نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حامد الحمداني

 

 

 

 

الجمعة 26/5/ 2006

 

 

عبد الناصر والعراق وثورة 14 تموز
الحلقة الثالثة


حامد الحمداني

انقلاب الشواف والأحداث التي رافقته ودور عبد الناصر


كان الانقسام في صفوف القوى الوطنية في أوائل عام 1959 قد بلغ مداه ، ورفضت القوى القومية والبعثية أي دعوة للتعاون والتلاحم من أجل مصلحة الشعب والوطن .
لقد جرت في تلك الأيام انتخابات النقابات ، والمنظمات الجماهيرية ، وبذلت القوى الديمقراطية جهوداً كبيرة ،من أجل لمّ الشمل ، والخروج بقائمة موحدة في الانتخابات ، ولكن القوى القومية والبعثية رفضتا ذلك رفضاً قاطعاً ، وأصرتا على خوض الانتخابات بصورة منفردة ، قاطعة الطريق على أي تقارب وتعاون .
جرت الانتخابات بروح ديمقراطية ، بإشراف ممثلين عن القائمتين [الديمقراطية] والتي ضمت الشيوعيين ، والوطنيين الديمقراطيين ، و[الحزب الديمقراطي الكردستاني] ، والقائمة [الجمهورية ] التي ضمت البعثيين والقوميين ، وقد لفوا حولهم كل العناصر الرجعية ، المناهضة للثورة أساساً ، تلك القوى التي وجدت فرصتها في هذا الانقسام للظهور بمظهر القومية الزائفة ، والوحدوية !!، في حين أنها كانت ، ولعهد قريب ، من أشد أعداء الوحدة وعبد الناصر ، ولا تزال تلك الأحداث في ذاكرتي ، عندما فازت القائمة الديمقراطية [المهنية ] للمعلمين ، وكنت أحد مرشحيها ، بفارق كبير ، وأعترف ممثلي القائمة [الجمهورية ] بتوقيعهم على محاضر الانتخابات وفرز الأصوات ، بان الانتخابات قد جرت في جو ديمقراطي لا تشوبه شائبة ، وكانت نقابة المعلمين ، تمثل قطاعاً كبيراً من المثقفين ، وقد تجاوز عدد أعضائها أكثر من خمسة وخمسون ألف معلم ومدرس وأستاذ جامعي آنذاك .
كانت الانتخابات تلك خير مقياس لتوزيع القوى ، حيث كان لها دور فاعل في الحياة السياسية للبلاد ، وجرت بعد ذلك انتخابات الطلاب ، حيث جرى الاستقطاب بين القوى السياسية ، على غرار ما جرى في انتخابات نقابة المعلمين ، وفازت القائمة الديمقراطية ، المسماة ب [اتحاد الطلبة ] فوزاً ساحقاً وتبع ذلك انتخابات نقابة المهندسين ، والأطباء ،والعمال والجمعيات الفلاحية، وفشلت تلك القوى الرافضة للتعاون في الحصول على أي مكسب فيها .
لقد تعمق الاستقطاب في صفوف الحركة الوطنية ، وأخذ التباعد يتسع يوماً بعد يوم ، وأخذ الجانب الخاسر في التنافس الحر ، منحى آخر يستند إلى العنف في تحقيق ما عجز عن تحقيقه عن طريق التنافس الديمقراطي الحر ، وبدأت عقولهم تفكر في استخدام القوة ، والعنف لتغيير الأوضاع لصالحهم .
وجد العقيد الشواف ـ آمر موقع الموصل ـ فرصته الذهبية في ركوب الموجة فقد كان يشعر بأنه قد أصابه الغبن الكبير ، عند ما جرى تعيينه آمراً للواء الخامس ، وآمر موقع الموصل ، وكان يطمح في الحصول على منصب وزاري ، أو منصب الحاكم العسكري العام عند قيام الثورة ، حتى لكأنما قامت الثورة لتوزيع المناصب على القائمين بها ، وليس من أجل خدمة القضية الوطنية .
