إصدار تلك المراسيم، ودور المستشار البريطاني في إصدارها، ونتيجة لكل تلك الضغوط اضطرت الحكومة إلى إلغاء تلك المراسيم في 17 أيار 1928. (4)

وفي 22 كانون الثاني 1928 شرعت الحكومة في الأعداد للانتخابات الجديدة لمجلس النواب، وعبأت المعارضة قواها لخوضها، وبدأت الحكومة تمارس ضغوطها للتأثير على سير الانتخابات للخروج بمجلس يؤيد سياستها، ويقر المعاهدة الجديدة مما أثار موجة من الاحتجاجات لدى المعارضة التي أعلنت أن الحكومة تعين النواب في واقع الأمر، وتقوم بتهديد الأهالي للتصويت لمرشحيها.

تم انتخاب المجلس في 9 أيار 1928 بالشكل الذي أرادته الحكومة بعد أن استخدمت كل وسائل التزوير والترهيب، واحتج حزبا [الاستقلال] و[الوطني] على نتائج الانتخاب في مذكرة رفعاها إلى رئيس الوزراء، لكن تلك الاحتجاجات لم تأت بنتيجة، تم دعوة المجلس الجديد للاجتماع يوم 13 أيار 1928، حيث ألقى الملك فيصل خطاب العرش، والذي حاول فيه تبرير حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة بالرجوع إلى رغبات الأمة !! في بعض الأمور الخطيرة، وكان الملك يقصد بذلك إقرار المعاهدة الجديدة، والتفاوض على تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.

ولما رأت بعض الشخصيات الوطنية ما تنوي الحكومة الأقدام عليه قررت تجميع صفوفها، وتأسيس حزب سياسي معارض يقف ضد تلك المعاهدة فكان تأليف [الحزب الوطني ] بقيادة الشخصية الوطنية البارزة [جعفر أبو التمن]، وضمت قيادة الحزب كل من السادة [محمد مهدي البصير] و[علي محمود الشيخ علي] و[أحمد عزت الأعظمي] و[عبد الغفور البدري] [ومولود مخلص] و[بهجت زينل] و[محمود رامز] . وبعض الشخصيات الوطنية الأخرى.(5)

قررت الحكومة السعدونية بدء المفاوضات مع بريطانيا في 11 تشرين الأول 1928 حول تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وفوضت وزراء الدفاع والمالية والمعارف للتفاوض مع الجانب البريطاني، فيما فوضت بريطانيا من جانبها المندوب السامي ومارشال الجو [أدور ولنكتون]، والسكرتير المالي لدار الاعتماد.
وقد تقدم الوفد البريطاني بمسودة اتفاقيتين جديدتين لكي تحلان محل الاتفاقيتين الملحقتين بمعاهدة 1922.
لكن الوفد العراقي المفاوض وجد أن هاتين المسودتين لا تختلفان في جوهرهما عن سابقتيهما، ولذلك اعترض عليهما، وقدم من جانبه مسودتان جديدتان تضمنتا المطالب التي تحقق طموحات العراق في التحرر من التبعية البريطانية عسكريا ومالياً.

فقد تضمنت مسودة الاتفاقية العسكرية للمعارضة الطلب بأن يكون من مسؤولية الجيش العراقي الحفاظ على أمنه الداخلي والخارجي، مع تحديد عدد الضباط البريطانيين في الجيش، وأن يعهد بإدارة الأحكام العرفية إلى ضابط عراقي بدلاً من البريطاني.
أما مسودة الاتفاقية المالية فقد تضمنت طلب العراق تملك السكك الحديدية التي كانت تحت السيطرة البريطانية، وعدم تحمل الجانب العراقي نفقات المندوبية البريطانية.

أثارت المسودتين المقدمتين من الجانب العراقي غضب المندوب السامي البريطاني الذي أعلن على الفور رفض قبولهما، مما تسبب في وقوع أزمة بين الحكومة العراقية والمندوب السامي، وسارعت الحكومة إلى إرسال مذكرة للمندوب السامي في 27 كانون الأول أوضحت له فيها وجهة نظرها في المفاوضات الجارية وضمنتها المطالب التالية:
1ـ ضرورة تولي الجيش العراقي مسؤولية الدفاع عن الوطن.
2 ـ انتخاب قائد القوات المشتركة [البريطاني] من قبل الملك فيصل.
3 ـ إدارة الأحكام العرفية من قبل ضابط عراقي .
4 ـ رفض سلطة قائد القوة الجوية البريطاني على الجيش العراقي .
5 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي .
6 ـ رفض الفقرة الخاصة بالدفاع البحري عن العراق .
أما ما يخص الاتفاقية المالية فإن الحكومة ترى ما يلي :
1 ـ أن العراق هو المسؤول عن مالية قواته البرية والجوية، وإن ما تقدمه الحكومة البريطانية من مساعدة يذهب إلى رواتب العدد الكبير من الضباط البريطانيين الذين لا ضرورة لبقائهم .
2 ـ إن إمكانية الحكومة العراقية لا تسمح بدفع نفقات دار المندوبية البريطانية .
3 ـ يجب تعديل اتفاقية الرسوم الجمركية بما يتفق ومصالح العراق.
4ـ ضرورة تملك العراق للسكك الحديدية، والحكومة العراقية على استعداد لدفع تعويض للحكومة البريطانية.
5 ـ تحديد فترة زمنية لنفاذ الاتفاقية المالية.

وفي الختام أبلغت الحكومة المندوب السامي في مذكرتها بأنها سوف لا تقدم المعاهدة الجديدة إلى مجلس الأمة قبل تعديل هاتين الاتفاقيتين المذكورتين. (6)

أما المندوب السامي، وبعد إطلاعه على مذكرة الحكومة العراقية، فقد سارع إلى الرد بعنف على ما جاء في مذكرة الحكومة، وخصوصاً فيما أعلنته حول عدم تقديم المعاهدة الجديدة إلى مجلس النواب قبل تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، ودعا المندوب السامي الحكومة العراقية إلى أن تعلن أن أحكام الاتفاقيتين نافذة طالما لم يتوصل الجانبان لاتفاقيات جديدة.

سارع السعدون بعد تلقي مذكرة المندوب السامي إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء ودعا قادة المعارضة السادة [رشيد عالي الكيلاني] و[جعفر أبو التمن] و[ياسين الهاشمي] لحضور الجلسة، وأطلعهم على مذكرة المندوب السامي، وطلب مشورتهم فيما يمكن عمله، وقد أشاروا عليه بالاستقالة مؤكدين له أن لا أحد سيقدم على تشكيل وزارة جديدة.

وبعد هذا اللقاء جمع السعدون قادة حزبه [ حزب التقدم ] وعرض عليهم الأمر، وقد اتخذ قادة الحزب قراراً بدعم موقف السعدون.

وبناء عليه سارع السعدون إلى إرسال مذكرة جوابية إلى المندوب السامي أعلن فيها أن الشعب العراقي ومجلس الأمة لا يرضيان بأقل من تحقيق المطالب التي تقدمت بها وزارته، وأن الحكومة غير مستعدة لتعلن الاتفاق على استمرار سريان مفعول الاتفاقيتين العسكرية والمالية السابقتين إلى أجل غير مسمى، وأن إقدام الحكومة على خطوة كهذه معناه الرجوع إلى الوراء، وأن ذلك مخل بكرامة الحكومة ومدعاة إلى القول بحقها أقوال شتى، وعليه فلم يعد أمام الوزارة غير تقديم استقالتها، وسوف أقدم استقالتي بداعي الأسباب الصحية، وعدم الإدلاء بأي بيان عن المفاوضات لمجلس الأمة لكي لا يحدث ما لا يحمد عقباه، ويتخذ المجلس قراراً مخالفاً لخطة الوزارة المقبلة.

سارع المندوب السامي إلى إبلاغ وزير المستعمرات البريطاني برقياً في 19 كانون الثاني 1929عن الموقف المتأزم، وعن عزم الحكومة السعدونية على الاستقالة، وحالما قرأ الوزير البريطاني الرسالة كتب إلى السعدون مذكرة مستعجلة رجاه فيها الاستمرار في الحكم رغم فشل الطرفين في التوصل إلى اتفاق بشأن الاتفاقيتين العسكرية والمالية، واعداً إياه بمعاضدة بريطانـيا لــدخول العـراق إلى عصبة الأمم، وإمكانية تحقيق بعض المطالب التي تقدمت بها حكومته، إلا أن السـعدون رد على مـذكرة وزيـر المستعمرات البريطاني بمذكرة أرسلها له في 19 كانون الثاني 1929 معرباً له عن رفضه الاستمرار في تحمل المسؤولية.

قدم السعدون استقالة حكومته إلى الملك في 20 كانون الثاني 1929، واضطر الملك إلى قبول الاستقالة على مضض طالباً منه تسيير أمور الحكم حتى تؤلف وزارة جديدة.

لم يتمكن الملك فيصل من تشكيل وزارة جديدة لمدة ثلاثة أشهر من تاريخ استقالة وزارة السعدون، بسبب الموقف البريطاني المتعنت من تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، ولما وجد المعتمد السامي أن الأمر قد طال، ولتخوفه من خطورة الازمة أسرع إلى مقابلة الملك فيصل طالباً منه الإسراع بتأليف الوزارة بأسرع ما يمكن، وقد رد عليه الملك انه لا يستطيع تكليف أحد بتأليف الوزارة طالما بقي الموقف البريطاني على حاله.

وسارع السعدون إلى دعم موقف الملك بغية إحراج المندوب السامي، فبعث إلى الملك برسالة أبلغه فيها بأنه لا يستطيع الاستمرار في تسيير دفة الحكم أكثر من هذه المدة، وطلب من الملك قبول الاستقالة والانسحاب راجياً الملك أن يكلف أحداً بتشكيل الوزارة. (7)

وفي تلك الأيام أنتقل الحكم في بريطانيا من حزب المحافظين إلى حزب العمال، وقررت الحكومة العمالية الجديدة نقل المندوب السامي [ هنري دوبس ] على أثر المشادة الكلامية التي حصلت بينه وبين الملك، وبذلك انتهت خدماته في العراق، وغادر بغداد في 1 شباط 1929، وقررت الحكومة البريطانية تعيين السير[جلبرت كلايتي] خلفاً له، والذي وصل بغداد في 2 آذار 1929.

تأمل الشعب العراقي أن يحصل تغير في السياسة البريطانية تجاه العراق بعد انتقال الحكم إلى حزب العمال وتغير المندوب السامي. فقد وعد المندوب السامي الجديد في خطابه الموجه إلى الملك فيصل أن يعمل على تحقيق ما يصبو إليه العراق !!، ودعاه إلى المحافظة على الثقة والاعتماد المتبادلين. كما سارع المندوب السامي الجديد إلى لقاء رئيس الوزراء المستقيل عبد المحسن السعدون راجياً إياه العدول عن الاستقالة والاستمرار في الحكم.

لكن السعدون أبلغه أنه لا يستطيع الاستمرار في الحكم طالما أصرت بريطانيا على عدم الاستجابة لمطالب العراق الوطنية المشروعة، وعلى اثر تلك المقابلة سارع المندوب السامي إلى إعلام الحكومة البريطانية بالموقف، ووجدت الحكومة البريطانية أن بقاء التوتر بينها وبين الشعب العراقي ليس في صالح بريطانيا، وأن استمرار التوتر ينذر بأخطار كبيرة، فكتبت إلى مندوبها السامي تعلمه أن الوزارة عازمة على إدخال العراق في عصبة الأمم شرط أن تضمن المصالح البريطانية من خلال تعهدات ترتبط بها حكومة العراق مع بريطانيا، وأنها مستعدة للنظر في مطالب العراق فيما يخص الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وعليه فقد سارع المندوب السامي إلى إبلاغ الملك فيصل بمضمون رسالة وزير المستعمرات البريطانية في 21 نيسان 1929.

حاول الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الجديدة، إلا أن السعدون أبلغ الملك أن أعضاء حزبه في البرلمان لا يستطيعون منح الثقة لنوري السعيد، ولما لم يجد الملك مفراً من ذلك عهد إلى توفيق السويدي بتأليف الوزارة الجديدة في 28 نيسان 1929 على أمل إنقاذ الموقف، وجرى تأليف الوزارة على عجل. (8)

جاءت الوزارة الجديدة من هيئة الوزارة السعدونية السابقة، ومستندة إلى حزب السعدون الذي يتمتع بالأغلبية في مجلس النواب، لكن الحزب وضع أمام الوزارة شرط إجراء التعديلات المطلوبة على الاتفاقيتين المالية والعسكرية كي تنال ثقة البرلمان.

