| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

السبت 7/6/ 2008



سيدة القصر

 حمودي عبد محسن

حدث هذا للمرة الأولى في بلد الحلم في الأزمنة الغابرة ، إذ القمر يظهر ، ويختفي بين الغيوم ، حيث وقفت سيدة القصر في شرفتها التي تشرف على بركة ماء خضراء ، تتعرج منها سواقي خضراء جميلة ، وقفت تتأمل الليل في الساعة التي فيها صاف ، والسماء موشومة بالنجوم ، ها هو ألق صامت من الذكريات المناوبة ، والمتبادلة ، تريد منها حياة أكثر تجريدا من واقعها في تموجات أحلام اليقظة . كان ذلك نموذجها الباهر ، والغامض الذي اقتيدت به ، ليلغي الإيحاءات الحزينة .

كان القمر قد نزل باسترخاء عبر الغيوم ، ودلف شرفتها ، بلا ضجيج ، وحط لونه على وجهها ، وضمها برقة في ضوئه حتى ظلت محتفضة برغبة ذرف الدموع ، ضوء القمر يضطجع عند قدميها وفي كل كيانها الوديع . في هذه الأثناء ، وفي انتشار فرحتها ، ، أخذ القمر يملأ الشرفة جوا لامعا ، وكان كل هذا النور الحي كأنما يفكر ، ويقو بخفوت : " ستحبينني " كانت تكابد قبلاته ، وطريقته في من يحب : الصمت ، الليل ، البركة الخضراء ، الماء المتعدد الأشكال ، الأزهار الوحشية ، العطور التي تسبب الفرح ، وكان يردد أيضا : "سأهيم بك لأنك ملكة الجمال ! فأنت جميلة ، بل أكثر من جميلة ! أنت مدهشة حيث يتلألأ الغيب بخفاء ، ونظرتك تنير الليل " . كان القمر مثير للحواس المعلقة في أعماق ليلة ، يتدافع فيها الغيم ، قمر هادئ ومحتشم ، يزورها في وقفتها البريئة ، وتحاول الغيوم أن تنزعه من السماء ، لتهزمه كأنها تجبره بالقوة على الرقص فوق العشب المرتعد .

تمنت سيدة القصر أن لا تكون هذه الليلة فانية ، بل كما أرادتها زاهية ، وهي في تأملها وحلمها الدنيوي ، فجأة جاءها صوت غريب . لم تر مصدره ، بقدر ما هو يراها ، إذ ليس هناك شئ أعمق ، وأخصب ، وأبهر منه ، لهو دوما أكثر أهمية مما يجري داخل القصر ، ففيه تعيش الحياة ، تتألم ، ثم تخلد إلى النوم فخورة ، بأنها عاشت ، وعانت في حيوات أخرى ، غير حياتها ، تشعر أنها تعيش ، وأنها موجودة ، وهي نفسها في الشرفة ، كانت تلقي نفسها على الصوت الشفاف الذي يسكن روحها ، حان الوقت أن تسمع هكذا صوت ، وحان الوقت أن ترى آخر نجمة ، لقد ولى سالف الزمان ، أن تغرف سيدة القصر بيديها النور ، ، هي الباقية في الليل ، بشعرها المتعب ، ونظرتها المنكسرة ، كانت تتحدث مع القمر ، أحست بالبرد ، التدفئة ! التدفئة ! هذه هي نفسها ! وهذه أنت ، أنت الباقية على قيد الحياة ، لم يعد لها ظل آخر ، هي نفسها ، التدفئة ! سالت الدموع على وجنتيها المحمرتين بعد أن أحصت النجوم ، ما الذي يبقى عليها أن تفعله في هذا الوقت الذي تحتاجه ، أشد ساعات الأسى ، فهي وحيدة في الشرفة ، لا أحد يمر ، ولا أحد يراها ، هكذا تحب عيناها الصافيتان من دون أن تعرف الحبيب ، فتحت ذراعيها ، وقالت أي صوت هذا ؟! صوت خلق سماوي ! الغيوم تنذر باختفاء القمر ، وسقوط المطر ، الليل قاسي ، وقارس ، آه ، همس الليل ، الأرض العطرة ! فخاطبت نفسها عبر تأملها : " إن كل هذه الأطياف لهي جميلة ! " أجل ، قد تمضي الغيوم ، وتتوارى ، إنها في الصمت الجزوع ، سماء شاحبة فوق الأرض ، لا زالت مخضلة بالدموع الذاعنة للقمر ، فلا يمكن أن تكون غير مكترثة أصلا ، فتريد عينه المنطفئة أن تضاء ثانية بمجد مسكون بإيقاع الصوت ناسية عصرها في ليلة تدوم أطول من الجمال ، فها هو الصوت يشدو قبالة شرفتها ، كما لو أن العزف يجري في حدائق قصرها ، جعلها منتشية ، وقد وهبها دندنة بكل بهجة ، نغمة شائعة تفتح قلبها لها ، مألوفة تجاري وقتها ، ترى من أين يأتي هذا الصوت ؟! كان يؤثر في نفسها ، فجعلها تذرف دموعا ، فهو ليس بيانو ، ولا كمان ، ولا الأرغن الجوال ، ولا العود الجذاب ، أنه يحبها هكذا ، ، وذاك السبب أن تسمعه بتلهف ، ورغبت في نظرة الغد الآتي ، تعالي ! تعالي ! غلقت التقويم القديم ، الذي لا تستطيع به الاضطلاع على نظرة الأمس البعيدة ، تعالي ! كانت تشعر بالحاجة إليه لتلغي مئات السنين التي مات فيها السفاحون ، وذويت أشياء كثيرة ، استهلاك صعب ، يبشر به السفاحون ، كانت شاردة الذهن ، أمن كلماتها يشدو الصوت ، أهذا صوتها ؟! كأنها جناح مسترسل ، وخفيف ، فكان الصوت ناطق " اليوم ليس أمس " ، ابتسمت متمنية أماني لطيفة ، ثم صمتت متمتمة بنبرة قادرة على الفرح ، : ( كل أشكال الحب تبحث عن نفسها في أغنية الأجناس ) .

هذا هو الزمان إذ نزل المطر على الأزهار ذات التويجات الساحرة ، والأشجار المتبرعمة ، ليخبرها بحلول الربيع بعيدا عن الحروب ، والدموع البيضاء ، والروائح الطيبة ، والعشب الندي ، وظهر قوس قزح ، فصلت له وهي في الحب الجديد ، ترفل بثوبها من البريسم والحرير ، وترتل معها الطيور ، وقد بلل المطر ثوبها العجيب المتناسق مع جسدها ، هذا مجد عمرها : موكب أجواق ، أفواج من المنشدين ، بيارق وهاجة ، كلها تسأل :
- تحبين من ؟!
فانبعثت من السماء بركة سماوية ، فتحت السيدة ثوبها ، وعرضت ثديها ، الناعمين ، إلى السماء ، وهي تقول : ( لا أحد أيها العالم يرى مثل هذه الليلة ) هذا ما قالته ، وراحت يداها ترتعشان ، تتصاعد حمرة في الخدين ، كانت تنظر ، وتسمع سقوط المطر بغزارة ، ليس رذاذ هذا الذي يسقط ، ليس مطرا فاترا هذا الذي يسقط ، الغمائم تفاجئ السماء ، برق ورعد ، هجوم ضار ، وعنيف ، كانت خائفة أن لا يتوقف المطر ، ولم يظهر القمر ، لا مفر للانفصال من المطر ، واجهت الصوت ، صوت العالم ، كانت ترى الأرض من شرفتها مظلمة ، و الأشياء كلها بعيدة عنها ، وبينما الغيم يتراكم ، والمطر يتكاثر ، فاضت البركة ، وزبدت ، وانحدرت على القصر ، وانسكبت على الأشجار ، وارتفعت المياه ، وأطلقت طوفان الليل ، وإذا بها تصلي لقوس قزح ، صرخة واحدة ، ويهدأ المطر ، ويبدأ الوئام ، من جديد بالوعد ، الوعد أنها تحب الصوت ، فغطت نهديها ،فهي جد عطشانة ، لا يشفي غليلها إلا الكأس المقدس ، المترع ، اختفت حدائق القصر ، والأشجار غاطسة ، تطفو فوق المياه الجارية ، وسوف يبدو القصر غريقا ، بكت ، وهي تواجه صوت العالم بحضورها ، ما لبث أن هب هواء بارد من السماء ، والغيوم مضطربة ، وضوء القمر قد خمد ، المطر كثيف كما لو أنه في ربيع غير مأمول ، أقل من الوقت تحتاجه ، أقل من الدموع تحتاجها لكي لا تموت ، والآن ، ماذا تقول في الموت ؟! ترى ، ما الذي بقي عليها أن تفعله ، الأسى يمر ، لا أحد يمر ، فتحت ذراعيها للنقاء ، لم تعد تستطيع السقوط من أعلى ، والريح تتمسك بالهبوب ، فتنزع كل شئ بلا روية ، الهيجان ، وهوس نحو مكان ذي سكينة تامة ، وهادئة ، وكابوسها مستمر ، وهي تنتظر نهاية الطوفان .

انتهت هذه الليلة الطوفانية حيث لم يعد ينزل المطر ، وكف هطوله المتصلب ، واختفى الدوي ، وانفتح العالم المغلق ، ما أن دفعت باب الغرفة حتى دخل النور ، خلعت ثوبها وأبدلته بآخر جاف ، وراحت لبرهة قصيرة تجلو عريها ، وخلدت للنوم وطوال الهزيع الأخير من الليل لم تغمض لها عين ، وهي تفكر ، ابتسمت ، وبأت تتلمس أطياف مختلفة عبر الصوت إلى أن باتت في نهاية المطاف متيقنة بأن الصوت كان صوتها هي .
 

7 \ 6 \ 2008

 


 

free web counter