كنت في تلك الأيام في الموصل أرى وأحس والمس ذلك الصراع يتطور ويتعمق ، والانقسام يبلغ مداه ويتحول إلى عداء واعتداء ، وتحول ذلك الجانب الخاسر في الانتخابات إلى عصابات تنتشر هنا وهناك وتتحين الفرص للاعتداء على العناصر الديمقراطية والشيوعية بوجه خاص ، وحاول الشيوعيون عدم الإنجرار وراء تلك الأعمال ، وتجنب الصدام ، وكان أملهم في إعادة الصواب إلى رشد تلك القوى ، والعودة إلى التلاحم والتعاون من أجل مصلحة الشعب والوطن ، وديمومة الثورة ونضوجها ، وتعمقها من أجل تحقيق أحلام الشعب العراقي الذي ضحى من أجلها سنين طويلة .
كانت القوى الديمقراطية تدرك معنى الانقسام في صفوف الحركة الوطنية والمخاطر التي تسببها ، وفعلت كل ما يمكن من أجل إعادة اللحمة للقوى الوطنية ،ولجبهة الاتحاد الوطني ،إلا أن كل محاولاتها ذهبت أدراج الرياح، وراحت تلك القوى تعد العدة ، وتحضّر لمحاولة انقلابية في مدينة الموصل ، ثاني أكبر مدن العراق ،وكانت تحركاتهم وإعدادهم لذلك الانقلاب بادية للعيان وتجري على قدم وساق ، فيما كان الجانب الثاني من الاصطفاف ـ الشيوعيون والديمقراطيون ،الديمقراطيين الكردستانيين ـ يراقبون الأوضاع بدقة ، فالخطر لا يعني عبد الكريم قاسم وحده ،أو الثورة وحدها ،وإنما يعني وبكل تأكيدً تعرض كل القوى المساندة للثورة للتصفية ، وفي المقدمة منها الشيوعيين الذين انصب عليهم حقد القوى الرجعية والبعثيين ، إذا ما تحقق النصر لمحاولتهم الانقلابية .
كان العقيد الشواف ، وعدد من الضباط القوميين ،والبعثيين ينشطون بهذا الاتجاه ، وينسقون مع القوى الرجعية للإعداد لتك المحاولة .
وأنتهز أعضاء المؤتمر الأول لنقابة المعلمين في الموصل ، وكنت واحداً منهم، وجوده في بغداد ، لحضور المؤتمر الأول للنقابة المنعقد في أواسط شباط 1959 ، الفرصة وطلب مقابلة الزعيم عبد الكريم قاسم لأمرٍ يخص الثورة والجمهورية وأمنها .
وافق عبد الكريم قاسم على استقبال الوفد في مقره بوزارة الدفاع ، وحضر الوفد في الوقت المحدد ولم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى حضر عبد الكريم قاسم ، وبدأ الزعيم الحديث موجهاً كلامه للوفد مرحباً بالوفد، ثم بدأ رئيس الوفد ، الشهيد[ يحيى الشيخ عبد الواحد ] ، الذي كان من أبرز المعارضين في الموصل في العهد الملكي ، بالحديث عن أوضاع الموصل المتدهورة والنشاط التآمري الذي يجري على قدم وساق ، وموضحاً للزعيم أن العراق في خطر ، وإن الثورة في خطر كذلك ، إذا لم تسارع حكومة الثورة في معالجة الأمور بأسرع وقت ممكن ، من أجل نزع الفتيل قبل حدوث الانفجار ، مشيراً إلى العناصر التي تقود ذلك النشاط ، وعلى رأسها العقيد الشواف ، وزمرة من الضباط القوميين والبعثيين المتعاونين معه ، بالإضافة إلى القوى الرجعية والإقطاعية ، وعلى رأسها شيخ مشايخ شمر [ أحمد عجيل الياور ] .
وتحدث يحيى عن السلاح الذي كان المتآمرون ينقلونه عبر الحدود مع سوريا ويخزنونه في الموصل ، وكذلك عملية تسليح قبائل شمر ،التي تدين بالولاء لرئيسها أحمد عجيل الياور ، أكبر إقطاعيي المنطقة الشمالية قاطبة ، والنائب السعيدي المزمن في العهد الملكي ، والحاقد على الثورة وعلى قانون الإصلاح الزراعي الذي جرده من سلطانه .
كما تحدث يحيى عن نشاط عملاء شركات النفط في [عين زالة ] في الموصل بهذا الاتجاه .
إلا أن الزعيم عبد الكريم قاسم كان رده بارداً جداً ، حيث أجاب الوفد بعباراته المشهورة :
[الصبر] و [ التسامح ] و [ والكتمان ] و[المباغتة ] والتي كان يرددها دائماً، وقد رد عليه يحيى قائلاً :
يا سيادة الزعيم ، إن هناك حكمة تقول [ الوقاية خيرٌ من العلاج ] ، إن انتظار حدوث الكارثة ومعالجتها بعد ذلك ، أمرٌ خطيرٌ جداً ، إذ ربما تكون لها إمتدادات واتصالات وتنسيق في مختلف أنحاء العراق ، ولربما تؤيدها غيرها من القطعات العسكرية في مناطق أخرى ، وربما تنجح تلك المحاولات في اغتيال الثورة ، وفي أحسن الأحوال ، حتى لو قامت المحاولة وفشلت ، فلا أحد يستطيع تقدير خسائرها وأضرارها ، لذلك فأن منع وقوعها ، أفضل بكثير من انتظار وقوعها ، والقضاء عليها .
كان جواب عبد الكريم قاسم غير متوقع إطلاقاً ، لقد غضب قاسم من حديث يحيى ، وأجاب قائلاً :
{ إننا ندرك الأمور إدراكاً جيداً ، وإن العقيد الشواف هو أحد الضباط الأحرار وأنتم تهولون الأمور، نحن أقوياء واثقون من أنفسنا } .
وعاد الأستاذ يحيى مخاطباً الزعيم قاسم قائلا :
سيادة الزعيم : إننا لا نطلب من سيادتكم سوى طلب بسيط ، فنحن لا نطلب أن تعاقب أحداً ،أو تسجن أحداً ، وكل ما نطلبه هو نقل زمرة الضباط المذكورة إلى وحدات غير فعالة ، وتفريقها في مناطق أخرى خارج الموصل منعاً لوقوع الواقعة .
لكن الزعيم قاسم رفض ذلك رفضاً قاطعاً وأجاب بحدة :
{ إن هذه الأمور تتعلق بنا وحدنا ، ونحن لا نسمح لأحد بالتدخل فيها } .
وأخيراً بدا عبد الكريم قاسم يغير اتجاه الحديث ، عارضاً منجزات الثورة ، وطموحاتها المستقبلية ، وقبل نهاية اللقاء تناول مجموعة من صوره الموقعة من قبله ، وأخذ يوزعها على أعضاء الوفد ، وبذلك أنتهي اللقاء ، وغادر الوفد وزارة الدفاع ، والكل يضرب أخماساً بأسداس ، كما يقول المثل ، ويسأل بعضه بعضا :
هل ستقع الواقعة ؟ بل متى ستقع بالتأكيد ؟ وماذا ستكون النتائج ؟
عاد الوفد إلى الموصل والقلق بادٍ على وجوه الجميع ، فقد كان الجو مكفهراً وينذر بالخطر.
وفي تلك الظروف البالغة الخطورة ، قرر الحزب الشيوعي ، وحركة أنصار السلام ، التي يساهم فيها الحزب بنشاط كبير تحدي المتآمرين ، وتوجيه تحذير إليهم بأن مدينة الموصل سوف لن تكون مسرحاً لاغتيال الثورة ومنجزاتها ، وأن الشعب العراقي سوف يقف بالمرصاد لأي تحرك ، معلناً عن تنظيم مهرجان لأنصار السلام في الموصل في أوائل آذار 959 ، واستعدت القوى الديمقراطية ،والشيوعية ، والديمقراطيين الكردستانيين لذلك اليوم الموعود، وتقاطرت الوفود من أنحاء القطر للمشاركة في ذلك المهرجان .
كانت المظاهرة من الضخامة وحسن التنظيم ما أقلق قوى الظلام ، وأثار غضبها وحقدها ، فنصبت الكمائن لتصب جام غضبها على المسيرة ، وأمطرتها بوابل من الرصاص ، والحجارة ، فجرح من جرح ، وأدى ذلك إلى وقوع صدامات عنيفة مع المهاجمين .
أكفهر الجو ، ونزلت قوات كبيرة من الجيش والشرطة لإيقاف الصدام ، وانتهى ذلك اليوم ، وعادت الوفود إلى مدنها ، وخيم الوجوم على الموصل وأبنائها ، وتصاعد القلق كثيراً ، فقد بدا واضحاً أن الوضع قد ينفجر في أية لحظة ، وبالفعل لم يكد يمضِ سوى يومان حتى نفذ المتآمرون فعلتهم ، بادئين ليلة 7/8 آذار باعتقال كلال كوادر والنشطاء في الأحزاب ،والمنظمات الديمقراطية ،وبوجه خاص منتسبي الحزب الشيوعي ، وقد جرى الاعتقال بأسلوب الاحتيال ، حيث طلب الشواف اللقاء معهم في مقره ، لدراسة الأوضاع السياسية المتدهورة وسبل معالجتها ، ولبى من لبى ذلك النداء ووقع في الفخ الذي نصبه الشواف لهم ، واختفى من أختفي مشككاً بأهداف الاجتماع وكان ما كان ، فقد أُخذَ الجميع بالشاحنات العسكرية معتقلين ، وأودعوا الثكنة الحجرية .
وفي الصباح كان المتآمرون قد هيئوا إذاعة قدمت لهم من عبد الناصر ـ رئيس الجمهورية العربية المتحدة ، منصوبة في شاحنة طويلة تحمل صندوقا كبيراً ، كانت قد وصلتهم عبر الحدود السورية ، وبادرالعقيد الشواف إلى إعلان بيانه الأول معلناً قيام الانقلاب ، ومطالباً عبد الكريم قاسم بالاستقالة .
لكن حركة العقيد الشواف لم تكن سوى حركة لمجموعة من الضباط المغامرين التواقين إلى السلطة ، ولا يستندون إلى أي قاعدة شعبية ، ولا عسكرية ، فقد وقف فوج الهندسة التابع للواء القائم بالحركة ، بكافة ضباطه وجنوده ضد الحركة الانقلابية منذُ اللحظة الأولى ،رغم قيام الإنقلابيين بقتل آمر الفوج الشهيد العقيد[عبد الله الشاوي ] وقاومه بقوة السلاح ، أما الجنود وضباط الصف ، الذين كانوا بإمرة الانقلابيين ، والذين انساقوا تحت وطأة الخوف من قادتهم ، فسرعان ما انتفضوا على ضباطهم المتآمرين ، وانضموا إلى جانب السلطة ،ومقاومة الانقلاب .
وخلال المعارك التي دارت بين الانقلابيين ، والقوى المساندة للسلطة ، سقط من بين الانقلابيين (37) فرداً بظمنهم المجموعة التي أعدمها الشيوعيون في الدملماجة ، وذلك حسبما ورد في تقرير الطب العدلي ، وأكده المقدم [يوسف كشمولة ] ، أحد المشاركين في الحركة الانقلابية خلال الاحتفال الذي أقيم في ملعب الموصل ،إحياءً لذكرى انقلاب الشواف ، بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 63 ، وإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم ، كما أن المجلس العرفي العسكري الذي أقامه انقلابيوا 8 شباط ، قد أكد العدد المذكور.
في ذلك الحين كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة تذيع أخباراً تحريضية مذهلة عما سمته بالمجازر التي وقعت في الموصل ، وادعت أن عدد القتلى من البعثيين والقوميين ، قد جاوز( 20) ألفاً في محاولة منها لإثارة القوى القومية والبعثية للانتفاض على حكومة الثورة وإسقاطها .
لقد جرى تسخير هذه الإذاعة في تلك الأيام للهجوم على حكومة الثورة ، وعلى عبد الكريم قاسم بالذات ، وعلى القوى الديمقراطية والشيوعية ، مستخدمة أبذأ الكلمات والعبارات التي لا تليق بدولة ، كان لها من الاحترام والحب لدى الشعب العراقي إبان العهد الملكي ما يفوق الوصف ، وخاصة عندما خاضت مصر بقيادة الرئيس عبد الناصر معركة السويس عام 1956 ضد العدوان الثلاثي البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي، ويتلهف لسماع إذاعة [صوت العرب] .