أثار تشكيل توفيق السويدي للوزارة موجة من الغضب الشعبي، وغضب أحزاب المعارضة على حد سواء، ولذلك فقد كان عمر الوزارة قصيراً، ولم تستطع أن تقدم شيئاً يذكر سوى تصديها للمظاهرات الوطنية التي قامت في بغدد في 30 آب 1929 احتجاجاً على الجرائم التي ارتكبها الصهاينة وقوات الاحتلال البريطاني في فلسطين ضد السكان العرب في ذلك الشهر، حيث تصدت الشرطة للمظاهرات وقمعتها بالقوة، وقامت الحكومة بتعطيل صحيفتي {النهضة} و{الوطن}، وتوجيه إنذار لصحيفة {العالم العربي} بسبب نشر المقالات المنددة بوعد [بلفور] وجرائم الصهاينة في فلسطين، واحتج الحزب الوطني على أساليب الحكومة القمعية، وقمعها للحريات العامة.

وبسبب الموقف الشعبي وموقف أحزاب المعارضة من الحكومة لم يجد توفيق السويدي بُداً من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 25 آب 1929 ولم يمضِ على تشكيلها سوى أقل من أربعة أشهر كي تعقبها وزارة السعدون الرابعة، حيث كلفه الملك فيصل بتأليف الوزارة الجديدة في 19 أيلول 1929.

وخلال الفترة الزمنية التي تلت استقالة حكومة السويدي وتأليف حكومة عبد المحسن السعدون توفي المندوب السامي [جلبرت كلايتي] بالسكتة القلبية في بغداد مساء يوم الأربعاء 11 أيلول 1929. شكل عبد المحسن السعدون وزارته الرابعة في 19 أيلول 1929 مبدياً أول ملاحظاته عن الوضع السياسي حيث أشار فيها إلى أن بريطانيا قد وافقت على العمل لإدخال العراق في عصبة الأمم دون قيد أو شرط عام 1932.

كما أعلن عن رغبة بريطانيا في عقد معاهدة جديدة لتنظيم العلاقة بين البلدين، على نفس الأسس التي أقتُرح للاتفاق المصري البريطاني، وأشار إلى أن هذا الموقف يعتبر تراجعاً من بريطانيا عن مواقفها السابقة المتصلبة تجاه المطالب العراقية المشروعة في التحرر والاستقلال الوطني والسيادة الحقيقية، وقد وضع السعدون في مقدمة قائمة المهام لوزارته الأمور التالية:

1ـ العمل على عقد معاهدة جديدة وتطبيقها لتسريع دخول العراق في عصبة الأم قبل عام 1932، وإزالة أي صبغة للاحتلال البريطاني في صلب المعاهدة الجديدة.
2ـ إنهاء مسؤولية بريطانيا الدفاعية عن العراق، وإناطتها بالجيش العراقي، وتطبيق قانون التجنيد الإلزامي، لبناء جيش كبير وقوي يستطيع القيام بالمهام المطلوبة منه.
3ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي، وتقليص عدد المفتشين البريطانيين، والموظفين الذين لا تستدعي الحاجة إلى بقائهم، واستبدالهم بموظفين عراقيين.
4ـ إعادة النظر في التعريفة الجمركية، وتشجيع الصناعات الوطنية وصمودها أمام المنافسة الأجنبية.

وبالنظر لوفاة المندوب السامي [ جلبرت كلايتي ] المفاجئة بالسكتة القلبية قررت الحكومة البريطانية تعيين السير [فرانسيس هيمفريز] ليحل محله كمندوب سامٍ لها في العراق، في 7 تشرين الأول 1929، ووصل بالفعل إلى بغداد لتسلم مهام منصبه في 10 كانون الأول من السنة نفسها، وأعلنت الحكومة البريطانية في الوقت نفسه عن عزمها على ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932.

قررت حكومة السعدون الشروع بإجراء المفاوضات لوضع معاهدة جديدة تلبي طموح الشعب العراقي، وألّفت وفدها المفاوض من السادة وزراء الدفاع والمالية والداخلية، وسارع السعدون إلى طرح برنامج حكومته أمام مجلس النواب في أول لقاء له مع المجلس بعد تأليف وزارته.

لكن المعارضة هاجمته بشدة، واتهمته بالتراجع عن مواقفه السابقة التي أصر فيها على المطالب العراقية المشروعة فيما يخص المعاهدة، وتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.

وجاء ردّ ه على نواب المعارضة بنفس الدرجة من العنف عندما أنتقد النواب قبوله لتصريح الحكومة البريطانية السالف الذكر، وعما سيحصل إذا تغيرت الحكومة العمالية، وتراجعت بريطانيا عن التصريح حيث قال:{إذا حصل ذلك فإني اعتقد أن نيل الاستقلال تابع إلى جرأة الأمة، فالأمة التي تريد الاستقلال يجب أن تتهيأ له، ولا يكون ذلك بالكلام والأقوال الفارغة، فالاستقلال يؤخذ بالقوة والتضحية، وهذا ما أحببت أن أقوله}.

انتحار عبد المحسن السعدون:

كان لكلام عبد المحسن السعدون في مجلس النواب دوي كبير لدى الجانب المعارض والجانب الموالي لبريطانيا على حد سواء، ففي الوقت الذي ثمّنَ المعارضون ما قاله من أن الاستقلال يؤخذ بالقوة، ومطالبته الشعب بالتهيؤ له والتضحية في سبيله، فإن الموالين لبريطانيا قد أغضبهم حديثه، وسعى البعض منهم للوشاية به لدى وكيل المندوب السامي البريطاني [ الميجر يانك ] لذي سارع إلى معاتبته، وتقريعه بكلمات خشنة وعنيفة أثارت في نفسه الحزن العميق لدرجة لم يعد يتحملها، ودفعته إلى الانتحار في 13 تشرين الثاني 1929، حيث أطلق على نفسه الرصاص تاركا رفاقه، والملك فيصل، ووكيل المندوب السامي في حالة من الذهول الشديد، والقلق العميق مما يمكن أن يحدثه انتحاره من رد فعل لدى الشعب، وقد ترك وصيته لأبنه [علي ] شرح فيها أسباب أقدامه على الانتحار، وأوصاه بوالدته و أخوته الصغار، وهذه نص الوصية :
{ ولدي وعيني، ومستندي علي: اعفِ عني لما ارتكبته من جناية، لأني سئمت هذه الحياة التي لم أجد فيها لذةً، وذوقاً، وشرفاً. فالأمة تنتظر مني خدمة، والإنكليز لا يوافقون، وليس لي ظهير.
العراقيون طلاب الإستقلال ضعفاء وعاجزون، وبعيدون كثيراً عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير أرباب الناموس أمثالي. يظنون أني خائن للوطن، وعبد للإنكليز؟
ما أعظم هذه المصيبة!! أنا الفدائي الأشد إخلاصاً لوطني، قد كابدت أنواع الإحتقارات، وتحملت المذلات مضضاً في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش بها آبائي وأجدادي مرفهين.
ولدي نصيحتي الأخيرة لك هي :
1 ـ أن ترحم أخوتك الصغار، الذين سيبقون يتامى، وتحترم والدتك، وتخلص لوطنك.
2 ـ أن تخلص للملك فيصل وذريته إخلاصاً مطلقاً.
أعفِ عني يا ولدي علي} . (10)

التوقيع
عبد المحسن السعدون

سارعت الحكومة إلى إذاعة نبأ الفاجعة، وجرى تشيع مهيب للفقيد إلى المقبرة الكيلانية في باب الشيخ، وسار خلف جنازته جميع الشخصيات السياسية، وجمع غفير جداً من أبناء الشعب، وهم يعبرون عن الأسى والحزن العميق لانتحاره، وانهالت برقيات التعازي من شتى أنحاء العالم.

أما وكيل المندوب السامي فقد أحتج على الحكومة بشدة بسبب سماحها بنشر وصية السعدون، معتبراً ذلك العمل تحريضاً على بريطانيا وسياستها تجاه العراق، وتثير هيجاناً لدى الرأي العام العراقي، لكن الملك فيصل والحكومة حاولوا بكل خنوع تبرير نشر الوصية إرضاءً لوكيل المندوب السامي البريطاني. (11)

بعد إتمام مراسيم تشيع الفقيد أصبحت الوزارة في حكم المستقيلة، وتحتم تشكيل وزارة جديدة تحاول تهدئة الغليان الشعبي الذي أحدثه انتحاره، ولاسيما بعد نشر وصيته، واتفق الملك فيصل مع وكيل المندوب السامي على ترشيح السيد [ ناجي السويدي ]، وصدرت الإرادة الملكية بتكليفه في 18 تشرين الثاني 1929، وتم تشكيل الوزارة، وأعرب رئيس الوزراء بعد تشكيل وزارته في رسالته الموجه إلى الملك فيصل عن عزمه على السير على نفس النهج الذي سارت عليه وزارة الفقيد السعدون، وأكد حرصه على فسح المجال للوزراء لممارسة مهام وزاراتهم بحرية، والعمل على الحد من تدخل المندوب السامي والمستشارين البريطانيين، والعمل على تحقيق أماني الشعب فيما يخص المعاهدة الجديدة، وتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية بما يضمن حقوق العراق وحريته واستقلاله، وقد أوعز رئيس الوزراء إلى اللجنة التي شكلها السعدون لمفاوضة بريطانيا حول المعاهدة الجديدة، وبُوشر بالمفاوضات مع الوفد البريطاني، برئاسة المندوب السامي.

لكن المفاوضات اصطدمت مرة أخرى برفض المندوب السامي الاستجابة للمطالب الوطنية، وبقيت مواقف الطرفين متباعدة جداً، ولم تستطع المفاوضات تحقيق أي تقدم .

وفي عهد هذه الوزارة بدأ النفوذ الأمريكي بالتغلغل في العراق بشكل رسمي، بعد أن وقعت الحكومة الأمريكية من جهة، والحكومتان البريطانية والعراقية من جهة أخرى في 9 كانون الثاني 1930 على معاهدة تؤمن المصالح الأمريكية في العراق، وقد جعلت هذه المعاهدة تحت الهيمنة البريطانيةـ الأمريكية المشتركة، والمتشابكة مصالحهما الاقتصادية والعسكرية والسياسية مع بعضها البعض، وكان الشيء الإيجابي الوحيد في تلك المعاهدة هو اعتراف الولايات المتحدة باستقلال العراق. (12)

غير أن هذه الوزارة عجزت عن تحقيق أي من الأمور الرئيسية التي كان قد قررها الراحل عبد المحسن السعدون في منهاجه والتي كانت قد وعدت بتنفيذها.

فقد حاولت الحكومة تقليص الميزانية المخصصة للموظفين البريطانيين في محاولة منها لتقليص عددهم، وأدى ذلك إلى اصطدام الحكومة بالمندوب السامي الذي استشاط غضباً على خطط الحكومة، وطلب من الملك التخلص منها، واضطرت الحكومة تحت ضغط المندوب السامي إلى تقديم استقالتها إلى الملك فيصل في 9 آذار 1930، وتم قبول الاستقالة، ورحب المندوب السامي بها، ووقف رئيس الوزراء [ ناجي السويدي ] يخطب في مجلس النواب شارحاً أسباب الاستقالة ومتهماً الموظفين البريطانيين بالتحكم في أمور البلاد، ثم تلاه [يسين الهاشمي] وقال مخاطباً أعضاء المجلس أن الإنكليز يحكمون البلاد حكماً كيفياً، وإن الملك فيصل يساير الإنكليز، ولا يستطيع معارضتهم. (13)

أدت استقالة الحكومة، وبيان رئيسها حول سبب الاستقالة إلى هيجان شعبي عارم، وخرجت جماهير الشعب في مظاهرات صاخبة احتجاجاً على السياسة البريطانية تجاه العراق، ومطالبة بالاستقلال الحقيقي الناجز، والتخلص من الهيمنة الإمبريالية، وقد تقاطرت الوفود من كافة أنحاء العراق للمشاركة في مظاهرات الاحتجاج، وانهالت البرقيات على الحكومة والصحافة الوطنية، وأصبح الوضع يهدد بوقوع أحداث خطيرة، وخاصة في 21 آذار، حيث اجتاحت بغداد مظاهرة كبرى أقفلت على أثرها المحال التجارية والأسواق أبوابها، وأصدر المندوب السامي أمراً للموظفين البريطانيين بملازمة مساكنهم، وسارت المظاهرة في شوارع بغداد، وتوجهت إلى الباب الشرقي، ثم إلى دور السفارات والقنصليات، وهم يهتفون الهتافات الوطنية المطالبة بالاستقلال الناجز، ورفض الهيمنة البريطانية، وبالنظر لخطورة الموقف أشارالمندوب السامي على الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتشكيل حكومة جديدة تأخذ على عاتقها إقرار المعاهدة.

يتبع الحلقة الرابعة


30/7/2015

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter