| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

 

الأثنين 9 /4/ 2006

 

 

بائع الفواكه


 حمودي عبد محسن

شعر بالضجر ، وعبس كبائع فواكه في دكانه الصغير في سوق البياع ببغداد ، فقد حدث له صباح هذا اليوم شئ غير اعتيادي ، إذ كان يراقب السيارات المارة في الشارع خاشيا أن تتفجر واحدة منها ، وتقتل الأبرياء ، وتدمر السوق ، فهز رأسه كعجوز يعرف أهل السوق ، ويعرفونه جيدا ، ويحظى باحترامهم ، عجوز أشيب الشعر ، بلحية بيضاء ، شاحب الوجه ، عيناه دامعتان ، فثمة ثروة هائلة تدور بذهنه تجعله صامتا ، لأن لديه الكثير من الكلام ، وهو يبحث عن شخص ليبوح له بالكلام ، ولأن موضوعه مبجل ، مع ذلك لفت انتباه أهل السوق ، أن الصمت ران عليه ، صمت على كلمات مضبوطة ، ضاغطة في أعماقه ، قد لا يريد أن يكرر كلمات مطروقة ، ليس هناك شئ غير لائق فيه ، فالفأر ، والعثة ، والذباب ، كلها موجودة في دكانه .هذا وقد عبرت ذهنه ومضة ، تحولت إلى منعطف خطير في حياته ، فاجأه هذا ، إذ لم يكن لديه قط شئ كهذا سابقا ، فقد بدأت تتبلور تصورات خيالية عنده ، لم يسبق أن حدثت له ، فكانت رائحة الموت قد ظهرت أمامه .مسك تفاحة خضراء ، وأعادها إلى مكانها كما لو يعيد تشكيل وتجسيد الفواكه بالخيال ، بتراث الألم الذي ابتدأه ، فلو نهض ، ماذا يرى ؟! فقد تكورت عنده تساؤلات قديمة خطرة شديدة الانهيار ، قد تكورت بصمت في دكانه ، كيف ظهرت هذه الفجائية التي لم تكن على باله ، وكيف فتح له باب التاريخ أن تنتهي بغداد بهذا الحال ؟! ما زال ذهنه عاجزا عن حل لغز التاريخ ، كان العالم يأخذ أمام عينيه إيقاع العنف ، والقتل ، والدمار ، وهو يسأل نفسه من أكون ؟! على الرغم من أن هذا العالم زائل ، وبما إنه زائل ، فأخذته لحظات اللغز بالنسبة له تسحق كل شئ قديم كما سحق هولاكو بغداد ، لابد أن يتحرر عالم بغداد ، كيف ؟! امتلأت عيناه بالدموع وهو ينظر بقلق وحزن إلى التين الأسود والأخضر ، وعناقيد العنب ، ثم دار ذهنه على رمانة مغرية ، وليمونة ذات طعم حامض مر ، الفاكهة مرتبة بطريقة جذابة ، بوحدة ألوانها في الصناديق كأنه ضحية مفضلة لأجل تأمل الفواكه شكلا ولونا دون أن تبدو إشارة منه توحي أنه قد حدث تغير في ذاكرته أو سكون الفواكه في داخل فراغ محاط بالتعاسة ، والتعسف ، وتحولات خطيرة جوفاء ، فالمحتل ، والإرهابي ، ينصهران في وحدة واحدة من خلال القتل المنظم . هكذا كان يكتشف أشياء غير مرئية ، ولا متخيلة من قبل ، فذاكرته شديدة الصلابة ، متألقة بأن وجوده ذا قيمة ، لم يبق عنده إلا محاكاة مخيلته بصدمة مباشرة ، بانبثاق متزامن مع الواقع بكونه عليم بشؤون بغداد ، فكان يلاحظ أحداثا وظواهرا مختفية عن الأنظار في سياق الإدراك ، فيها الرفض ، الإبهام ، الإيهام ، فأراد أن يحقق ذاته سواء بتلعثم أو تمتمة ، فالقصص مألوفة له من خلال الأحداث الماثلة أمامه ، فلم يستطع أن يجرد بغداد من ثعابين ، وعقارب ، زهور ، وطيور ، ونخيل ، وكذلك من علامات متشابهة مستحوذة على مخيلته ، وهو يقرأ صناديق الفواكه من أعلى إلى أسفل أو في شكل آخر من أسفل إلى أعلى ، يفضي بمخيلته تشويه نموذج ترتيب الفواكه ، كصورة أمامه بل نسخا من شئ متخيل ، فالمشاهد الموحدة كل يوم في بغداد ذات تشويه ، تسجل ، وتشكل مشتتة ، وهو يسترجع التاريخ قبل الاحتلال ، فتتكامل السلسلة أمامه حيث التعساء من الناس زينت حياتهم بالقتل ، هذا يشغل ذهنه ، شخوص، ووجوه بشرية متحررة من الزمان تتطهر بالحزن ، مواكب دينية تحمل لافتات خضراء ، سوداء ، حمراء ، كان ذلك عمق ألفته بدكانه ، والسوق ، وبغداد من خلال القصص المروعة التي تغوص في الغموض ، إنه جهد عقلي لضجيج السيارات ، سكون الفواكه ، والوجود بحد ذاته في تقصي الطقوس ، والعبادة ، فلم يبق عنده إلا محاكاة مخيلته : مراكب تبحر معا ذات أشرعة خضراء ، سوداء ، حمراء ، هاربة نحو المجهول ، هاربة ، تاركة بغداد ، ليست رحلة بحرية إلى ميناء آمن ، بل هناك عواصف بحرية ، مستمرة ، فزعة ، أخطار بحرية معادية ، تلك جنية البحر الساحرة ، وقدرتها على التدمير ، خيبة أمل ، التحدي الملغز في الاقتراب والتراجع ، جنية البحر تظهر الرعب ، وتكشف جانبها المفزع ، ما هي بغداد ؟! خداع القدر ، مصير مروع ، تركها أهلها ، بلا بحر ، بلا ميناء ، ثعابين ، عقارب ، زهور ، وفراشات ، كل هذه الأشياء موجودة في بغداد ، سطح ، ولون ، حبيسة في خرائب متهالكة حتى الموت ببطء أو بسرعة ، اختيار للموت ، ولا شئ آخر ، أجل ، حومة كاملة ، جياد بيضاء ، سوداء ، تصهر الإنسان ، يصاب الفارس سهما ، فيسقط من ظهر حصانه ، ويظل حصانه يصهل ، المذبح : رأس منحني للمقصلة ، قربان إلهي للضربة القوية ، أفق أزرق محملقة العيون اتجاهه ، كثرة هائلة من ألوان العالم ، تشيح بغداد عن كون بوصفه روح زائلة ، صور ملامح بشرية ، بل تخطيط لنظرة طفلة بريئة ، ساهية متطلعة نحو العالم السفلي ، ذاهلة ، مستغرقة في لغز وجودها ، قناع لا يخفي شيئا ، كلها متخيلة ، يراها بائع الفواكه بعينيه ، لأن لديه خبرة في التاريخ الحديث ، فهذا الضبط يتيح له أن يتخيل الإنسان العراقي ، إنها قصة أسطورية تفرض من الغرباء ، لتكون مكتوبة بعلامات تفصل بين الحياة والمجال الغيبي شفرات لا تقبل حل ، إن اللوحة في ذهن العجوز تروي ألف قصة ، لها نقوش ، ورموز ، تحل شفرتها بضوء منعكس ، لا يوجد شئ يقيها من المقصلة ، ولا يوجد شئ يمنع أن تراه كل الوجوه أو تقول عنها الشيء الكثير .

أخذه الذهول ، وهو يحملق في الفواكه بتركيز شديد ، وطفرت الدموع من عينيه ، دموع قليلة هادئة ، وهو يلقي نظرة على المارة في الشارع ، لقد بدا الناس يقيدوه بالحياة ، فراح يتفرس بهم ، فكان هذا صدامه النهائي ، وأصبحت حينئذ نظرته مستمرة ، فزعة ، قريبة ، كاملة ، وانتابه قلق أن تنفجر سيارة ، رغم أنه شديد المراس إلا أن فقدان الحياة بهذه الطريقة يؤلمه ، فأصبح صموت منسحب إلى نفسه ، وكل الأمور أخذت تتشكل على هيئة سوداء في مخيلته في جو الفوضى ، كانت القطة تموء في الدكان ، التفت إليها ، فوجئ بها تمسك بين أسنانه فأر ، لم يحررها من بين أسنانه ، وبقي حائرا ، أين يتجه بها ؟! فصرخ العجوز به الخروج من الدكان ، فخرج القط مسرعا والفأر بين أسنانه ، وهو على قيد الحياة ، فتمتم العجوز : - لا أقدر أتخلص من الفئران داخل دكاني .
كان العجوز تتأرجح روحه بين التدفق والانطواء ، بين الحدث والصمت ، فنهض من الكرسي ، فتسمرتا رجليه بالأرض ، وبذل جهدا أن يحركهما ، اتكأ على عكازه خجلا من نفسه ، كان عاجزا للحظة وأخرى ، كما لو شلت رجلاه ، بذل جهدا أكبر في غضون لحظات فتدفقت القوة من جديد ، وجلس على الكرسي المتهرئ القديم ، فأدرك أن رجليه قد ماتتا للحظات ، فسأل نفسه متلعثما : - ماذا جرى لي .تجاوز العجز عن الكلام المحبط ، وأنه لم يستطع الكلام بوضوح ، استدار إلى مشتري ، وخفض عينيه إلى الأرض ، لم يتحرك كامل جسده ، بل كانت ذراعه ، تمتد ، ويده توزن التين الأسود في الميزان ، وتستلم النقود ، وبدا له أن إيقاع التعاقب سواء في الضوضاء والجلبة أو السكون ، ينبغي أن يتملك الجسارة ، إلا أنه أغمض عينيه ، وراح يردد أشعارا خالدة تلك المنبثقة من نواح ، وندب على الأموات والوطن ، واصل الكلام مع نفسه ، كان يتراءى له أن المارة يحملقون في وجهه ، ويكشفون باعترافهم أن وجهه وجه ميت ، ولم يعد المسيطر ، والموجه في هذا الدكان ، وفقد روح التملك للفواكه ، ولم يعد رب أسرة كبيرة ، وانتهت ثمرة حياته العائلية ، ولم يرغب أن يصدق أنه وقع تحت تأثير وهم أو هلوسة ، فدخل دخول مفاجئ إلى الموت ، فانهار على الأرض ، وفتح فمه كما لو يريد أن يخرج كلاما من أعماقه ، حاول تحريك رجليه دون جدوى ، هذه اللحظة أوصلته إلى نهاية الحياة ، لم ينتظر هكذا لحظة حتمية أخيرة ، اعتبر وجوده جزء من آلام مليئة بالقهر للشارع المغبر ، والدكاكين المهجورة في السوق ، فلم تتح له الفرصة أن يبوح بالكلام الذي يعرفه بل أخذ ينتابه شرود إلى لوحة الفواكه ، حاول يقاوم ، ويتذكر ، الأزمنة القديمة ، أزمنة بغداد بلا خراب ، بغداد تمر بكارثة رهيبة ! تضاد ، تنافر ، صراع ! هذا هو الرعب المشؤوم ، أنه ميت لا محال ! لا شئ تغير في دكانه ، انقضت دقائق عليه ، وهو يذهب بذهنه بعيدا هادئا حزينا ، ومرت في رأسه أفكار مشوشة . كان القط الأبيض قد عاد ، وجلس قرب رأسه ، وهو يموء ، وعيناه لا تملا النظر إلى القط ، حيث تراءى له أن عينيه كبيرتين واسعتين ، أغمض عينيه ، لم يكن بكامل وعيه ، كان صوته يرتعش واطئ متلعثم ، وبالكاد فتح عينيه ، وقد توقف عن الكلام ، إذ لم يقدر على تحريك لسانه ، إلا أنه لم يرفع نظره عن عيني القط اللتين تنظران إليه ، وتشيران أنه على عتبة الموت ، فاكتسى وجهه المجهد نوع من الهدوء ،وارتعش جسمه الضامر ، ولم يسمع خطوات مقتربة منه ، ولا صوت حذر من أهل السوق ، وراح يدمدم بأشياء غير واضحة ، وعيناه نصف المغلقتين ، المعتمتين رأى فيهما العديد من ليالي بغداد بنجوم سماءها الساطعة ، وحاول أن يطلق صوتا ببطء ، ولكنه متعب جدا ( آه يا وطني ) .

5 . 2 . 2007