لقد تكشف للأمة العربية وللعالم أجمع زيف وكذب تلك الإذاعة عما كانت تبثه من أخبار المجازر المزعومة في الموصل ، وأساليب التحريض الرخيصة ضد ثورة 14 تموز وقيادتها ، ليس حباً بالعراق وشعبه ، ولا حرصاً على مصالحه ، وإنما حباً في السيطرة على العراق ، وضمه قسراً للجمهورية العربية المتحدة ، دون أخذ رأي الشعب العراقي في مثل هذا الأمر الخطير ، والهام ، الذي يتعلق بمصيره ومستقبله.
كان من المؤسف أن ينبري الرئيس عبد الناصر في خطاباته آنذاك ، يومي 11، و13 آذار لمهاجمة عبد الكريم قاسم ،واصفاً إياه بالشعوبي تارة ، وقاسم العراق تارة أخرى ، ومركزاً حملته على الشيوعيين ، متهماً إياهم بالعمالة لموسكو ، وبخيانة الأمة العربية ، كما صورت أجهزة إعلامه الأحداث التي جرت خلال وبعد القضاء على تمرد الشواف بأنها أحداث رهيبة.
لقد كان ذلك الموقف من الرئيس عبد الناصر من الأخطاء الكبرى في سياسته تجاه العراق وثورته ، فقد كان الأجدر بالرئيس عبد الناصر أن يمد يده لعبد الكريم قاسم من أجل دعم ونهوض حركة التحرر العربي ، ومكافحة النفوذ الإمبريالي في أنحاء العالم العربي ، والعمل على إيجاد أحسن الوسائل والسبل للتعاون والتضامن مع العراق ، واتخاذ الكثير من الخطوات التي تعزز التعاون والتكامل في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية وغيرها.
لم تصمد حركة العقيد الشواف الانقلابية سوى أقل من 48 ساعة ، فقد كان رد الفعل لحكومة الثورة ، والحزب الشيوعي ، والحزب الديمقراطي الكردستاني وسائر الجماهير الشعبية المساندة للثورة سريعاً وحازماً ، حيث جرى التصدي للانقلابيين ، وقام فوج الهندسة ، التابع للواء المنفذ للانقلاب ، بالإضافة إلى جانب كبير من الجنود وضباط الصف ، وآلاف المسلحين العرب والأكراد ، والذين نزلوا إلى الشوارع للتصدي للانقلابيين ، وإفشال خططهم للإطاحة بالثورة وحكومتها ، وقامت طائرات من سلاح الجو العراقي بقصف مقر قيادة الشواف الذي أصيب بجروح خلال القصف ، ونقل إلى المستشفى الميداني ، في معسكر الغزلاني ، حيث قتل هناك على يد النائب ضابط المضمد [يونس جميل ] ، وبمقتله تلاشت مقاومة الانقلابيين .
وقد ظهر من خلال المحاكمات التي جرت للضباط المشاركين ، ومن خلال البيان الأول للشواف الذي أشار فيه صراحة إلى الاتفاق مع قائد الفرقة الثانية في كركوك الزعيم الركن [ ناظم الطبقجلي ] أن الانقلاب كان له امتدادات واسعة في كركوك وبغداد ، وبشكل خاص مع مدير المخابرات العسكرية [رفعت الحاج سري ] ، ومع وحدات عسكرية في مناطق أخرى ، وأن الذي حال دون قيام الزعيم ناظم الطبقجلي بدوره في الانقلاب هو رغبة الشواف في الاستئثار بقيادة الانقلاب ، على الرغم من أن اللواء الذي يقوده في الموصل تابع للفرقة الثانية التي يقودها الزعيم الركن ناظم الطبقجلي ، والذي هو أعلى من الشواف رتبة وقدماً ، وهذا ما يفسر بدقة طموحات الشواف في الوثوب إلى المركز الأول في السلطة .
وهكذا فشل تمرد الشواف ، وتمت السيطرة على المدينة خلال أقل من 48 ساعة ، وتم اعتقال عدد من الضباط المتآمرين ، فيما هرب البعض الآخر إلى سوريا ، وذهب ضحية ذلك الانقلاب حوالي (135) فرداً من الجنود الذين ساهموا في قمع الانقلاب .

الأحداث التي رافقت قمع المحاولة الانقلابية :

لا أحد يستطيع أن ينكر وقوع أحداث وتصرفات وأخطاء ما كان لها أن تحدث ، قامت بها عناصر معينة أساءت إساءة كبرى للحزب الشيوعي ، فقد جرى قتل وسحل عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية ، وجرى نهب وحرق بيوتهم من قبل أشخاص فوضويين لا صلة لهم بالأحزاب السياسية ، استغلوا الفراغ الأمني ليقوموا بإعمال شريرة لا يقرها أي إنسان ، ولم يستطع الحزب الشيوعي وقف تلك الأعمال الفوضوية إلا بعد فوات الأوان ،
كما أقترف الحزب خطاً كبيراً عندما نصّبَ عدد من كوادر الحزب أنفسهم حكاماً ، وقاموا بمحاكمة عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية ، وحكموا على (17) منهم بالإعدام ، وجرى تنفيذ الحكم في منطقة الدملماجة ، في ضواحي الموصل ، وهذا الأمر يعتبر تجاوزاً على سلطة الدولة ، وهو ليس فقط لم يخدم الحزب ، بل جلب له الكوارث والأذى .
لقد كان الأجدى بأولئك القادة اعتقال هؤلاء المتآمرين ، وتسليمهم للسلطة الشرعية ، كما فعل بالنسبة للضباط المشاركين في الانقلاب ، لتحيلهم بدورها إلى المحاكم المختصة لمحاكمتهم ، والحكم على من يثبت مشاركته في المحاولة الانقلابية ، فليس من حق أحد أن يمارس السلطة القضائية ويصدر ، وينفذ الحكم دون تخويل .
كما أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الزعيم عبد الكريم قاسم نفسه ، الذي جرى تحذيره ، كما ورد سابقاً ، من حدوث ما لا يحمد عقباه ، ولكنه صمّ أُذنيه عن سماع التحذير، ورفض اتخاذ أي إجراء لمنع وقوع الكارثة ، في حين كان بإمكانه أن يفعل ذلك .
والأنكى من كل ذلك فأن قاسم نفسه ، اتخذ فيما بعد من تلك الأحداث ذريعة ليصفي نفوذ الحزب الشيوعي في العراق ، موجهاً الاتهامات لهم ، ولاصقاً بهم الجرائم ، بعد أن كان قد أستقبل وفداً من قيادة الموصل للحزب ، بعد قمع انقلاب الشواف ، وخاطبهم قائلا بالحرف الواحد :
{ بارك الله فيكم ، وكثّر الله من أمثالكم من المخلصين لهذا البلد }!! .
غير أنه لم يمضِ سوى بضعة أشهر على ذلك اللقاء ، حتى بادر قاسم إلى اعتقال كافة الشيوعيين النشطين ، وأودعهم سجن بغداد ، ثم أحالهم إلى المجالس العرفية التي أصدرت بحقهم أحكاماً قاسية وصلت حتى الإعدام ، وأبقاهم رهائن في السجن لكي يقعوا بأيدي انقلابيي 8 شباط 1963 ، حيث جرى إعدامهم في شوارع الموصل بعد ممارسة عمليات تعذيب واسعة بحقهم، وجرى تعليق جثثهم على أعمدة الكهرباء ، في شوارع الموصل ، كما جرى نفس الشيئ بحق المتهمين بأحداث كركوك، بعد أن مارسوا بحقهم أشنع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي .
لقد كان لموقف عبد الكريم قاسم الجديد ، خير مشجع لنشاط الزمر الرجعية ، والعناصر التي شاركت في محاولة الشواف الانقلابية ، والتي تكّن أشد العداء له ، ولثورة الرابع عشر من تموز ، ظناً منه أن الخطر يأتيه من جانب القوى اليسارية التي وقفت إلى جانبه في أحلك الظروف وساندته ، وليس من جانب القوى الرجعية والبعثية والقومية ، ولم يدرك قاسم أن عمله هذا إنما يعني انتحاره هو ، ونحر الشعب العراقي ، ونحر الثورة كذلك .
لقد اتخذت تلك القوى من موقفه الجديد ذريعة لهم لشن حملة واسعة من الاغتيالات استمرت أكثر من ثلاث سنوات ، وذهب ضحيتها المئات الوطنيين الأبرياء ، واضطرت حوالي 30 ألف عائلة إلى الهجرة من المدينة .
وللحقيقة والتاريخ ، أقول أن الحزب الشيوعي لم يكن يستحق من قاسم هذا الجزاء رغم كل ممارساته الخاطئة ، فقد كان الحزب وفياً لقيادته ، سانده وحماة ، وحمى الثورة في أشد الأيام صعوبة وخطورة ،ولم يفكر يوماً في خيانته ،أو محاولة سلب السلطة منه آنذاك، في حين أن فرصاً كثيرة كانت لدى الحزب للسيطرة على الحكم بكل سهولة ويسر لو أراد ذلك .
لقد كانت مواقف قاسم تلك من الحزب الشيوعي تمثل أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى اغتيال الثورة ، وأغتياله هو بالذات .
لقد جرد نفسه من كل سند يحميه ، وأخذ منه الغرور مكانه ، معتقداً أن تلك القوى المعادية لمسيرة الثورة ستعود إلى رشدها ، وتغير موقفها من السلطة أو ربما فكر في خلق نوع من التوازن بين قوى اليسار والقوى الرجعية ، لكن الواقع كان يشير إلى تنامي الخطر الرجعي ، والنشاط التأمري ، على المستويين ، المحلي والدولي ، من أجل إسقاط الثورة ، وهذا ما تم فعلاً على يد تلك الزمرة الانقلابية يوم 8 شباط 1963 .

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى