|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الجمعة 13/7/ 2012                                 حامد الحمداني                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

في الذكرى الرابعة والخمسين لثورة 14 تموز المجيدة

الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي
والحزب الديمقراطي الكردستاني
وعبد الكريم قاسم
(3) الأخير

حامد الحمداني 

لقد كانت العلاقات بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم على ما يرام، فقد التفّ الحزب حول قيادته، وسانده منذُ اللحظات الأولى للثورة، ووقف ضد كل المحاولات التآمرية التي جرت ضد قيادته، وضد مسيرة الثورة، وخاصة عندما قاد عبد السلام عارف في أوائل أيام الثورة ذلك الانشقاق بين الفصائل الوطنية، محاولاً فرض الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ودعم الأحزاب القومية له في تلك المحاولات التي انتهت بالتآمر المسلح.

لقد وقف الحزب الشيوعي موقفاً حازماً من أولئك الذين حاولوا قلب السلطة  وسيّر المظاهرات المؤيدة لقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي ضمت الآلاف المؤلفة من جماهير الشعب التي كانت تهتف بالشعار الذي رفعه الحزب، والذي يدعو إلى إقامة الاتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة، ونبذ شعار أسلوب الإلحاق القسري الذي رفعته القوى القومية وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان عبد الكريم قاسم بحاجة ماسة لدعم الحزب ومساندته آنذاك في صراعه مع القوى القومية والبعثية.

ففي حين كانت الأحزاب القومية لا تنسجم مع اتجاه ومسيرة الثورة، ومحاولاتهم المتكررة لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة، وكان الحزب الشيوعي يقف جنبا إلى جنب مع السلطة الوطنية، مسخراً كل قواه من أجل دعم مسيرة الثورة، وتحقيق أهدافها.

وفي حين كانت رائحة التآمر تبدو واضحة على الثورة وقيادتها، ذاد الحزب الشيوعي عن السلطة، وحمى الجمهورية من كيد المتآمرين عليها، وقدم التضحيات الكبيرة في هذا السبيل، وعلى ذلك فقد كان من حق الحزب الشيوعي أن يعامل على قدم المساواة مع بقية الأحزاب السياسية على الأقل، وخاصة بعد أن استطاعت الثورة تثبيت كيانها، وتراجع القوى الإمبريالية عن محاولتها إجهاض الثورة عن طريق العمل العسكري.

لجأ الحزب إلى تقديم مذكرة للزعيم عبد الكريم قاسم مطالبة إياه بإشراكه في السلطة، وكان لتلك المذكرة دوي كبير، وأثارت القلق الشديد لدى الزعيم عبد الكريم قاسم، والقيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي المتمثلة بكتلة محمد حديد نائب رئيس الحزب عن نوايا الحزب الشيوعي، ولاسيما وان الحزب كان سيد الشارع العراقي دون منازع، وقد ضم تحت جناحيه المقاومة الشعبية بكل تشكيلاتها، ومنظمة الشبيبة الديمقراطية، ومنظمة أنصار السلام وسائر النقابات المهنية، والاتحاد العام العمال والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، والاتحاد العام للطلاب، مما أثار الشكوك بنوايا قيادة الحزب.

لقد كان لهذه المذكرة دوي كبير في الأوساط السياسية و للسلطة العليا على حد سواء، فالقوى القومية فسرته بأنه خطة الحزب الشيوعي في التمهيد للوثوب إلى السلطة.

أما الحزب الوطني الديمقراطي، ممثل البرجوازية الوطنية في السلطة، فقد أبدى تخوفاً من تنامي قوة الحزب الشيوعي، وتأثير ذلك على مستقبل الحكم في البلاد.

أما الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد كانت الريبة والشكوك تخالجه من تنامي قوة الحزب الشيوعي من جهة، وحبه الشديد للاستئثار بالسلطة لوحدة من جهة أخرى، ولذلك فقد تجاهل مذكرة الحزب، ولم يرد عليها، وكان على الحزب الشيوعي أن يعي ذلك منذُ ذلك الوقت!.

وجاءت مسيرة الأول من أيارـ  عيد العمال العالمي ـ في بغداد، والتي نظمها الحزب الشيوعي، طارحاً من خلالها شعار[ إشراك الحزب الشيوعي في السلطة] بيد الجماهير، وضخامة تلك المسيرة، التي ضمت أكثر من مليون من أعضاء، ومؤيدي، وجماهير الحزب، من عمال وفلاحين، ومدرسين وطلاب وأطباء ومحامين ومثقفين، كصاعقة نزلت على الرؤوس جميعاً، وأدخلت الرعب فعلاً في قلب عبد الكريم قاسم  والقيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، فقد شعروا أن الأرض قد زلزلت تحت أقدامهم وهم يسمعون هتاف الجماهير الصاخبة مطالبين إشراك الحزب الشيوعي في الحكم، وبدا أن الشعب كله يقف وراء الحزب، ونزل الجنود، والضباط المؤيدين والمناصرين للحزب إلى الميدان أيضاً، وشعر المراقبون في ذلك اليوم أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم.

وفي 13 تموز، وتحت ضغط الحزب الشيوعي، أجرى عبد الكريم قاسم تعديلاً وزارياً، أدخل بموجبه الدكتورة [نزيهة الدليمي]، عضوة اللجنة المركزية للحزب في الوزارة، وعينها وزيرة للبلديات، كما عين كل من المحامي [عوني يوسف] ـ ماركسي ـ وزيراً للأشغال والإسكان،  والدكتور [ فيصل السامر ] ـ يساري ـ وزيراً للإرشاد، والدكتور[ عبد اللطيف الشواف]، وزيراً للتجارة.

لكن إجراء  قاسم لم يكن سوى خطة تكتيكية، ولفترة محدودة من الزمن، ريثما يحين الوقت المناسب لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي. أما الإمبريالية، فقد راعها أن ترى تلك المسيرة تملأ شوارع بغداد، وسائر المدن الأخرى، تهتف للحزب الشيوعي، وتطالب بإشراكه في الحكم، و أصابها دوّار شديد، وباشرت أجهزته على الفور تحبك الدسائس، عن طريق عملائها وأزلامها، لتشويه سمعة الحزب الشيوعي، وإدخال الخوف  والرعب في نفوس قيادة الحكم، والبرجوازية الوطنية، ودفعها إلى مرحلة العداء للحزب الشيوعي، والعمل على تصفية نفوذه، تمهيداً لعزل السلطة وإضعافها، وبالتالي إسقاطها فيما بعد.

وحقيقة القول، كان للحزب الشيوعي كل الحق في الاشتراك في تسيير دفة الحكم، والمشاركة في السلطة، شأنه شأن بقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني على أقل تقدير، إن لم يكن له دور مميز في جهاز السلطة، نظراً للجهود التي بذلها الحزب من أجل حماية الثورة، والدفاع عنها، وصيانتها من كل محاولات التآمر، ووقوف الحزب إلى جانب قيادة الثورة، وزعيم البلاد عبد الكريم قاسم، مسخراً كل قواه، دون قيد أو شرط.

إذاً ليس في ذلك من حيث المبدأ خطأ في مطالبة الحزب الشيوعي إشراكه في السلطة، غير أن الأسلوب الذي تم فيه طلب إشراكه في السلطة، ونزول ذلك الطلب إلى جماهير الشعب، من أجل الضغط على عبد الكريم قاسم، أعطى نتائج عكسية لما كان يهدف إليه الحزب من تلك المسيرة.

لقد أخطأ الحزب في أسلوب معالجة مسألة إشراكه في السلطة، ثم عاد وأخطأ مرة أخرى عندما تراجع، واستمر في تراجعه أمام ضغط عبد الكريم قاسم، وضرباته المتلاحقة، مستغلاً أحداث الموصل وكركوك، وكان بإمكانه وهو في أوج قوته أن لا يسمح لقاسم أن يوغل في مواقفه العدائية تجاه الحزب.

أن لجوء قاسم إلى سياسة العداء للحزب الشيوعي لم يكن هناك ما يبررها إطلاقاً، فلم يكن في سياسة الحزب وتفكيره إطلاقاً الوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك لكان من السهل جداً له استلام السلطة عام 1959، عند ما كان الحزب في أوج قوته، سواء بين صفوف جماهير الشعب أو في صفوف القوات المسلحة، لكن الحزب لم يقرر هذا الاتجاه مطلقاً بل كان جُلّ همه حماية مسيرة الثورة ودفعها إلى الأمام، من أجل تحقيق المزيد من الإنجازات والمكاسب للشعب، وكان وفياً لعبد الكريم قاسم، وهو الذي منحه صفة [الزعيم الأوحد]، ووقف إلى جانبه حتى النهاية.

وفي المقابل وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما سلك سبيل العداء للحزب الشيوعي، وعمل على استمالة القوى القومية، محاولاً إرضائها دون جدوى، فقد كانت تلك القوى قد حزمت أمرها على تصفية الثورة، وتصفيته هو بالذات.

لقد استفادت تلك القوى فائدة كبرى من مواقف قاسم العدائية تجاه الحزب الشيوعي، التي أدت إلى انعزاله عن الشعب، وعن القوى التي وقفت بكل أمانة، وإخلاص إلى جانبه، وكانت محاولة عبد السلام عارف الانقلابية، ومؤامرة رشيد عالي الكيلاني، ومحاولة حزب البعث اغتيال قاسم نفسه، في رأس القرية، ومحاولة العقيد الشواف الانقلابية الفاشلة، أكبر برهان على صواب مواقف الحزب الشيوعي من تلك العناصر التي سلكت طريق التآمر منذُ الأيام الأولى للثورة.

وفي الوقت نفسه أثبتت تلك الوقائع خطأ الطريق الذي سلكه عبد الكريم قاسم، وإجراءاته المعادية للحزب الشيوعي، والتي مهدت السبيل لانقلابيي 8 شباط 1963، لاغتيال الثورة، واغتياله، وإلحاق أفدح الأضرار بالشعب العراقي التي استمرت إلى يومنا هذا.

انشقاق الحزب الوطني الديمقراطي ودور الحزب الشيوعي

تفاقمت الخلافات بين أقطاب الجناحين، اليميني واليساري داخل الحزب الوطني الديمقراطي بسبب المواقف التي وقفها جناح محمد حديد من مسألة تجميد نشاط الحزب بناء على طلب عبد الكريم قاسم، أثناء غياب رئيس الحزب الأستاذ كامل الجادرجي عن العراق، مما دفع الجناح اليساري في الحزب إلى إعلان عدم اعترافه بقرار التجميد، معلناً عزمه على مواصلة نشاط الحزب، وتحدي قرار القيادة اليمينية للحزب، وكان على رأس هذا الجناح كل من السادة: عبد الله البستاني، وعبد المجيد الونداوي، و علي عبد القادر نايف الحسن، وحسان عبد الله مظفر، وناجي يوسف، وعلي جليل الوردي، وحسين أحمد العاملي، وسليم حسني، وعادل الياسري، وهم جميعاً عناصر قريبة من الحزب الشيوعي. 

تصاعدت الأزمة بين الجناحين عندما عاد الجادرجي إلى بغداد، ووجه انتقاداً شديداً لقرار التجميد، ولمحمد حديد، نائب رئيس الحزب، طالباً منه ومن زميله هديب الحاج حمود الاستقالة من الوزارة بعد إقدام عبد الكريم قاسم على تنفيذ حكم الإعدام بالضباط المشاركين في محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل، ولعدم امتثال الوزيرين  لطلبه، سارع الجادرجي  إلى تقديم استقالته من رئاسة الحزب، ومن عضويته كذلك.

كان لقرار الجادرجي بالاستقالة أثره الكبير على تفاقم الأزمة بين الجناحين داخل الحزب، وخصوصا بعد فشل المساعي التي بذلها الجناح اليساري لعودة الجادرجي لقيادة الحزب، وتباعدت مواقف الجناحين عن بعضهما، نظراً لما يكنه قادة الجناح اليساري للحزب من احترام وتقدير لشخص الجادرجي، واعتزازاً بقيادته التاريخية للحزب.

وبسبب تفاقم الأزمة داخل الحزب، أقدم جناح محمد حديد على تأسيس حزب جديد باسم [الحزب الوطني التقدمي]، وتقدم بطلب إجازة الحزب في 29 حزيران 1960، وضمت هيئته المؤسسة كل من السادة  محمد حديد، وخدوري خدوري، محمد السعدون، و نائل سمحيري، وعراك الزكم، وسلمان العزاوي، وعباس حسن جمعة، ورجب الصفار، جعفر الحسني، ورضا حلاوي، وعبد الأمير الدروي، وعباس جودي، وحميد كاظم الياسري، وعبد الرزاق محمد. 

وقد تمت إجازة الحزب دون أي تأخير، واستمرت قيادة الحزب في دعم سياسة عبد الكريم قاسم، وخاصة فيما يتعلق بمواقفه من الحزب الشيوعي.

ومن الملاحظ أن أغلبية قيادة الحزب جاءت من بين العناصر البرجوازية، ومن الملاكين، ورجال الصناعة، الذين كانوا يشعرون بالقلق الشديد من تنامي قوة الحزب الشيوعي.

ونتيجة للشرخ الكبير، الذي حدث في صفوف جبهة الاتحاد الوطني، خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة، وانسحاب الأحزاب القومية منها ومن الحكومة، لم يبقَ في الجبهة سوى الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي، وحتى العلاقة بين هذين الحزبين أخذت بالتردي يوماً بعد يوم بعد اتساع المد الشيوعي وسيطرته على الشارع العراقي، وهيمنة الحزب الشيوعي على كافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والعمالية، واتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة، وتلك كانت أحد الأخطاء الكبرى التي وقع فيها الحزب الشيوعي،  والتي سببت ابتعاد الحزب الوطني الديمقراطي، وبشكل خاص جناحه اليميني عنه، وسعيه الحثيث لكبح جماح الشيوعية، وتحريض عبد الكريم قاسم على الوقوف بوجه الحركة الشيوعية حرصاً على مصالحه الطبقية.

كان على الحزب الشيوعي، الذي حرصت قيادته على اعتبار تلك المرحلة هي مرحلة الوطنية الديمقراطية، عدم استفزاز البرجوازية الوطنية، واستبعادها عن النشاطات الديمقراطية، والاستئثار بكافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والاتحادات العمالية، والفلاحية.

أخذت العلاقات بين الحزبين بالتردي، كما أسلفنا يوماً بعد يوم حتى وصلت إلى طريق اللا عودة، عندما حدث الانشقاق في صفوف الحزب الوطني الديمقراطي، ومن ثم استقالة رئيسه الأستاذ كامل الجادرجي، ومن ثم استقالة الجناح اليميني بزعامة محمد حديد من الحزب، وتأليفهم [الحزب الوطني التقدمي].

لقد لعب الحزب الشيوعي دوراً في ذلك الانشقاق عندما دفع، وشجع العناصر اليسارية في الحزب الوطني الديمقراطي، إثر قرار الجناح اليميني تجميد نشاط الحزب، إلى تشكيل قيادة جديدة للحزب،  ومواصلة النشاط السياسي.

لقد كانت تلك الخطوة من جانب الحزب الشيوعي، والجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي خطوة انفعالية بلا شك عمقت من الشرخ بين الحزبين من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم من جهة أخرى، فقد كان واضحا أن قاسم قد قرر أن يقف بوجه الحزب الشيوعي مهما فعل، أضافه إلى دفع العلاقة بين الحزبين إلى مرحلة اللا عودة.

لكن الحزب الشيوعي ذهب إلى أبعد من ذلك عندما دعا الجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي، والجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى إقامة [ جبهة وطنية ديمقراطية جديدة ]، وسارع الموقعون على ميثاق الجبهة الجديدة إلى إرسال مذكرة إلى عبد الكريم قاسم تشرح فيها الأوضاع السائدة في البلاد، والمخاطر التي تجابه الثورة ومكاسبها، وأهمية الوحدة الوطنية في الكفاح ضد الاستعمار والرجعية، وتعلن فيها عن إقامة الجبهة، وأهدافها.

لكن عبد الكريم قاسم، الذي كان قد عقد العزم على ضرب الحزب الشيوعي  والحد من نشاطه، والسير في طريق الحكم الفردي، والاستئثار بالسلطة، تجاهل تلك المذكرة، وتجاهل الجبهة، بل وأوغل أكثر فأكثر في سياسته الهادفة إلى تجريد الحزب الشيوعي من كل أسباب قوته، وجماهيريته، وتوجيه الضربات المتلاحقة له، ولم تفد الحزب تلك العبارات التي أطرى بها على قاسم، وسياسته الحكيمة!! في زحزحته عن مواقفه تجاه الحزب  بل جعلته يندفع أكثر فأكثر في هذا السبيل، مصمماً على حرمان الحزب من ممارسة نشاطه السياسي، استناداً لقانون الأحزاب والجمعيات الذي أصدره في 1 كانون الثاني 1960.

أما محمد حديد ورفاقه في الحزب الوطني التقدمي فقد رفضوا الانضواء تحت راية تلك الجبهة، معللين ذلك بأن الحزب الشيوعي قد عمل من وراء ظهر الأحزاب، وأن تلك الجبهة هي من صنع الشيوعيين، ورفضوا أي نوع من التعاون مع الحزب الشيوعي، ومع الجبهة المعلنة.

وهكذا فإن هذه الجبهة لم تستطع أن تؤدي مهامها، وتحقق أهدافها، نظراً لتعقد الظروف السياسية، وتدهور العلاقات بين أطراف القوى الوطنية من جهة، ومواقف عبد الكريم قاسم من جهة أخرى، إضافة للشرخ الذي أصاب الحزب الوطني الديمقراطي، وانعزال القوى القومية، وتنكبها لمسيرة الثورة، ولجوئها إلى التآمر المسلح والمكشوف لإسقاطها، والإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم.

وبعد كل الإجراءات التي أقدم عليها عبد الكريم قاسم بضرب الحزب الشيوعي، وانتزاع كافة المنظمات والاتحادات النقابية والطلابية، وتسليمها للقوى الرجعية، وبعد أن أزاح كل القيادة العسكرية والأمنية التي كان يشك بعلاقتها بالحزب، وبعد أن ازاح كل رؤوساء الدوائر ذوي الفكر التقدمي، وأعاد تلك العناصر المعادية التي كانت في مراكزها قبل الثورة، وبعد أن امتلأت السجون بالمناضلين الذين ذادوا عن الثورة وحموها من كيد أعدائها، بات نظام عبد الكريم قاسم معزولاً عن الجماهير، وبات استمرر بقائه في الحكم في مهب الريح الصفراء التي أخذت تقترب شيئاً فشيئا بعد أن هيأ لها قاسم الظروف المواتية للانقضاض على الثورة واغتيالها في انقلاب عسكري دموي خططت له الدوائر الإمبريالية، ونفذته العناصر الموتورة من البعثيين والقوميين والقوى الرجعية الأخرى.

تدهور العلاقة بين القيادة الكردية وعبد الكريم قاسم

كان لتسارع الأحداث التي أدت إلى تدهور الأوضاع السياسية في البلاد، وانقسام القوى الوطنية، حدوث الخلافات العميقة بين السلطة وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولجوء الطرفين إلى الصراع المسلح، واستخدام السلطة للجيش في ذلك الصراع، ولم تجد نفعاً كل النداءان التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال، واللجوء إلى الحوار، لحل القضية الكردية حلاً عادلاً، إلا أن جهوده باءت بالفشل، واستمرت الحرب بين الطرفين حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963.

فقد بدأت العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والسلطة بالتدهور عام 1961 عندما هاجمت صحيفة الحزب [خه بات] أسلوب السلطة في إدارة شؤون البلاد، وطالبت بإلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة حرة، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد، واحترام الحياة الحزبية، وحرية الصحافة.

كان رد عبد الكريم قاسم أن أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق صحيفة الحزب،  ومطاردة قادته، واعتقال البعض منهم في آذار 1961، واستمرت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام.

وفي 20 تموز 1961، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى عبد الكريم قاسم  طالبه فيها بتطبيق المادة الثالثة من الدستور المؤقت، والتي نصت على حقوق الشعب الكردي، كما طالبت بسحب القوات العسكرية المرسلة إلى كردستان، وسحب المسؤولين عن شؤون الأمن والشرطة والإدارة الذين كان لهم دور في الحوادث التي وقعت في كردستان، وإعادة الموظفين الأكراد المبعدين إلى كردستان، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وإنهاء فترة الانتقال، وانتخاب مجلس تأسيسي، وسن دستور دائم للبلاد، وإلغاء الأحكام العرفية، وتطهير جهاز الدولة من العناصر المعادية لثورة 14 تموز.

لكن عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة، واستمر في حشد قواته العسكرية في المناطق المحاذية لإيران في بادئ الأمر، حيث كانت قد اندلعت حركة تمرد قام بها عناصر من كبار الإقطاعيين بقيادة [رشيد لولان] و[عباس مامند] بدعم وإسناد من النظام الإيراني، والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف رشيد لولان، وعباس مامند، إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية، وعميلها [شاه إيران] زعزعة النظام الجديد في العراق، وإسقاطه.

لكن من المؤسف أن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني لم تقدر دوافع تلك الحركة والقائمين بها، والمحرضين عليها، ومموليها، مغلّبين التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية، ولجأت هي الأخرى إلى حمل السلاح.

كما أن عبد الكريم قاسم، الذي تملكه الغضب، رفض اللجوء إلى الحوار، وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول للأزمة السياسية التي كانت تعصف بالبلاد، وظن أن اللجوء إلى السلاح سينهي الحركة الكردية خلال أيام، ويصفي كل معارضة لسياسته في البلاد، لكن حساباته كانت خاطئة، وبعيدة جداً عن واقع الحال، وكانت تلك الحرب في كردستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اغتيال ثورة 14 تموز يوم الثامن من شباط 1963.

أستهل الحزب الديمقراطي الكردستاني صراعه مع السلطة بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان  في 6 أيلول 1961، حيث توقفت كافة الأعمال، و أصاب المنطقة شلل تام، وقام المسلحون الأكراد باحتلال مناطق واسعة من كردستان، فكان رد السلطة دفع قطعات الجيش في 9 أيلول، لضرب التجمعات الكردية مستخدمة كافة الأسلحة والطائرات، وهكذا امتدت المعارك وتوسعت لتشمل كافة أرجاء كردستان، واستمرت المعارك حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963.

لكن الحزب الديمقراطي الكردستاني ارتكب خطأ أفضع بتعاونه مع انقلابيي 8 شباط، حيث جرت الاتصالات قبل الانقلاب بين سكرتير الحزب إبراهيم احمد، وطاهر يحيى ، ممثل الانقلابيين، كما شارك الطلبة الأكراد في الإضراب الذي أعلنه البعثيون قُبيل وقوع الانقلاب.

لقد وضع قادة الحركة الكردية  أيديهم بأيدي أولئك الانقلابيين الفاشيين ضد السلطة الوطنية بقيادة عبد الكريم قاسم، ظنناً منهم أن بالإمكان حصول الشعب الكردي على حقوقه القومية على أيدي أولئك الشوفينيين المتعصبين الذين كانوا يضمرون للشعب الكردي كل الحقد.

لقد كان موقفهم هذا يعبر بحق  عن جهل فادح بطبيعة حزب البعث، والقوى القومية الشوفينية، الذين لم يكّنوا يوماً المحبة للشعب الكردي، ورفضوا حتى إشراك الحزب الديمقراطي في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957.

وهكذا فلم تمض ِسوى أربعة أشهر على انقلاب 8 شباط، حتى بادر الانقلابيون في 1 حزيران 1963 إلى شن حملة شعواء على الشعب الكردي لم يشهد لها مثيلاً من قبل، منزلين فيه الويلات والمآسي، و ألوف القتلى، وتهديم القرى، وتهجير الشعب الكردي.

لقد تمزقت الوحدة الوطنية، وتحولت الجبهة الوطنية إلى الصراع المرير بين أطرافها من جهة، ومع السلطة من جهة أخرى، جراء الأخطاء القاتلة لكافة الأحزاب السياسية والسلطة على حد سواء، فقد كان لكل طرف حصة ونصيب في تلك الأخطاء التي أدت إلى التمزق  والصراع، وضياع الثورة، وتصفية كل مكاسب الشعب، وإغراق البلاد بالدماء.

  

8/7/2012                                              
 

مسؤولية انتكاسة الثور واغتيالها في انقلاب 8 شباط المشؤوم عام 1963 (2)
هذه عوامل انبثاق ثورة 14 تموز التي قادها الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم والإنجازات التي حققتها (1)

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter