| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

هاتف بشبوش

 

 

 

                                                                                     الأحد 26/6/ 2011



عليـــــــــــــاء..

هاتف بشبوش

علياء , فتاة ُّ حسناء , فرّاشة ُّمن جنوب العراق ,حلّت في الدنمارك قبل أعوام , كانت تتمتع برقة المشاعر وأبهة المنظر, وكل التفاصيل الخرافية التي تتناهى الى الفتيان, عاشت برفق ولين وإسترخاء, ولا تجهد رأسها في أصول الدين والتقاليد , التي كانت في نظرها مندثرة لا محال, ولم تكن تنصت الى المراثي والطقوس الصلواتية المفعمة بالكآبة والحزن والخوف والرعب من العالم الاخر , وهي الخرافات التي تدّعي بأن الانسان سيعذب مليارات السنين حيث يُصلى فوق السنة اللهب جزاءا على ما اقترفه من سيئات في طيلة حياته التي لا تتجاوز ربما الستين او اكثر بقليل او اقل, فكل هذه الترهات كانت أصداءها تتردد بين السرمدية والسماء حتى تدخل في أذنيها لتخرج من الاخرى, ولذلك كانت تبحث دائما عن العاطفة الحسية لانها أساس الوجود, أنها الملاك بأجنحته الذهبية, بلا حزن في الفؤاد, بلا سأم في الحياة.

علياء إبتعدتْ عن تلقين أبواها اليها من أزجاء النصائح والتبجيل والتعظيم الى اللاهوت والرموز المقدسة , فكانت تحرص كل الحرص أن لا تستذكر مفاهيم الدين والطائفة , وعن كل شئ يؤدي الى سجن الجسد, أو التحكم به وإخضاعه للعنان, لكنها سرعان ما تحررت من هذا العنان, الذي أراد بها أن تكون في معمعة النشاط الديني, لكنها ركلته بدماغها وما عادت تكن الاحترام لتلك الطقوس الظلامية البائسة. إلا أنّ البؤس والشقاء والاضطهاد الاجتماعي والنفسي خلف وراءه إغتراب داخلي كرسه الجهل وتعاليم الدين الزائفة في أعماقها والتي جعلتها تستسلم لطغيان التقاليد فترة من الزمن وانصاعت لما يتردد في مسمعها من الامر الالهي الذي ينهاها عن المنكر وإطاعة ممثلي الله على الارض, وعند وصولها الدنمارك ارض الحرية واحترام الذات البشرية مما جعل منها فتاة مرتبكة في البداية غير مصدقة انها في غاية من الكرامة تجعلها ان تكون في دوامة من الذهول والانبهار واللذين تحولا بشكل سريع الى ادراك وفهم عاليين لمعنى الحياة وكيفية استغلالها قبل فوات الاوان.

علياء تجولت كثيرا على اقدامها, , بزيها الذي يعطي إنطباعا سكسيا , خصوصا في هز المؤخرة, تغيّر من وجودها في أغلب الاحيان , شعرها محررا ً بدلال على كتفيها الا قليلاً منه يسقط على جبهتها مع لمعة مساحيق ٍ برّاقة تعطيه الرونق المتميز, علياء كانت دائما تبحث عن العاطفة , وألفت نفسها منزلقة الى عالم التأمل والى صوت الحرية الذي يتردد في سماء المدن الدنماركية, دائما تتقافز نبضات قلبها على همسات الامل والتمني, تتيح لمشاعرها فرصة الانطلاق لتبدع , لترى , لتتجاسر, رقصت مع الكثيرين, سافرت وارتحلت كثيرا , ذهبت للبارات كي تشرب السيمينوف, الكحول الروسي النسائي المطعم بالليمون, او التفاح. مارست الحب مع بيتر ولارسن وغيرهم . مارسته في المراقص, والفنادق, والبواخر , والحدائق, مارسته في اماكن طالما هناك رغبة وحرية تحيطان بالسماء والمحيطات.

علياء, حسناء , تنظر الى البعيد بحلم بسيط , صورة الحرية لا تزال تتوهج في عينيها, صلبة كالتماثيل, وتثير اعجاب الرجال , وكل حركة فيها تثير البهجة في نفوس الاخرين , وكأن لها نشيد اممي رائع بلحن لم يدخل عالم الموسيقى بعد . كانت تغدو وتروح في الـــ walking street (شارع المشاة) بجلال مهيب وتألق غير مألوف, فتاة يجري في عروقها دم الحب والحرية , مرحة , عذبة , عروسة اسكندافية , وفي الصيف الدنماركي البخيل في حرارته ,غالبا ما كانت ترتدي فستانا قصيرا بحمالة سباغيتي رفيعة , لكنها كالثمار الناضجة , التي توجد في أعالي الشجر.

أنها دائما توجز حياتها في ذلك اليوم الذي وصلت به الى الدنمارك وتتخذه يوم ميلادها الجديد , ذلك اليوم الذي ودعت به زقاقها الجنوبي بسبعة أحجار. ومن ثم شقت طريقها , بين الجموع الغفيرة , ووجدت حبها الاوحد في ذلك الوسيم الدنماركي الذي منحها طفلين, كنهرين عظيمين في حياتها , وأحست بصدى هديرها يترامى فوق الشوارع, والازقة والاسفلت , وينتشر مثل البخار نحو السماء, بل يغطي الكواكب والليل الداجي المداري سعادتها.
علياء أصيبت بمرض عضال , فعرفت اليوم والساعة التي سوف يتوقف فيهما نبضها الدافق, علياء أوصت وصيتها الغريبة والتي اصبحت مثارا للجدل بين الاخرين, فراح فلان ينعتها بالنعوت التي تقلل من شرف البنت في أوساطنا, وراح الاخرون ينعتوها بالمرتدة والزنديقة ولذلك قالوا عنها بأنها تستحق هذا المرض العضال جزاء أفعالها, وراح البعض يصفها بأنها الملاك الطائر الذي أنشد الحرية, فحصل عليها بمطلقها.

علياء أوصت أن لا تقرأ الفاتحة على روحها ولا تقام عليها مراسيم العائلة التقليدية الجنوبية, ولا تذرف عليها الدموع, ولا تريد لطما على الصدور من قبل النساء, وكما أنها أوصت أن تدفن بطريقة أخرى, ولا يحق لعائلتها الحضور في مدفنها, أنها أرادت بوصيتها هذه أن تبعد شبح تقاليد العائلة والمجتمع المخيف عنها حتى في مماتها , إنها كرهت أن تموت على تلك التقاليد التي تركت في قلبها ندوبا عميقة من الالم . أنها أحتقرت كل شئ له صلة بالنظام الاصولي الراديكالي, والقيم والمفاهيم التي نخرت ولا تزال تنخر في الجسد العراقي , إنها رفعت صرختها عالية بلا خوف في حياتها ومماتها , أنها بصقت بصقتها الاخيرة على كل التفاهات وكل الرؤوس التي تتخذ أفواهها دكاكينا لبيع الكذب والنفاق والدجل.

لقد كانت تتوق الى أحلامها ولا تريد ان تشعر بالخواء , تريد أن تجعل من قلبها متورما دوما بالحب ومتحررا ً كي يمنحها احساسا بالامان. في أيامها الاخيرة بدا عليها الوهن الذي أراد بها الانتقال الى العالم الاخر , لكنها كانت تطلق لعينيها اتساع الرؤيا في كل مكان.

لقد أوصت أنْ لا تدفنوني في أرض موحشة كارض بلادي , أو أرض يتصارع فيها الانسان على لقمة عيشه,او اختلاف في الدين , أو أرض يقطنها إله الحرب والنفاق والرذيلة والجوع, إدفنوني بين الازاهير الملونة ,القريبة من صراخ الموسيقيين كي أغني أغنيتي الاخيرة الابدية معهم.

لقد تمرّدت علياء على محتوى الايمان والرهبنة وعلى النظام الشمولي , كانت دائما تزداد رخاءا وهناءة, حتى قبل مماتها بيومين كانت في مسبح المدينة بكامل أناقتها وحيويتها , وحينما نقلوها الى المشفى كانت مفعمة بالحيوية والامل , بالرغم من أنّ المداد الخبيث قد دب في جسدها ولا غبار أنه سيقضي عليها , وفي ساعات الليل المتأخرة بدأ النبض يخفت بشكل محسوس وعيناها تغوران, ولم تفارقها البسمة المعتادة الا القليل, حيث كانت تتهدج وتختلج بأنفاسها, حتى مضت مع الرحيل التراجيدي الحقيقي, مستلقية على ظهرها , مستخفة ً بالموت مع ابتسامتها الاخيرة.

علياء أصرّت ان لا تأخذ الموروث السماوي والوضعي المتخلّف معها الى الموت , لقد كرهته واحتقرته في حياتها فأرادت في وصيتها هذه أن تبعده عنها حتى في مماتها , الموروث الذي أثقل عليها حياتها ,هكذا كانت تفكر, حيث انها تركت نوعا من الذهول بهذا الاصرار والتحدي لجميع القيم والعـُقــَد اللاهوتية, والبكائيات واللطميات التي كانت تتصف بها طائفتها ,والتي طالما وقفت في طريق سعادتها , ولقد نفذت الجهات الدنماركية المختصة وصيتها هذه بحذافيرها ومثلما أرادت , بلا زيادة ولا نقصان.

في العاشرة من مساء الرحيل الابدي طارت علياء بأجنحتها الملائكية كي تعانق الحرية, لقد كان مساءُّ هادئاً ، بلا ضجيج, مساءُّ ترفُّ ، وأترف من مناديل مهر عرسها.

علياء ماتت ورحلت الى العميق , بعيدة عن كل العيون, لكن بقي وجهها المضئ وعيناها الجوّالتان, اللتان تسبحان في أروقة مدينة أودنســـا ( Odense )


 

free web counter